التبرع بالعضو من الحِىّ ليزرع فى جسم إنسان ءاخر[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم أما بعد فإنَّ استئصال العضو من إنسان حِىٍّ فى حياته بإذنه وموافقته على وجه التبرع ليزرع فى جسم إنسان ءاخر مضطر إليه حالةٌ مستجدةٌ لم يعرفها الفقه الإسلامِى وليس فِى تراثه نصوص ونوازل بهذه المواصفات تدل على جوزاها أو منعها صراحة فكان من نتيجة ذلك أن ظهر تياران جديدان فِى الفقه المعاصر.

الأول يجيز ذلك ولا يرَى به بأسًا، وهو تيار يكثرة أنصار ومؤيدوه[٢] بل بالغ بعضهم فجعله من فروض الكفاية على جماعة المسلمين كما دعا بعض المفتين أولياء الأطفال المرضَى الميؤوس من حياتهم إلى التبرع بأعضائهم لمن يحتاج إليها من المرضَى بدعوَى أنهم ميؤوس من عيشهم وبقائهم على قيد الحياة!! وادعَى بعضهم أنها صدقة جارية!!! وهِى فتاوَى أسست على

١- قاعدة الأصل فِى الأشياء الإباحة.

٢- مبدأ التعاطف والتراحم بين أفراد الأمة كما جاء فِى فتوَى الشيخ عبد الرحمن السعدِى السعودِىّ وإنَّ هذا العمل جاء على أصل الإسلام فِى التراحم والتعاطف والحَثِّ على إنقاذ النفوس من الهلاك.

٣- أن فيه مصلحة كبيرة للمريض وإعانة خيرة كما جرَى فِى فتوَى المجمع الفقهِى لرابطة العالم الإسلامِى التِى جاء فيها ما يلِى (إن أخذ عضو من جسم إنسان حِىّ وزرعه فِى جسم ءاخر مضطر إليه لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل جائز لا يتنافَى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه وهو عمل مشروع وحميد).

٤- مبدأ الإحسان والإيثار الذِى يحث عليه الإسلام ومدح الله تعالى المؤثرين على أنفسهم وأنزل فِى ذلك قرءانًا يُتْلَى وينوه بهم وإذا كان هذا شرف المؤثرين على أنفسهم بالمال فكيف يكون الأمر بالنسبة للمؤثرين على أنفسهم بأعضائهم كما بَرَّرَتْ لجنة الإفتاء التابعة للرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.

إلا أنه بالرغم من هذه المبررات في الجملة وكثرة الفتاوَى المؤيدة للجواز فإن هناك ملاحظات هامة على القول بجواز استئصال العضو البشرِى من إنسان حِىٍّ فِى حال حياته وزرعه فِى جسم ءاخر ينبغِى التذكير بها والمقارنة بينها وبين التبريرات التِى بُنيت عليها هذه الفتاوَى لمعرفة أيهما أحقّ وأولَى بالمراعاة عند إصدار الفتوَى وإعلان الحكم.

١- الملاحظة الأولَى أن الإنسان فِى نظر الإسلام بروحه وجسده وجميع أعضائه ملك لله تعالى وحده الذِى خلقه وصوره والإنسان فِى المنظور الإسلامِى لا يملك شيئًا من جسده وأعضائه ولكنه مؤتمن عليها مسؤول عن الحفاظ عليها وسلامتها ممنوع من التصرف فيها إلا فِى حدود المأذون له فيه شرعًا، لا يحل له قتل نفسه ولا بتر عضو من أعضائه[٣] ولا تعطيل منفعة من منافعها ولا تعريضها لذلك حتَى فِى عبادته لله مالكه منعه من التعبد المؤدِى إلى الهلاك أو تلف عضو من أعضائه فحرم عليه الصوم والتطهر بالماء وأوجب عليه فطر رمضان والتيمم والمسح على الجرح والجبائر إذا كان الصوم أو استعمال الماء يُؤَدِّى إلى الهلاك أو شديدِ أذًى كما قال تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[٤] (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا)[٥] واستأذنَ الصحابة رسول الله صلى عليه وسلم في الاختصاء خوفًا من الزنا حين لم يجدوا سبيلًا إلى النكاح فنهاهم أشد النَّهْىِ روَى الطبرانِىّ بإسناده عن عثمان بن مظعون أنه قال يا رسول الله إنِى رجل يشق علىّ العزوبة فَأْذَنْ لِى فِى الخصاء قال لا اهـ[٦]. وروى البخارِىّ عن عبد الله قال كنا نغزوا مع رسول صلى الله عليه وسلم وليس لنا شىء فقلنا ألا نستخصِى فنهانا عن ذلك[٧] اهـ وفيه عن أبِى هريرة رضِى الله عنه قال قلتُ يا رسول الله إنِى رجل شاب وأنا أخاف على نفسِى العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عنِى ثم قلت مثل ذلك فسكت عنِى ثم قلت مثل ذلك فسكت عنِى ثم قلت مثل ذلك فقال النبِىّ صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة جفَّ القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر[٨] اهـ

