البيان .. والطريق المهجور[١]

قبسات من فوائد الشيخ محمود محمد الطناحِىّ
المتوفى سنة ١٤١٩ هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله سلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فإنّ من أجلِّ نِعم الله على عباده نعمة البيان. وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة فذكرها فِى أشرف سياق فقال تقدست أسماؤه فى سورة الرحمن {الرحمن (١) علم القرآن (٢) خلق الإنسان (٣) علمه البيان (٤)}.

وليس المراد بالبيان فيما سنتكلم عنه مجرد الكشف عما فى النفس لقضاء الحاجات واتصال مصالح العباد لأن الكشف عما فى النفس يؤديه الكلام وهيئة الحال والإشارة والعلامة. وليس المراد أيضًا بالبيان مطلَقَ الكلام لأن هذا مما يستوى فيه الناس جميعًا ولا يفضل بعضهم بعضًا فيه إلا بما يكون من سلامة مخارج الحروف واستواء النطق والبراءة من أسباب العِىِّ والحصر والحُبسة. لكن مرادنا بالبيان الإحسان فى تأدية المعانِى.

وقد مدحوا البيان وعظموا شأنه فقالوا البيان بصر والعِىُّ عمًى كما أن العلم بصرٌ والجهل عَمًى والبيان من نتاج العلم والعِىُّ من نتاج الجهل.

ووجوه الإحسان فى تأدية المعانى كثيرة، ومنادحها[٢] واسعة، ولا يكاد يظفر بها إلا من وُهِب لطافة الحس وخِفَّةَ الروح ورَحابة النفس.

ونحن أمة العرب أمة بيان وفصاحة ولغتنا معينةٌ على ذلك بما أُودع فيها من خصائص شعرية فى الحروف والأبنية والتراكيب، ثم هذه الثروة الهائلة من الأسماء والأفعال والمترادف والمشترك والأضداد. ولغتنا معينةٌ أيضًا على البيان والفصاحة بهذه القوانين الرحبة الواسعة من الحقيقة والمجاز، والسماحة فى تبادل وظائف الأبنية (كالذى يقال من مجىء فَعيل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول وبمعنى مُفْعِل) وتبادل وظائف الإفراد والتثنية والجمع ووقوع بعضها موقع بعض والتساهل فى التعبير عن الأزمنة كالتعبير عن الماضى بالمستقبل وبالمستقبل عن الماضِى (إذا اقترن بالفعل ما يدل على زمانه) ووقوع بعض حروف الجر مكان بعض وتذكيرُ ما حقُّه التأنيث وتأنيث ما حقه التذكير والحمل على المعنى والحمل على اللفظ وحرية التعامل مع الضمائر غيبةً وحضورًا (فيما يعرف بالالتفات) والتعويل على القرائن والسياق فى تخليص الكلام من كثير من الفضول والزوائد (وهو باب الحذف الذى يجعله بعض النحاة من باب شجاعة العربية وهو تعبير عجيب) إلى سائر قوانين اللغة وأعرافها.

ولقد تضوَّأت هذه اللغة العربية الشريفة على ألسنة الشعراء والخطباء شعرًا شجى النغم ونثرًا حلوَ الوَقْع فيما بقِى لنا من أدب الجاهلية ثم كان مجلى هذه اللغة العزيزة كلام ربنا عز وجل بما نزل به جبريل الأمين على خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فى هذا البيان الذى لا يطاوله بيان. ثم ألقى ربنا تباركت أسماؤه على لسان نبيه المصطفى بيانًا عاليًا ءاخر هو ما نطق به صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم فصاحة صافية المورد وبلاغة عذبةَ المَشْرَع ومنطقًا صائبَ الحُجَّة.

وكان البيان هدفًا يُسعى إليه، وغاية يشتد الناس فى طلبها، ومعيارًا يلجأ إليه النقاد فى الحكم على الكلام وإعطاء الأدباء حقهم من التقديم والتأخير. وتوالت الكتب فى هذا الطريق ككتب الأمالى والمجالس والمختارات والحماسات مع عناية ظاهرة باللغة والغريب تمثلت فى أمالى أبى على القالى ومجالس أبى العباس ثعلب.

ولم تكن كتب هذا اللون من التأليف قاصرة على الأدباء واللغويين فقط بل دخل فيها الحفّاظ والفقهاء أيضًا كالذى رأيناه من كتاب بهجة المجالس للحافظ ابن عبد البر والجليس لابن المعانِى وغيرهما.

