المنتقَى من تفصيل الكلام فِى مسألة الإعانة على الحرام[١]

قبسات من فوائد عالم باكستان الفقيه المفتِى محمد شفيع بن ياسين العثمانِىّ
المتوفى ١٣٩٦ هـ سنة رحمه الله تعالى

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد فقد قال الله تعالى (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)([٢]) احتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم. أخرج عبدُ بن حميد وابن المُنْذروابن أبِى حاتم عن عبيد الله بن الوليد الوَصَّافِىّ أنَّه سأل عطاء بن أبِى رباح عن أخ له كاتب فقال له إن أخِى ليس له من أمور السلطان شىء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن تركَ قلمه صار عليه دينٌ واحتاج وإن أخذَ به كان له فيه غنى قال لمن يكتب قال لخالد بن عبد الله القَسْرِىّ قال ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) فلا يهتم أخوك بشىء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق اهـ

وأخرجَ ابن أبِى حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبِىّ الكاتب قال قال رجل لعامر يا أبا عمرو إنِّى رجل كاتب أكتب ما يدخلُ وما يخرجُ ءِاخُذُ رزقًا أستغنِى به أنا وعيالِى قال فلعلك تكتب فِى دمٍ يسفك قال لا قال فلعلك تكتب فِى مال يؤخذ قال لا قال فلعلك تكتب فِى دار تهدم قال لا قال أسمعت ما قال موسى عليه السلام (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) قال لقد أبلغت إلِىّ يا أبا عمرو والله عزَّ وجلّ لا أخطُّ لهم بقلم أبدًا قال واللهِ تعالى لا يدعكَ اللهُ سبحانه بغيرِ رزق أبدًا اهـ

وإذا صحَّ حديثُ (ينادِى منادٍ يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة حتى من لاق لهم دواةً أو برَى لهم قلمًا فيجتمعون فِى تابوت من حديد فيرمَى بهم فِى جهنم)([٣]) فَلْيَبْكِ مَن عَلم أنه من أعوانهم على نفسه ولْيُقْلِعْ عما هو عليه قبل حلول رمسه.

وحاصل المعنى حرمة الإعانة على المعصية ولكن العون والإعانة والتسبب لأمر شيء واسع يضيق عنه دائرة الحصر ولها درجات متفاوتة قربًا وبعدًا فإطلاق الحرمة على جميعها مطلقًا يُلحق بتكليف ما لا يطاق فإن مكاسب الإنسان كلها ينتفع بها كل إنسان برّهم وفاجرهم ولا يمكن التحرز عنه ألا ترى أن مَن صنع ثوبًا أو أوانِى أو شيئًا ءاخر من الحوائج الإنسانية لا بد أن ينتفع به برهم وفاجرهم وحينئذٍ لا بُدَّ من تفصيل فِى الكلام قد تصدَّى له الفقهاء رحمهم الله.

وظاهرُ كلامهم رحمهم الله فِى هذا الباب مضطربٌ وجزئياتُ الفتاوى فِى أمر الإعانة على الظلم والمعصية بظاهرها متعارضة

  1. فبعضها تقتضِى الجواز.
  2. وبعضها تصرح بالحرمة.
  3. وبعضها بكراهة التحريم.
  4. وبعضها بكراهة التنْزيه.
  5. قريب.
  6. وبعيد.
  7. قريب محرك.
  8. وقريب موصل غير محرك.
  9. وبعيد.

ولا يخفى على من أمعن النظر أنّ فِى الإعانة درجات متفاوتة واختلاف الأحكام بحسب اختلاف الدرجات، نعم، يشكلُ على الناظر فِى كلام الفقهاء تنقيحُ ضابطةٍ سالمةٍ عن النقض يُدارُ عليها الأحكام. فإذا استعرضت كلمات الفقهاء وجدتَ فيها نوعان من الاضطراب

الأول اختلافهم في حكم بعض الجزئيات كبيع الأمرد ممن يعصِى به.