وإذا كان الإنسان لا يملك شيئًا من أعضائه وجسده فكيف يصح القول بجواز التبرع بالأعضاء والوصية بها أو بيعها لأن من لا يملك الشىء لا يجوز له التصرف فيه بتبرع ولا غيره.  والإيثار المحمود الذِى أثنَى الله على أصحابه هو إيثار الإنسان غيره بما يملكه وتقديمه على نفسه أما التبرع بما لا يملك اعتداء على ملك الغير بعيد عن حقيقة الإيثار الشرعِى لا يحل ولا يجوز.

وقد يجادل البعض فَيَّدَعِى أن الإنسان يملك نفسه وجسده ويحق له التصرف فيه بما شاء كما يقول الإباحيون وقد يذهب البعض إلى الاستدلال بقوله تعالى حكاية عن موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)[٩] وهو خطأ وسوء فهم للآية فإن الملك فِى الشريعة الإسلامية أنواع ثلاثة

١- ملك الرقبة كما فِى قوله تعالى (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ).

٢- ملك المنفعة دون الرقبة كما فِى ملك منفعة المكتريات.

٣- ملك الانتفاع كما فِى ملك انتفاع المريض بالسرير الذِى يمرض فيه والطالب بالبيت الذِى يسكنه بالحِىّ الجامعِىّ.

والمقصود بالملك فِى الآية ملك المنفعة لا ملك الرقاب والذوات بدليل

١- قوله (وأخِى) فإن موسَى لا يملك رقبة أخيه قطعًا كما يملك الإنسان متاعه.

٢- أن الملك من الأمور النسبية التِى لا تقوم إلا بين اثنين مالك ومملوك والمالكية والمملوكية ضدان لا يجتمعان فلا يكون الإنسان مالكًا لنفسه مملوكًا لها ولهذا يقول الفقهاء إذا اشترَى العبد نفسه خرج حرًا لأنه لا يملك نفسه.

٣- إن من خصائص الملك صحة التصرف فِى المملوك بالانتفاع به أو أخذ العوض عنه أى بيعه كما قال ابن عرفة فِى تعريفه هو استحقاق التصرف فِى الشىء بكل أمر جائز فعلًا أو حكمًا لا بنيابة[١٠] وكما عرفه القرافِىّ بأنه استباحة شرعية فِى عين أو منفعة تقتضِى تمكين صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هِى كذلك.[١١]

ولا شك أن موسى عليه وعلى نبينا السلام ليس له بيع نفسه ولا بيع أخيه وهو دليل على أن الملك فِى هذه الآية ليس المراد به ملك الرقبة والذات.

وقد يستدل بعض ءاخر بأنَّه فى حال الجناية على بدنه يكون له الحق فِى القصاص والعفو وأخذ العوض حسب الجناية من عمد أو خطإ وذلك دليل على أنه يملك جسده وأعضاءه والجواب أنه لا يملك شيئًا من أعضائه للأدلة السابقة ولكنه مؤتمن عليها موكل على حفظها ورعايتها والنظر فِى أمر الجناية عليها فإعطاؤه الحقَّ المذكور فِى حال الجناية على بدنه ليس بالأصالة بل بتفويض من الله تعالى المالك الواحد لجسده وأعضائه كما قال تعالى (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)[١٢] فهذا الحق هو بجعل من الله وتفويض منه لا بالأصالة والاستحقاق الذاتِى كما قال تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[١٣] ويؤكد هذا

