الآيات المتشابهات والراسخون فى العلم[١]

قبساتٌ من فوائد الفقيه الشيخ العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.  سئل حفظه الله أنَّ من المعلوم أن الاختلاف فى معرفة الراسخين فى العلم للتأويل هل هو جائز أم لا مبنِىٌ على أن الواو فى قوله عز وجل (وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أهى للاستئناف أم للعطف فالأشاعرة يرجحون أن الواو للعطف لكن قال قائل إذا كان الراسخون فى العلم يشتركون مع الله فى العلم بالتأويل فما فائدة قولهم ءامنا به كل من عند ربنا.

الجواب

للعلماء فى الواو الواردة فى قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) قولان أحدهما أنها استئنافيه وقد قال بذلك جمعٌ من أهل العلم بكتاب الله عز وجل منهم حبرُ الأمة فى رواية عنه وابن مسعود وعائشة ومالك بن أنس فى ءاخرين.  والثانِى أنها عاطفة وقد قال بذلك أيضًا جمعٌ من أهل العلم بالقرءان منهم حبر الأمة كما فى رواية أخرَى عنه ومجاهد بن جبر والربيع فى ءَاخَرِينَ. ولعل اختلاف الرواية عن ابن عباس باختلاف الموضوع فقد اختلف العلماء فى معنى المتشابه على عدة أقوال منها أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة وهذا لا يعلم أحد تأويله والتأويل هنا بمعنى العاقبة.

وللعلامة الأندلسِىّ عبد الحق بن عطية رحمه الله كلام نفيس فى توضيح هذا الأمر خلاصته أن المتشابه نوعان نوع لا يُعلم ألبتة كأمر الساعة والروح وءاماد المغيبات التى قد أعلم الله بوقوعها قال رحمه الله وهذه المسألة إذا تؤمِّلت قرب الخلاف فيها من الاتفاق وذلك أن الله تعالى قسَّم ءَاىَ الكتاب قسمين محكمًا ومتشابهًا فالمحكم يستوِى فى علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح وءاماد المغيبات التِى قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ومنه ما يحمل على وجوه فى اللغة ومناحٍ فى كلام العرب فَيُتَأَوَّلُ تأويله المستقيم ويُزال فيه مما عسَى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله فى عيسى (وروح منه) إلى غير ذلك ولا يُسمَّى أحد راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قدر له وإلا فمن لا يعلم سوَى المحكم فليس يسمى راسخًا وقوله تعالى (وما يعلم تأويله) الضمير عائد على جميع متشابه القرءان وهو نوعان كما ذكرنا فقوله (إلا الله) مقتضٍ ببديهة العقل أنَّه يعلمه على الكمال والاستيفاء يعلم نوعيه جميعًا فإن جعلنا (والراسخون) عطفًا على اسم الله تعالى فالمعنى إدخالهم فى علم التأويل لا على الكمال بل علمهم إنما هو فى النوع الثانِى من المتشابه وبديهة العقل تقضِى بهذا والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول ما قام لنصرتِى إلا فلان وفلان وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك والآخر إنما إعانك بكلام فقط اهـ [٢]

وقد رجَّح المحقق ابن عاشور فى تحريره القول بالعطف  إذ الرسوخ فى العلم هو التمكن فى علم القرءان ومعرفة محامله، قال رحمه الله والمراد بالراسخين فِى العلم الذين تمكنوا فى علم الكتاب ومعرفة محامله وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ فى كلام العرب الثبات والتمكن فى المكان، يقال رسخت القدم ترسخ رسوخًا إذا ثبتت عند المشِى ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ ولا تتطرَّقه الأخطاء غالبًا وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون فى العلم الثابتون فيه العارفون بدقائقه فهُم يُحسنون مواقع التأويل ويعلمونه ولذا فقوله (والراسخون) معطوف على اسم الجلالة وفى هذا العطف تشريف عظيم كقوله (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) اهـ ثم قال ويؤيد الأولَ وَصْفُهُمْ بالرسوخ فى العلم فإنَّه دليل بَيِّنٌ على أنَّ الحكم الذِى أُثبت لهذا الفريق هو حكم من معنى العلم والفهم فى المعضلات وهو تأويل المتشابه، على أن أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفًا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأً وجملة (يقولون ءامنا به) خبرًا لكان حاصل هذا الخبر مما يستوِى فيه سائر المسلمين الذين لا زيغَ فى قلوبهم فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدةٌ. قال ابن عطية  تسميتهم راسخين تقتضِى أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذِى يَستوِى فى علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفى أى شىء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلمه الجميع؟! وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة مُعَدَّة اهـ

وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو أن يكون ترجيحًا لأحد التفسيرين وليس إبطالًا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله وما لا مطمع فى تأويله.