والثانِى اضطرابهما فِى تنقيح الضابطة فِى أمر الإعانة.

والذِى ظهر لِى بفضل الله وكرمه فِى الفرق بينهما هو أن ما قامت المعصية بعينه هو ما كانت المعصية فِى نفس فعل المعين بحيث لا تنقطع عنه نسبتها بفعل ذلك الفاعل المختاروذلك بثلاث وجوه

الأول أن يقصدَ الإعانةَ على المعصية فإن مَن باعَ العصيرَ بقصد أن يتخذَ منه الخمر أو أمرد بقصد أن يفسقَ به كان عاصيًا فِى نفس هذا البيع بهذه النية والقصد وكذا مَن أجَّرَ بيتًا بقصد أن يباعَ فيه الخمرُ فقامت المعصية بعين هذه الإجارة مع قطع النظر عن فعل فاعل مختار لاقتران هذه النيّة كما مرَّ مُصَرَّحًا فِى الأشباه وحظر ورد المحتار.

والثانِى بتصريح المعصية فِى صلب العقد كمَن قال بعنِى هذا العصير لأتخذه خمرًا فقال بعته، أو أجر لِى بيتَك لأبيع فيه الخمر فقال: أجرته، فإنّه بهذا التصريح تضمَّن نفسُ العقد معصيةً مع قطع النظر عمَّا يحدث بعد ذلك من اتخاذه خمرًا وبيع الخمر فيه، وذلك لما فِى إجارات المبسوط للسرخسِىّ وإذا استأجر الذمِىّ من المسلم بيتًا ليبيع فيه الخمر لم يجز لأنه معصيةٌ فلا ينعقد العقد عليه ولا أجر له عندهما وعند أبِى حنيفة رحمه الله يجوز والشافعِىّ يجوِّز هذا العقد لأنَّ العقدَ يردُ على منفعةِ البيتِ ولا يتعيَّن عليه بيعُ الخمر فله أن يبيعَ فيه شيئًا ءاخر يجوِّز العقد لهذا ولكنا نقول تصريحهما بالمقصود لا يجوِّز اعتبار معنًى ءاخر فيه وما صرحا به معصية اهـ مبسوط/ج١٦ ص٣٨.

قلتُ وقول أبِى حنيفة له الأجر لا يستلزم أيضًا جواز هذا الفعل بمعنى رفع الإثم بل ظاهر اللفظ بمعنى تصحيح العقد فقط كما صرَّح به فِى عبارة الأصل فجاز.

والثالث بيعُ أشياء ليس لها مصرف إلا فِى المعصية فيتمحضُ بيعها وإجارتها وإن لم يصرَّح بها.

ففِى جميع هذه الصور قامت المعصية بعين هذا العقد والعاقدان كلاهما ءاثمان بنفس العقد سواء استعمل بعد ذلك فِى المعصية أم لا سواء استعملها على هذه الحالة أو بعد إحداث صنعة فيه فإن استعملَها فى المعصية كان ذلك إثمًا ءاخر على الفاعل خاصّة.

ولك أن ترجعَ الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد وهو القصد والنية.

فإن القصدَ فِى الوجه الأول موجودٌ صراحة وفِى الثانِى والثالث حكمًا ومعنًى كما قد عرفت أن التصريح باللفظ يقوم مقام النيّة شرعًا فِى عامة المعاملات من النكاح والطلاق والعتاق والبيوع وأمثالها فإذا صرَّحَ لفظًا كان كمَن نوى قصدًا وكذلك المحلّ إذا تخصَّصَ لفعل المعصية قامَ تداوله مقامَ قصد المعصية حكمًا وعلى هذا اتفقت كلماتُ القوم كلُّها فإن مَن قال إن المدار على قيام المعصية بعينه أو بغيره رَجَعَ قولُه إلى مَن قال إن المدار على القصد والنيّةكما قد عرفت ولله الحمد.