١- أن شريعة موسى عليه وعلى نبينا السلام ليس فيها إلا القصاص وشريعة عيسى ليس فيها إلا العفو دون القصاص والدية، والشريعة الإسلامية هِى التِى فيها القصاص والعفو والدية كما قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)[١٤] فاختلاف الشرائع فِى حكم الجناية على البدن دليلٌ على أن الإنسان لا يملك بدنه وإنَّما الذِى يملكه هو الله خالقه وصانعه وهو الذِى يأذن للإنسان فِى التصرف فيه والنظر فِى أمر الجناية عليه كما يشاء مالك البدن بالقصاص أو العفو أو الدية لا كما يريد صاحب البدن.

٢- وأنه فِى حالة القتل غيلة أو حرابة لا يحق لأحد العفو عن القاتل ولا أخذ الدية منه لا لأولياء القتيل ولا للإمام.

٣- وأنه فِى حالة العمد يعاقب الجانِى بالسجن ولو عفا عنه المجنِىّ عليه أو وليه.

ويرَى بعضٌ ءاخرُ أن بدن الإنسان فيه حقّ لله وحقّ للعبد وهذا بالرغم من عدم قيام الدليل عليه ومناقضته لنصوص القرءان الدالة على أن لله ما فِى السماوات وما فِى الأرض ملكًا خالصًا والمملوك لا يمكن أن يشارك مالكه فِى ملكه وعلى تسليم أن للعبد حقًا فِى بدنه مع الله فإن ذلك لا يبرر حقّ التبرع بالأعضاء لأن الشريك لا يحق له التصرف في حقّ شريكه.

ومِن أغرب ما قيل في الموضوع ما سمعته من بعض المحاضرين وهو يدافع عن حقّ الإنسان في التبرع بأعضائه أن بدن الإنسان ملك لله أوملك للإنسان أو ملك للمجتمع وهو نوع من الشرك شر من شرك المشركين والعياذ بالله تعالى.

٢- الملاحظة الثانية أنه يتنافَى مع اتفاق الفقهاء على أنه لا يجوز الإجهاز على منفوذ المقاتل المستحيل عيشه وحياته وهو أمر مجمع عليه بينهم إلا أنهم اختلفوا فيمن أنفذ مقاتل شخص وأجهز عليه ءاخر فهناك من يرَى أنه يقتل به الأول الذِى أنفذ مقاتله لأنه لا يعيش بعد ذلك ويعزر الثانِى وهناك من يرَى العكس يقتل به الذِى أجهز عليه ويعزر الذِى أنفذ مقاتله وهو الأول[١٥].  وجاء فِى الفتاوِى الهندية (فِى الذِى شق بطن رجل وأخرج أمعاءه ثم ضرب رجل ءاخر عنقه بالسيف فإن كان لا يعيش ولا يتوهم من الحياة معه ولا يبقى معه إلا اضطراب الموت فالقاتل هو الذِى شق البطن ويقتص فِى العمد وتجب الدية فِى الخطإ والذِى ضرب العلاوة يعزر)[١٦].

٣- الملاحظة الثالثة أنه يتنافَى مع الإجماع الذِى حكاه ابن عبد البر على أنه لا يجوز خصاء بنِى ءادم ولا قطع عضو من أعضائهم في غير حدّ ولا قود[١٧] كما يتنافَى مع الإجماع الذِى حكاه ابن حزم ونقله فِى المعيار وأيده ابن مرزوق على أنه لا يجوز سلخ جلد ابن ءادم ولا استعماله بعد سلخه[١٨].  ويتنافَى أيضًا مع ما نصّ عليه الشافعية ولا يُعرف لهم مخالف من أنه لا يجوز للإنسان اقتطاع جزء من جسده ليأكله غيره إذا اضطر إليه ولم يجد ما يأكله غيره. فقد جاء في نهاية المحتاج ما يلِى (وقال إمام الحرمين وليس للإنسان أن يقطع من نفسه فلقة ويؤثر بها رفيقه المضطر ويحرم قطعه لغيره ولو مضطرًا)[١٩] يريد قطع بعض من نفسه لإطعام مضطر.  وإذا كان لا يجوز له قطع بعض جسده لإطعام غيره وإنقاذ حياته فإنه لا يجوز له إعطاء عضو من أعضائه لعلاج مضطر محتاج إليه من باب أولَى وأحرَى لأن الإنقاذ بالأكل محقق مضمون النتائج بخلاف الإنقاذ بزراعة العضو فإنه مهما بلغت نسبة النجاح فيه فإنها لن تبلغ درجة اليقين ولن تصل إلى درجة الأكل فِى التيقن من النجاح.