وفى قوله (وما يذكر إلا أولوا الألباب) إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.[٣]

وإليه ذهب الألوسِىُّ فقال ورُجِّح الأول بوجوه أما أَوَّلًا فلأنه لو أريد حظ الراسخين مقابلًا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أنْ يُقال وأما الراسخون فيقولون. وأما ثانيًا فلأنه لا فائدة حينئذٍ فى تقييد الرسوخ بل هذا حكم العالَمين كلهم. وأما ثالثًا فلأنه لا ينحصرُ حينئذٍ الكتابُ فى المحكم والمتشابه على ما هو مقتضَى ظاهر العبارة حيث لم يَقُلْ ومنه متشابهاتٌ لأنَّ ما لا يكون متضح المعنى ويهتدِى العلماء إلى تأويله وردِّه إلى المحكم لا يكون محكمًا ولا متشابهًا بالمعنى المذكور وهو كثير جدًا.  وأما رابعًا فلأن المحكم حيئذ لا يكون أمَّ الكتاب بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلًا. وأما خامسًا فلأنَّه قد ثبتَ فى الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال اللهم فقِّهه فى الدين وعلمه التأويل اهـ ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنًى. وأما سادسًا فلأن ابن عباس رضِى الله تعالى عنه كان يقول أنا ممن يعلم تأويله. وأما سابعًا فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر فى هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظَّ الأوفر من معرفة ذلك. وأما ثامنًا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته اهـ[٤]

هذا وقد اختار الفخر الرازِىّ وهو رأس فى المذهب الأشعرِىّ ويُعرف فى كتبهم بالإمام الوقفَ على لفظ الجلالة ودافع عنه فى مفاتيح الغيب واحتج له بستِّ حُجَجٍ نقتصر فى هذا المختصر على ذكر الحجة الأولى، قال رحمه الله والذِى يدل على هذا القول وجوه، الحجة الأولى أنَّ اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دلَّ دليلٌ أقوَى منه على أنَّ ذلك الظاهر غير مراد عَلِمْنَا أنَّ مراد الله تعالى بعضُ مجازات تلك الحقيقة وفى المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف فإذا كانت المسألة قطعية يقينية كان القول فيها بالدلائل الظنية ضعيفًا غير جائز مثاله قال الله تعالى (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ثم قام الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على مابينا فى البراهين الخمسة فى تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد  الله تعالى ليس ما يدل على ظاهر هذه الآية فلا بدَّ من صرف اللفظ إلى بعض المجازات وفى المجازات كثرةٌ وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية فوجب أن يكون القولُ فيها بالدلائل الظنية باطلًا وأيضًا قال تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) دلَّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله فى المكان فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشهر به ظاهرها إلا أن فِى مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن فى ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة فى المسألة اهـ

وبذلك تعلم أن الأشعرية لهم فى المسألة قولان تبعًا للسلف الصالح فى تفسير الآية وجريًا على ما يحتمله السياق اللغوِىّ من العطف والاستئناف وإن كان العطفُ أقوَى نظرًا وأوضحُ مرامًا كما حَقَّقَهُ الألوسِىُّ وابن عاشور.

أما الفائدة من قوله تعالى فى ختام الآية (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فَيُمْكِنُ إجماله فى الآتِى

١- إظهارُ كمال المعرفة للراسخين فى العلم والإشارةُ إلى أنهم ءَامَنُوا عن يقين جازم وعلم قاطع وأن إيمانهم ليس مجرد تسليم بلا معرفة ألا ترَى إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فهذه درجة زائدة على مجرد الإيمان بدليل واحد. ومن معانِى زيادة الإيمان عند العلماء الأثبات كثرة الدلائل والشواهد قال العلامة البيضاوِىّ فى معنى قوله تعالى (وأخر متشابهات) محتملات لا يتضح مقصودها لإجمالٍ أو مخالفةِ الظاهرِ إلا بالفحص والنظر ليظهر فيها فضلُ العلماء ويزدادَ حرصهم على أن يجتهدوا فى تدبرها وتحصيلِ العلوم المتوقفِ على استنباط المرادِ بها فينالوا بها وبإتعاب القرائح فى استخراج معانيها والتوفيق لما بينها وبين المحكمات معالِىَ الدرجات اهـ

٢- الاعتراف بالقصور الذى هو من سمات البشرية ولوازمها فالراسخون فى العلم يعترفون مع ما وصلوا إليه من حقائق المعرفة بأنهم لا يقدرون على إدراك كُنْه ذاته أو الإحاطة بكمالات صفاته ولذلك فهم لرسوخهم فى العلم يُرَدِّدُونَ بلسانَىِ الحال والمقال (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

٣- أنَّ المتشابه نوعان كما أشرنا إليه قبلُ فى كلام علامة الأندلس فهم يؤمنون بما علموا منه ويكِلون علم القسم الآخر إلى الله مع إيمانهم بأنّه من عند الله.

٤- أنَّ الإيمان واجب بالقرءان كله مُحْكَمِهِ ومُتَشَابِهِهِ بل بكل حرف من حروفه فمعنى الآية على هذا أن الراسخين مثل غيرهم بؤمنون بأن القرءان بقسمَيه المحكم والمتشابه من عند الله وهذا واضح جدًّا.

٥-أن التلاوة طاعة مندوب إليها مُثاب عليها مأجور فاعلها مطلقًا فقد روى ابن مسعود رضى الله عنه عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولا حرف وميم حرف اهـ أخرجه الترمذِىّ وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد نظم هذا المعنى شعرًا

جاء لكل حرف عشر حسنات     كذاك تمحَى عنه عشر سيئات

بــفـــــهمٍ او بــــغير فــــــــــهم يــــــــا فتى    هذا هو الفضــــــــــــــل من الله أتَى

والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.

[٢] انظر المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز ٣/٢١.

[٣] انظر التحرير والتحبير ٣/١٦٤-١٦٥.

[٤] انظر روح المعانِى ٣/٨٣.