فهذا تصويرُ ما قامت المعصية بعينه وما ليس كذلك لم تقم المعصية بعين فعل المعين وسائرُ الجزئيات المذكورة من بيع العصير والأمرد والجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيّارة وإجارة البيت لبيع الخمر أو اتخاذه بيت نار أو كنيسة وإجارة نفسه أو دابته لحمل الخمر وأمثاله ومثله بيع الأسلحة من أهل الفتنة كلُّها داخلة فِى هذا القسم أعنِى ما لم تقم المعصية بعينه بشرط أن لا ينوِىَ بها معصية ولا يصرِّح بها فى العقد ولا يتمحضُ استعمالها فِى المعصية كما قلنا.

وعلى هذا فخرجت هذه الجزئيات كلها من باب الإعانة على المعصية حقيقة، ومن ثم أطلقَ الفقهاءُ رحمهم الله تعالى فيها لفظ الجواز بمعنى صحة العقد مع كون الإعانة على المعصية حرامًا بنصِّ القرءان.

لكن هناك معنى ءاخر يقارب معنى الإعانة وهو التسبب وهو أيضًا لا يخلو عن حرمة وكراهة إذا كان سببًا للمعصية كما سيأتي تصريحُه من شرح السير.

وتفصيله على ما أدَّى إليه نظرِى والله الموفق والمعين أن الإنسانَ إذا صار سبباً لخيرٍ أو شرٍّ يحتسب له تدلُّ عليه نصوصُ القرءان والسنّة لقوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) وقال تعالى (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) على تفسير مَن قال إن الآثارَ هِى ثمراتُ الأعمالِ المترتِّبة عليها بعد الأعمال الجارية إلى ما شاء الله كالصدقات الجارية.

وقال صلى الله عليه وسلم مَن سنَّ سنةً حسنةً كان له أجرُ مَن عَمِلَ بها أو كما قال عليه السلام.

وقال تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) فنهى اللهُ سبحانه عن سَبِّ ءالهة المشركين الباطلةِ حذرًا أن يكون سببًا لسبِّ الإله الحقِّ جلَّ وعلا شأنه.

وقال الله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض) ولها أمثالٌ فِى الكتاب والسنة.

فالتسبب للخير يفيدُ الثواب نوَى أو لم ينو كما ورد فِى الحديث لغارس الشجر أى بقصدٍ حسنٍ إن له أجرًا بكل طائر أخذ من ثمره شيئًا وبكل من استظل بظله وظاهرٌ أن الغارس لم ينو أن يأكل منها الطائر وكذلك مَن كان سببًا لشر أى من نحو سنِّ السنةِ السيئة كان عليه وزر ذلك نوى أن يتبعه من بتعه فى ذلك أو لم ينو فعلم أن كون المرء سببًا لخير أو شر يحتسب له أو عليه ولا يشترط فيه النيّة.

ثم السبب على قسمين

ثم القريب على قسمين

سبب محرك للمعصية بحيث لولاه لما أقدم الفاعل على هذه المعصية كسبّ ءالهة الكفّار بحيث يكون سببًا مفضيًا لسبّ الله سبحانه وتعالى ومثله نهِىُ أمهات المؤمنين عن الخضوع فِى الكلام للأجانب ونهِىُ النِّساء عن ضرب أرجلهن لكون ذلك الخضوع وضرب الأرجل سببًا جالبًا للمعصية وإن خلا عن نيّة المعصية كما هو ظاهر عن شأن أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين.

وسببٌ ليس كذلك ولكنه يعين لمريد المعصية ويوصله إلى ما كان يهواه كإحضار الخمر لمن يريد شربه، وإعطاء السيف بيد مَن يريد قتلاً بغير حقّ، ومثلها سائر الجزئيات المذكورة سابقًا فإنها ليست أسبابًا محركةً وباعثةً على المعصية، بل أسباب تعين لباغي الشرِّ على شرِّه.