٤- الملاحظة الرابعة أنَّه يتنافَى مع ما اتفق عليه الفقهاء من أن من قال لغيره اقتلنِى أو اقلع عينِى وأنا أبرئك أو إن قتلتنِى أو قطعتَ يدِى فأنا أُبرئك أنه لا يجوز له فعل ذلك به رغم إذنه له فِى ذلك لأنه فيما لا يملك. يقول القرافِى فِى شرح التنقيح (ولو أذن أحد فِى عضو من أعضائه لم يصح إذنه)[٢٠] ويقول ابن قدامة فِى المغنِى (إن الدماء لا تستباح بالاستباحة والبذل)[٢١].  وإنما الخلاف بينهم فيما لو استجاب لرغبته فقتله أو قطع يده فقال الشافعِى لا قصاص ولا دية فِى قطع يده لإذنه له في ذلك واختلف فِى قتله هل تجب عليه الكفارة والدية وقال يعزر[٢٢]اهـ وقال الحنفية (تجب الدية إذا قتله ولا قصاص عليه لأن إذنه شبهةٌ فِى درء القصاص ولا شىء عليه إذا قال اقطع يَدِى فقطعها)[٢٣] وقال أبو يوسف ومحمد (لا قصاص عليه ولا دية)[٢٤]وقال المالكية (إن قتله قتل به وإن قطع يده عزر ولا يقتص منه إلا أن يترتب على ذلك موت فيقتص منه)[٢٥] وهو الأصح لأن الإنسان لا يحل له قتل نفسه ولا بتر أعضائه بل هو مَنْهِىٌّ عن تَمَنِّى الموت للضُرّ كما جاء عن أنس رضِى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنينَّ أحد منكم الموت لضر نزل به فإن كان لابد متمنيًا للموت فليقل اللهم أحينِى ما كانت الحياة خيرًا لِى وتوفنِى إذا كانت الوفاة خيرًا لِى[٢٦] ومن لا يملك حقًا لا يمكن أن يعطيه لغيره أو يتنازل له عنه لأن فاقد الشىء لا يعطيه كما يقال.

٥- الملاحظة الخامسة أن استئصال العضو المراد زرعه من جسم الإنسان الحِىّ فى حياته من شأنه أن يؤدِى إلى ترك الصلاة أصلًا أو ترك ركن من أركانها أو شرط من شروطها أثناء عملية الاستئصال وطيلة فترة العلاج لغير عذر ولا ضرورة خاصة به وهو أمر لا يجوز وكبيرة من الكبائر لا ينبغِى تجاهلها ولا التقليلُ من أمرها والاستخفاف بها وعدم تقديرها حقّ قدرها فإن الصلاة عماد الدين مقدمة على ما سواها من أمور الدين والدنيا وقد قال المالكية بسقوط فريضة الحج ومنعه وتحريمه إذا كان السفر إليه يؤدِى إلى ترك الصلاة أو الصلاة بدون شروطها وأركانها فقد سئل مالك رحمه الله في الذِى يركب البحر للحج ولا يجد موضعًا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه أيجوز له الحج فقال رحمه الله أيركب حيث لا يصلِى ويل لمن ترك الصلاة ويل لمن ترك الصلاة[٢٧] اهـ وقالوا أيضًا إذا ضاق الوقت وخاف الحاج أن يفوته الوقوف بعرفة إذا اشتغل بصلاة العشاء إنه يجب عليه أداء صلاة العشاء ولو فاته الوقوف بعرفة على المشهور فقدموا الصلاة على الحج لأنها أفضل منه[٢٨].