وهكذا كان الأدب مَشْرعًا يرِدُهُ الناس جميعًا.

وغبرت أجيال ونشأت أجيال وطويت أيام ونُشرت أيام حتى كان العصر الحديث وجاء رجال ردوا الناس إلى أصولهم الأدبية وكشفوا عن تلك المناجم الغنية الضاربة فى التاريخ بعروقها فكان الشاعر محمود سامى البارودى ومختاراته، والشيخ حسين المرصفى والوسيلة الأدبية، والشيخ سيد بن على المَرْصفى ورغبة الآمل من شرح كتاب الكامل، وما قرأه على تلاميذه من شرح حماسة أبى تمام وبعدهما كان الشيخ حمزة فتح الله وكتابه الجيد المواهب الفتحية، فكانت هذه الآثار كلها زادًا ومددًا للجيل التالِى.

وفيما يتصل بالبيان كان هناك اسمان كبيران مصطفى صادق الرافعِى ومصطفى لطفِى المنفلوطِى وقد شق علينا الرافعى فى أول الأمر ووجدنا فى المنفلوطى وإلى جانبهما كان محمد صادق عنبر والزيات ومع ذلك فإن سائر الأدباء والكُتّاب لم يكونوا بعيدين عنها لأن حسن البيان وتجويد العبارة كانا لازمين لكل كاتب يريد لكتابته أن تُقرأ ولكل مفكر يريد لأفكاره أن تذيع.

وكذلك سائر الكتاب والأعلام ممن لا يصنفون مع الأدباء كانوا أصحاب فصاحة وبيان فمكرم عبيد السياسى الشهير والمحامى الجهير كان أديبًا وصاحب بيان، ثم كان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم. وفتحى رضوان المحامى الضليع وأحد أقطاب الحزب الوطنى كان كاتبًا صاحب بيان، والدكتور أحمد عمار طبيب النساء الشهير كان لغويًا صاحب بيان، والدكتور محمد كامل حسين طبيب العظام الشهير كان أديبًا صاحب بيان، وهو صاحب القصة الشهيرة فى الخمسينات قرية ظالمة، والدكتور محمد الصياد الجغرافى الكبير كان شاعرًا صاحب بيان، وسيد إبراهيم الخطاط العظيم كان شاعرًا صاحب بيان، والدكتور حسن حبشى عالم التاريخ شاعر وصاحب بيان، والدكتور محمد يوسف حسن الجيولوجى الكبير وعميد كلية العلوم بجامع الأزهر سابقًا وعضو مجمع اللغة العربية الآن أديب يحفظ شعر أبى العلاء حفظًا عاليًا وله فى اللغة نظراتٌ جيادٌ نسعد بها فى لجنة المعجم الكبير بالمجمع.

ومن وراء هؤلاء طوائفُ لا تُحصى من الأدباء المجيدين الأغفال[٣] أصحاب البيان, كنتَ تقرأ لهم فى الصحيفة اليومية والمجلة الأسبوعية، ثم كنتَ تراهم فى فصول المدارس الابتدائية والثانوية، يَرُوضون صغارَ التلاميذ على البيان، ويجمعون لهم عناصر موضوع الإنشاء الذى صار الآن التعبير ولا تعبير هناك ولا عبارة، ثم كانوا يخوضون بهم لُجَج بحار الشعر والنثر فيما كان يُعرف بالمحفوظات والمطالعة.

وقد ذهبت تلك الأيام بحلاوتها ونضارتها وصرنا إلى هذا الزمان الذى زهد الناس فيه فى حسن البيان وهجروا طريقه هجراً يوشك أن يكون تامًا وأصبحت أساليب كثير من الكُتاب ومن ينتسبون إلى الأدب الآن تدور فى فلك ألفاظ مستهلكة تشبه العُمْلة المعدنية الممسوحة، أو العُمْلة الورقية التى تهرَّأت أطرافها من كثرة ما تداولتها الأيدي، أو كالعملة الزائفة التى ليس لها رصيد فى مَصرِف النَّفْس، وإنما هى ألفاظ وتراكيب تسوَّد بها الصُّحُف، تروح وتجىء، تتجاوزها عينك على عجَل، لا تقف عندها، لأنك لا تجد فيها إمتاعًا، ولا تحس معها أُنسًا، فضلًا عما تجده فى بعضها من ثقل وغَثَاثة[٤]، تكاد تُطْبِق على القلب وتَسُدُّ مجرَى النَّفَس وما أمر الزَّخَم منك ببعيد[٥].