فهذه ثلاثة أقسام للسبب

فالقسم الأول من السبب القريب حرامٌ بنصِّ القرءان قال تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)([٤]). روى ابن جريرعن ابن عباس رضي الله عنه أن المشركين قالوا (يا محمد لتنتهينَّ عن سبِّك ءالهتنا أو لنهجونّ ربّك فنهاهم الله تعالى أن يسبّوا أوثانهم).

ولا يشكل عليه قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وأمثالها من الآيات التي تتضمن على تنقص ءالهتهم فإن السبَّ ذكرُ المساوئ لمجرد التحقير والإهانة وما في هذه الآيات إنّما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وبينهما بون بعيد، نعم يدخل فيه تلاوة أمثال هذه الآيات خاصّة في وجود الكفار على قصد السب والإغاظة فإنّها ممنوعة أيضًا كما فِى روح المعانِى.

وفيه أنَّه يستدل بهذه الآية على أن الطاعةَ إذا أدت إلى معصية راجحة وجبَ تركها فإن ما يؤدِّى إلى الشرِّ شرٌّ.  

ويؤيدُه حديث مسلم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال (إن أكبرَ الكبائر أن يشتمَ الرجلُ والديه قال وكيف يشتمهما يا رسول الله قال يشتم أبا الرجل).

ومثله قوله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا) فإن الخضوعَ بالقول سببٌ محرك للفتنة بحيث لو كفَّ عنه كفَّ عن الابتلاء بها فنهى الله سبحانه وتعالى عنه وجعله معصيةً لهذا السبب.

ومثله قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآيةفإن تبرج النساء للرجال سببٌ محركٌ للفتنة والمعصية وإن كُنَّ بمعزل عن قصدِها ونيَّتِها فالخضوعُ بالقول والتبرج للرجال إن كان بقصد الفتنة فهو معصيةٌ وإن عرى عن النية فهو معصية لكونها سببًا محركًا للفتنة.

فالسبُّ لآلهة الكفّار والخضوع بالقول من النساء والتبرج للرجال كلُّها سببٌ قريب للمعصيةِ ومحركٌ عليها فكان حرامًا بنصِّ القرءان. وجعله فِى الحديث المذكور أكبر الكبائر.

والقسم الثانِى من السبب القريب أعنِى ما لم يكن محرّكًا وباعثًا بل موصلًا محضًا فحرمته وإن لم تكن منصوصة ولكنه داخلٌ فيه باشتراك العلّة وهِى الإفضاء إلى الشر والمعصية ولهذا أطلق الفقهاء رحمهم الله عليها لفظ كراهة التحريم لا الحرمة كما فِى سائر الجزئيات المذكورة سابقًا فإنّهم قالوا إنّها تكره كراهة التحريم كما صرّح به فِى الخانية جزمًا واختارَه كثيرٌ من أرباب الفتوَى.

ومن أطلقَ عليه لفظ الجواز فيحملُ على جواز العقد بمعنى الصحّة دون رفع الإثم كما هو معهودٌ عند فقهائنا فِى مواضع لا تُحصَى كما يشير إليه كلام البدائع ومبسوط السرخسِىّ معزيًّا للأصل.

ومن هذا القبيل بيع الأسلحة لأهل الفتنة وأهل الحرب فإنه سبب قريب وصورة إعانة المعصية بحيث لا يحتاج فيها إلى إحداث صنعة بل تستعمل فِى المعصية بعينها وبحالتها الموجودة وقد صرَّحَ به فِى السير الكبير حيث قال فإن اشتروا دورًا للسُكنَى فأرادوا أن يتخذوا دارًا منها كنيسة أو بيعة أو بيت نار يجتمعون فيه لصلواتهم مُنعوا من ذلك ولا ينبغِى لأحد من المسلمين أن يؤاجرهم بيتًا لشىء من ذلك لما فيه صورة الإعانة إلى ما يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين فإن ءاجرَهم فأظهروا شيئًا من ذلك فِى تلك الدار منعهم صاحبُ البيت وغيرُه من ذلك على سبيل النهِى عن المنكر وهو فِى ذلك كغيره ولا يفسخ عقد الإجارة بهذا بمنزلة ما لو ءَاجرَ بيتَه من مسلمٍ فكان يجمعُ الناسَ فيه على الشراب أو يبيع المسكر فيه فإنّه يمنعه من ذلك على سبيل النهي عن المنكر ولا تفسخ الإجارة لأجله اهـ  متن سير كبير من شرح السرخسِىّ له /ج3، ص255.