 وإذا كان لا يجوز الحجُّ المؤدِى إلى فوات الصلاة أو ترك ركن من أركانها أو شرط من شروطها فإن استئصال العضو المتبرع به المؤدِى لترك الصلاة أو ترك ركن من أركانها أولى بالمنع وأحق بالتحريم وهو ما تؤيده القواعد الآتية

1-  قاعدة المحافظة على الأديان مقدمة على المحافظة على الأبدان سيما وقد قيل فِى حقِّ الصلاة من ضيعها فهو لما سواها أضيع يقول الشاطبِىّ المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية مطلقًا[٢٩] اهـ

٢- قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهِى من أهم القواعد الأصولية التِى تقوم عليها الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامِى وهِى تقتضِى منع استئصال العضو المؤدِى لترك الصلاة لأن ترك الصلاة مفسدة دينية كبرى والعلاج مصلحة دنيوية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

3-  قاعدة أنه لا يجوز ترك واجب أو ارتكاب حرام لتحقيق مباح أو مندوب لأن الصلاة في وقتها واجبة وتركها حرام والتداوِى مباح أو مندوب على خلاف في ذلك[٣٠]، ولا خلاف أنه غير واجب وقد حكَى القاضِى عياض وابن العربِى الإجماعَ على عدم وجوبه[٣١] وأخطأ من يقول بوجوبه بل أفتَى غير واحد من العلماء بأن تركه فضيلة لمن قوِىَ توكله[٣٢]، وهو ما يدل عليه حديث (يدخل الجنة من أمتِى سبعون ألفًا من غير حساب وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم بتوكلون)[٣٣].

4-  قاعدة أن ما أدَى إلى الحرام حرام، واستئصال العضو من الحِى فِى حياته يؤدِى إلى ترك الصلاة وقت العملية بدون عذر ولا ضرورة ولا ضرورة بالنسبة إليه وهو حرام فما يؤدي إليه حرام.

5-  قاعدة أن فرض العين مقدم على فرض الكفاية، فإن أداء الصلاة في وقتها فرض عين وإنقاذ المريض فرض كفاية على القول به وإن كان غير صحيح.

6-  الواجب المؤقت مقدم على الواجب المطلق إذا تعارضا.

 ولا مكان هنا لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات لأن الضرورة تبيح المحظورات للمضطر كما قال تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ) الآية والمتبرع لا ضرورة به تدعوه إلى التبرع بعضوه لغيره واستئصالِهِ والضرورة قائمة بالمريض لابه.

وهو ما تؤيده فتوى عائشة وأبِى هريرة وغيرهما من الصحابة لابن عباس من منع علاج عينه المؤدِى للصلاة مستلقيًا فقد روَى ابن عباس رضِى الله عنهما أنه لما كف بصره أتاه رجل فقال لو صبرتَ سبعة أيام لم تُصَلِّ إلا مستلقيًا داويتُ عينك ورجوتُ أن تبرأ فأرسل إلى عائشة وأبِى هريرة وغيرهما وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلٌّ قال له إن متّ فِى هذه الأيام ما الذِى تصنع بالصلاة. فترك معالجة نفسه[٣٤].

الملاحظة السادسة أنه يتنافى مع حديث (لا ضرر ولا ضرار) وهو حديث عام يتناول بعمومه كل أنواع الضرر ولو كان خفيفًا كما يتناول الضرر الدائم والضرر المؤقت لقاعدة النكرةُ فِى سياقِ النَّفْى للعموم نصٍّا إنْ بُنِيَتْ على الفتحِ كما هنا والحديث وإن كان لفظه لفظ الخبر فإنه معناه النهىُ والنهىُ يدل على التحريم ولاشك أن استئصال العضو من جسم الحِىّ يسبب له ألمًا محققًا وضررًا عاجلًا أو ءاجلًا لا يمكن إنكاره ولا يحسن تجاهله وعدم اعتباره وأخذه فِى الحسبان ومن ينكر ذلك أو يشك فيه فَلْيُصْغِ إلى ضحايا التبرع بأعضائهم كيف يعيشون وماذا يعانون من ءالام وما يبثون من زفرات التحسر والندم على ما فعلوا.