وهذه الألفاظ والتراكيب التى يستعملها بعض أدباء هذا الزمان، أشبه بتقاليع (الموضة) تظهر ثم تختفِى، لا تعرف ثباتًا ولا استقرارًا. فقد كنا نسمع فى الستينات بالوَحْدة الموضوعية والمعاناة وعُمق التجربة والخلق وتراسُل الحواسّ والمونولوج الداخلِى والدَّفْقة الشُّعورية والتعبير بالصورة والألفاظ الموحية والشعر المهموس... والآن نسمع الإبداع وتكثيف التجربة والزَّخَم (والعياذ بالله) والطَّرْح والمنظومة والإشكالية والتناص والتماهِى والتفجير والتفكيك... وهذا وأشباهه إنما هو ترجمةٌ تَرُوق بلا معنى واسمٌ يَهُول بلا جسم فإذا سمع الغُمْر أى الجاهل والحدَث الغِرُّ قوله الكون والفساد وسمع الكِيان راعه ما سمع فظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة فإذا طالعها لم يحل[٦] منها بطائل اهـ أو كما قال أبو السعادات ابنُ الشَّجَرِى تهاويلُ فارغةٌ من حقيقة اهـ ولا يَغُرَّنَّك أيها القارئ المبتدئ اجتماعُ الكُتَّاب على هذه الألفاظ وكثرة استعمالهم لها فإن الاستعمال ليس بدليل على الحُسْن كما يقول ضياء الدين ابن الأثير فى المثل السائر.

إن كثيرًا مما يُكتب الآن لا صلة له بالعربية إلا صورة الحروف والأبنية من الأسماء والأفعال أما روح العربية وآمادها الرحبة الواسعة فلا تكاد تجدها فى أسلوبٍ مما تقرأ ولا فى كلام مما تسمع.

إنى أحس أحيانًا أن هؤلاء الذين يكتبون أدبًا عربيًا لم يمروا بالقرآن ولا بالبيان النبوِى ولا بكلام العرب فإن ثروتهم اللفظية محدودة جدًا وتصرُّفهم فى وجوه الكلام قصير الخَطْو منقطع النَّفَس، ولذلك تأتِى معانيهم هزيلةً خفيفة لأن ضيق الألفاظ يؤدى إلى ضيق المعانِى.

وقد قيل قديمًا الأصل فى ذلك أن الزنادقة أصحاب ألفاظ فى كتبهم وأصحاب تهويل لأنهم حين عَدِموا المعانى ولم يكن عندهم فيها طائل مالوا إلى تكلُّف ما هو أخصرُ وأيسرُ وأوجزُ كثيرًا اهـ

إن الذين يَشكُون الآن من الأغانِى الهابطة لا ينبغِى أن ينسوا أن هذه القضية مرتبطة بألوان الأدب الأخرى، وأن البيان كله من باب واحد. وإن كلام الناس يَنزِع بعضُه إلى بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض كما قال ابن الرومِى (وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض) اهـ ولن تجد مع كثرة الغبار إلا قذى العيون.

وللكلام تتمة.

 


[١] المرجع مجلة الهلال المصرية شوال ١٤١٦ هـ مارس ١٩٩٥م ثم جُمع فى مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحِىّ.

[٢] جمع مندوحة أى الفسحة والسعة.

[٣] أى المجهولين المنسيين ومن لا ذِكْرَ لهم.

[٤] الغثاثة الهزل والرداءة.

[٥] يقصد الطناحِىّ استفحال استخدام أولئك الذين أشار إليهم (كثير من الكتاب ومن ينتسبون إلى الأدب) كلمة الزَّخَم يعنون بها الاحتشاد أو النشاط أو قوة الدفع وما إليها فى سياقات الثقافة والأدب والفن والسياسية والاجتماع فى حين يرتدُّ إيقاعها ومعناها الأصلِىُّ إلى النَّتَن والرائحة الكريهة.

[٦] يقولون لم يَحْلَ بطائل أى لم يظفر ولم يستفد منه كبير فائدة ولا يتلكم به إلا مع الجَحْد والنفِى وفعله يائىُّ لا واوِىّ.