فهذا كلام الإمام محمد رحمه الله أفادَ أن إجارةَ البيت من الذِى يعلمبعد العلم بأنه يريد اتخاذه كنيسة ليست من الإعانة لأن المعصيةَ لم تقم بفعل المؤجِّر ولكنّه سبب قريب وصورة إعانة للمعصية فيكره لأجله.

وأيضًا أفادَ كلامه جواز الإجارة إذا لم يعلم بقصده وهذا هو التوفيق الحسن بين كلام المانعين كقاضِى خان والمجوزين كالزَّيْلَعِىّ وغيره بأن المنعَ عند العلم والجوازَ عند عدمه.

وأما السبب البعيد ففِى شرح السير الكبير ولا بأس بأن يبيعَ المسلمونَ من المشركين ما بدا لهم من الطعام والثياب وغير ذلك إلا السلاح والكراع والسبِى سواء دخلوا إليهم بأمان أو بغير أمان لأنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين ولا يحلّ للمسلمين اكتساب سبب تقويتهم على قتال المسلمين وهذا المعنى لا يوجد فى سائر الأمتعة اهـ

وفيه أيضًا ولو أصاب المستأمن معدن حديد فِى دار الحرب فإنه يكره له أن يعمل فيه ويستخرج منه الحديد إذا كان يؤخذ منه بثمن أو بغير ثمن لأن الحديد أصل السلاح فالحكم فيه كالحكم في عمل السلاح اهـ

فتنقيح الضابطة فِى هذا البابعلى ما مَنَّ به علِىّ ربِىّ

أن الإعانة على المعصية حرامٌ مطلقًا بنصِ القرءان أعنِى قوله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وقوله تعالى (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) ولكن الإعانة حقيقة هِى ما قامت المعصية بعين فعل المعين ولا يتحقق إلا بنيّة الإعانة أو التصريح بها أو تعينها فِى استعمال هذا الشىء بحيث لا يحتمل غير المعصية وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة بل من التسبب ومَن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تَجَوَّزَ لكونه صورة إعانة كما مرَّ من السير الكبير.

ثمّ السببُ إن كان سببًا محرّكًا وداعيًا إلى المعصية فالتسبب فيه حرام كالإعانة على المعصية بنصّ القرءان كقوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وقوله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) وقوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ) الآية وإن لم يكن محرِّكًا وداعيًا بل موصلًا محضًا وهو مع ذلك سبب قريبٌ كبيع السلاح من أهل الفتنة وبيع العصير ممن يتخذه خمرًا وبيع الأمرد ممن يعصِى به، وإجارة البيت ممن يبيع فيه الخمر أو يتخذها كنيسة أو بيت نار وأمثالها فكلُّه مكروه تحريمًا بشرط أن يعلمَ به البائعُ والآجر من دون تصريح به باللسان فإنّه إن لم يعلم كان معذورًا وإن علم وصرّح كان داخلاً في الإعانة المحرمة.

وإن كان سببًا بعيدًا فيُكره تنْزيهًا.

وبهذا التنقيح اندفع التدافع والاضطراب عن كلمات الفقهاء بأسرها.

فإن مَن قال بكراهة بيع الجارية المغنية أو الأمرد ممن يعصِى به وأمثاله فقد أصاب حيث أدخله فِى السبب القريب الموصل إلى المعصية.