٧- الملاحظة السابعة أنه يتعارض مع حديث ( إن لجسدك عليك حقًا وإن لعينك عليك حقًا)[٣٥] ومن أبسط حقوق الجسد وأعضائه التِى يجب القيام بها نحوهما صيانتهما وحفظهما والحرص على سلامتهما من الأذى وهو يتنافَى مع السماح باستئصالها وقلعها أو قطعها من محلها لما يلحقها من الألم والأذى.

٨- الملاحظة الثامنة أن قاعدة سدّ الذرائع واعتبار المآلات تقتضِى منع ذلك لأن فتح هذا الباب على مصراعيه يؤدِى إلى انتشار التجارة فِى الأعضاء البشرية عاجلًا أو ءاجلًا وما يتبع ذلك من سرقة الأعضاء واختطاف الأطفال التِى بدأت بوادرها تطفو على السطح فِى أنحاء العالم، وهِى ءَافَةٌ  تصعب مقاومتها والحدّ من انتشارها، لا سيما أنَّ حاجة المرضَى الأغنياء إلى ما ينقذ حياتهم ويعيد إليهم عافيتهم من أعضاءٍ بشريةٍ من جهةٍ وحاجةَ الفقراء إلى أموالِ الأغنياء لإطعام أطفالهم وقضاء حوائجهم وحرصَ الأطباء على تطوير مهاراتهم وتحسين مداخيلهم وجشعَ شركات الأدوية والسماسرة الراغبين فِى ملء جيوبهم من وراء هذه الزراعة البشرية من جهة أخرَى تشكل حلفًا خماسيًا يستفيد من زراعة الأعضاء ويدافع عنها ويشجع عليها وهو حلفٌ تصعب هزيمته أو إيقافه عن ممارسة هوايته وإذا كانت بعض الدول اتخذت قوانين تنظم عمليات هذه الزراعة وتعاقب بصرامة كل من خالفها فإن القانون وحده لا يستطيع قمعَ ذلك فكم مِن قوانينَ وقفتْ عاجزة أمام ظواهر وسلوكيات يمنعها القانون ومِن أمثلة ذلك المخدراتُ والرِّشْوَةُ فإنَّ القانون لم يستطع الحد منهما وإنما يمنع ذلك الشرع الذِى يتحكم في ضمير الإنسان.

٩- الملاحظة التاسعة أنه يتنافَى مع أحاديث النهىِ عن تغيير خلق الله والتِى جاء فيها (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)[٣٦] وغيره من الأحاديث فى الموضوع، فإذا لعنت الواصلة للشعر والمستوصلة فإن الواصلة للعضو والمستوصلة له أحق باللعن وهو مِن أقوى دليل على التحريم.

١٠- الملاحظة العاشرة أن الاستدلال بقاعدة الأصل فى الأشياء الإباحة هو استدلال لا ينهض أولًا لأنها قاعدةٌ مختلف فيها ولا يصح الاحتجاج بالمختلف فيه فى محل الخلاف.  وثانيًا لأن القاعدة تقول الأصل فى الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على خلاف ذلك وما سبق من الملاحظات والأدلة دلائل على خلافها فلا يتم الاستدلال بها لأنها مستمدة من الاستصحاب وهو ءاخر الأدلة وأضعفها ولا يحتج بها إلا بعد البحث والاجتهاد وعدم العثور على معارضها.

١١- الملاحظة الحادية عشرة أن القول بوجوب ذلك على الأمة على سبيل فرض الكفاية مخالف لما حكاه ابن العربِى والقاضِى عياض من الإجماع على أنَّ التداوِىَ ليس بفرض على المريض[٣٧] وإذا كان لا يجب على المريض مداواة نفسه فكيف يصحُّ القول بأنه يجب على الأمة مداواته وبأعضائها. إنه قولٌ بلا دليل عليه وأما إنقاذ النفس الذِى عدّه الفقهاء من فروض الكفاية فهو إنقاذها من الغرق أو الحريق أو الجوع وما شابه ذلك مما ليس فيه مخاطرة بعضو من أعضاء المنقذ وقد نصّ الفقهاء على أن مواساة المضطر إنما تجب بما فضل عن الإنسان حالًا ومآلًا ومَنْ يَضمن للمتبرع أنه لا يحتاج إلى عضوه مستقبلًا.