ومَن قال بجوازها أرادَ جوازَ العقد بمعنى الصحّة لا الجواز بمعنى رفع الإثم، وهذا وإن خالفه كلمات بعض المحشِّيين ولكنه مؤيّدٌ منصورٌ بكلام الأئمة كـالأصل للإمام محمد رحمه الله والبدائع وغيره.

وكيف وقد جعل التسبب شتم الوالدين من أكبر الكبائر فِى الحديث المذكور.

ومَن صرَّح برفع الإثم أيضًا كما فِى عبارة المبسوط المذكور أولًا فهو مقيّدٌ بما إذا لم يعلم أن شرائه أو استئجاره لفعل المعصية قصدًا كإجارة البيت من الذمِىّ أو الفاسق فإن الإجارة وقعت على نفس السكنَى قصدًا ولا إثم فيه ثمّ إن صلّى فيه الذمِىّ على مذهبه أو عمل فيه الفاسق بالمعاصِى فكان ذلك تبعًا أو لعدم علم البائع والمؤجر بقصد المشترِى والمستأجر كما يدل عليه كلام السير الكبير المذكور.

وكذلك من قال إن المناط فِى هذا الباب على النيّة كما فِى الأشباه ويؤيِّده بعضُ كلمات المبسوط ورد المحتار فهو صحيح فِى الإعانة فإنَّها لا تتحقق إلا بالنية غير أنه إن صرّح بلسانه سقطَ اعتبار النية كما فِى سائر العقود والمعاملات وكذا إذا تعيّنت المعصية مصرفًا له وهو لا ينافِى كونه مع عدم النيّة داخلًا فِى التسبب ومحظورًا أو مكروهًا لأجله فإن التسبّبَ يتحقق بدون النيّة وهو محظور وإن لم يقصد به المعصية.

ومن مال أن الضابط هو قيام المعصية بعينه وأراد به عين فعل المعين فقد أصاب فإن مرادَه الإعانة بفعل تقوم المعصية بهذا الفعل بحيث لا ينقطع نسبته عن المعين مع وقوع أصل المعصية عن فاعل مختار ءَاخر كما مرَّ تحقيقه.

ومَن قال أن المراد بقيام المعصية بعينه هو قيامها بالمحلِّ الذِى هيّأه المعين بلا تغير وتصرّف وإحداث صنعة من العامل فذلك فِى التسبب وبيان لكونه سببًا قريبًا.

ومَن قال بكراهة التنزيه صراحة أو بصيغة لا ينبغِى فهو محمولٌ على السبب البعيد.

هذا ما أدَّى إليه نظرِى بعدما بذلت جهدِى فِى التنقير عنه.

وإنّما فعلت ما فعلت وأطنبت الكلام فيه لأمرين

الأول أنه أصلٌ كبيرٌ تتفرعُ عليه مسائل لا تحصَى وقد اشتدت الضرورة إلى هذه المسائل فِى هذه الأيام ولا سيما فِى بلاد تسلَّطَ عليها الكفّار والفجّار وملأوا الدواوين والمعامل والأسواق كلها بالمعاصِى والفجور حتى لا يجدَ المُتَدَيِّنُ سبيلًا إلى الكسب الحلال يخلو عن الإعانة والتسبب للمعصية وإلى الله المشتكَى.

والثانِى لوقوع الاضطراب الشديد فِى ظاهر كلام الفقهاء فِى هذا الباب فجاء بحمد الله يروِى الغليل ويشفِى العليل والله سبحانه وتعالى حسبِى ونعم الوكيل.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع رسالة تفصيل الكلام فى مسألة الإعانة على الحرام للمفتِى محمد شفعيع العثمانِى رحمه الله تعالى.

[٢] من سورة القصص، الآية (١٧).

[٣] عن أبي هريرة رضي الله عنه في الفردوس١: ٢٥٥.

[٤] من سورة الأنعام، الآية (١٠٨).