١٢- الملاحظة الثانية عشرة تتعلق بفتوَى من أجاز تبرع الأولياء بأعضاء محاجيرهم فإنها فتوى باطلةٌ يردها قوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[٣٨] فإنه إذا كان لا يجوز التصرف في مال اليتيم إلا بالتِى هِى أحسن فكيف يصح التصرف بأعضائه الذِى ليس بحسن ولا أحسن.

كما أن مقولة التبرع بالأعضاء صدقة جارية مقولةٌ باطلةٌ ودعايةٌ مضللةٌ أولًا لأن الصدقة في الإسلام خاصةٌ بالممتلكات ولهذا يَعُدُّ الفقهاء من شروط الصدقة ملكَ المُتَصَدَّقِ به والإنسان لا يملك أعضاءه كما قلنا سابقًا فكيف يكون التبرع بها صدقة، وثانيًا لأنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا والعضو المتبرع به ليس طيبًا بل هو نجسٌ عند الفقهاء الذين يَرَوْنَ نجاسةَ ما قُطع من الآدمِىّ.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب زراعة الأعضاء من خلال المنظور الشرعِىّ للشيخ محمد التاويل رحمه الله تعالى.

[٢] ويدعمه الشيوخ النافذون فى السعودية. المنتصر بالله.

[٣] الموافقات ٢/٢٨٥.

[٤] من الآية ٢٩ من سورة النساء.

[٥] من الآية ١٩٤ من سورة البقرة.

[٦] فتح البارِى ٩/١١٨.

[٧] رواه البخارِى كتاب النكاح باب تزويج المعسر الذِى معه القرءان والإسلام.

[٨] رواه البخارِى كتاب النكاح باب ما يكره من التبتل والخصاء.

[٩] من الآية ٢٥ من سورة المائدة.

[١٠] شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص ٤٦٦.

[١١] الفروق للقرافِى ٣/٢٠٨-٢١٦.

[١٢] من الآية ٣٣ من سورة الإسراء.

[١٣] من الآية ٤٥ من سورة المائدة.

[١٥] انظر نهاية المحتاج ٣/٢٥٠- الزرقانِى ٥/٨.

[١٦] الفتاوِى الهندية ٦/٦.

[١٧] الجامع لأحكام القرءان ٥/٢٥١.

[١٨] المعيار ١/٧٣.

[١٩] نهاية المحتاج ٣/١٥٤.

[٢٠] شرح التنقيح ٩٥.

[٢١] المعنِى ٧/٧٢٤.

[٢٢] نهاية المحتاج ٧/٢٩٦ ونهاية المطلب فِى دراية المذهب تحقيق عبد العظيم محمود الديب ١٦/٢٩١-٢٩٢.

[٢٣] الفتاوِى الهندية ٦/٣٠.

[٢٤] الفتاوِى الهندية ٦/٣٨٢.

[٢٥] الزرقانِى على خليل ٥/٨ والمعيار الجديد للوزانِى ١٠/١٢٧.

[٢٦] رواه البخارِى في كتاب الدعوات باب الدعاء بالموت والحياة ومسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب كراهة تمنِى الموت لضر نزل به.

[٢٧] حاشية كنون على الرهونِى ٢/٤١٢.

[٢٨] نفس المرجع والصفحة.

[٢٩] الموافقات ٢/٢٨١.

[٣٠] الموافقات ١/٩٦-٩٧.

[٣١] نهاية المحتاج ٣/١٨.

[٣٢] نهاية المحتاج ٣/١٨.

[٣٣] انظر صحيح ابن حبان كتاب الرقَى والتمائم ومصنف عبد الرزاق باب الكِىّ وغيرها.

[٣٤] المغنِى 2/147.        

[٣٥] رواه البخاري.

[٣٦] رواه البخاري.

[٣٧] حكم القرءان ١/١٢٥.

[٣٨] سورة الأنعام من الأية ١٥٣.