التحذير من السباب[١]

قَبَساتٌ من أنوار عالم مكة وشيخها
السيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩١هـ رحمه الله تعالى

قال الله تعال )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(.

ينهى الله تعالى عباده عن السخرية لأنها سبب البغضاء ووسيلة الفتن والبلاء، بها يقع التشاحن بين القلوب وينفر القريب من قريبه والأخ من أخيه فلا تسخر بأخيك فربما كان عند الله أعظم منك مقامًا وأشد قربًا، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكنه ينظر إلى قلوبكم، فليست الكرامة عند الله بالمال ولا بالجمال ولا بالحَسَب والنسب ولكنها بالتقوى.قال تعال )إن أكرمكم عند الله أتقاكم(.

وقد أخفى الله تعالى رضاه في طاعته كما أخفى غضبه في معصيته، فرُبَّ عمل يسير من الطاعة تنال به عند الله مقامًا كبيرًا، ورُبَّ معصية لا تأبَهُ لها تستحق بها وزرًا كبيرًا، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يُلقِى لها بالًا يُضحِكُ بها الناس يهوِى بها في النار سبعين خريفًا.

وما أقبح وأشنع من ينطلق لسانه في ميدان السِباب انطلاق السهم. ثم لا يقف عند حدّ في سبابه بل كل ما خطر بباله وعرف كيف ينطِقُ به لسانه وَاجَهَ به أخاه ودَنَّسَ عِرضَهُ وجَرَّدَهُ من كل شرف وجَعَلَ الناس ينظرون إليه نظرهم إلى أحطِّ إنسانٍ رماه به فِى الحال، وجرح به عاطفته، فيسب أُمَّه وأباه ويلعن جَدَّهُ وأخته وأخاه وربما يطاول به الغضب فيقذفه بالزنا والفحشاء لا يخشَى الله ولا يحذرُ اليومَ الآخر ولا يستحِى من الحق ولا يخاف من الخلق، إن هذا الأمر تشمئِزُ منه قلوب المؤمنين وتقشعر منه جلود المتقين فإن ما يظهر على الألسنة أثرٌ لما في القلوب، فإذا كان ما في القلوب إيمانًا وخُلقًا صالِحًا كانت ءاثاره صالحة وإلا كانت ءاثارُهُ سيئةً، فبائع الجوهر الذي لديه اللآلئ النفسية إذا أغضبْتَهُ وءَالَمْتَهُ لا يَجِدُ حوله إلا تلك الجواهرَ والدُرَّ الغوالِىَ يوجِهها إليك، وجوهرة واحدة منها تغنيك طول الأبد فَتُضْطَرُّ أنْ تُحَوّلَ إساءتك إليه إحسانًا حتى كأنَّك وليٌّ حميم، والآخر الخبيثُ محاط بالطوب والحجارة والفضلات المؤذية كُلَّما لاطفته أو صانعته لا يجد شيئًا يكافِئُكَ به إلا ما حوله من الحِجارة القاتلة، وهذا مَثَلٌ للطيب والخبيث من الناس، فالطيبُ ينطق بحسن الكلام وجميله والخبيث لا يعرف إلا خبيثَ القول وإن كان في أصفَى أوقاته كل على حسب استعداده، وكلٌ إناء بالذِى فيه ينضح.

إن أهل ديننا الإسلامِى لا يليق بهم إلا حسن الكلام ولا يليق بهم خلافه، ومَنْ كان على غير هذا من فُحش التعبير وسوء المنطق فليتأكد أن ذلك من أخلاق غير المؤمنين فليعالج نفسه فإن المؤمن لا يكون سبَّابًا ولا فحاشًّا ولا لعانًّا ولا بذيئًا ولا طعانًّا، إن الفُحش والتفحش ليسا من الإسلام في شىء، وكيف يلعن المؤمنُ أخاه ألا فليعلم اللاعن أنه مَصَبُّ اللعنة، تصعد إلى السماء فتغلق دونها أبواب السماء ثم تهبط إلى الأرض فتغلق دونها أبواب الأرض فتُأخذ يمينًا وشمالًا فإن لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي لعن إن كان لذلك أهلًا وإلا رجعت على قائلها، فهؤلاء اللعانون إنما يلعنون أنفسهم والجاهل عدو نفسه، لعنت امرأة أنصارية ناقة لها ضجرت منها في بعض أسفاره، صلى الله عليه وسلم، فسمع ذلك عليه الصلاة والسلام فقال خذا ما على الناقة ودعوها فإنه لا تصحبنا ناقة ملعونة.  قال عمران فكأنِى أنظرها الآن تمشِى في الناس ما يعرض لها أحد اهـ هذا زجر بالغ ودرس عظيم لمن له أدنَى عقل، وإذا كان هذا التشديد من الشارع في لعن الحيوان الأعجم فكيف يكون ذلك في لعن الإنسان المفضّل المكرّم ولذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن بقتله تحذيرًا وتخويفًا.

ولا أظن أيها السادة الكرام مؤمنًا يعرف معنى الدين الذي يعتقده ويرجو به الفوز في الدنيا والنجاة في العُقبَى يقدم بعد هذا على سبّ الدين فإن قصد سبَّ دين الإسلام فقد ارتدَّ والعياذ بالله وإلا فيستوجب أشدَّ التعزير ويستحق غضب الله تعالى وسخطه.

(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصِيبَهم فتنة أو يصِيبهم عذاب أليم)

وعلى العلماء والأولياء والأوصياء وأرباب الحوانيت زجر الأولاد وغيرهم إذا تكلم أحدهم بما لا يليق، فإن السفيه متى نهاه الناس وتكرر ذلك عليه أدرك خطر سفاهته وقبح منطقه.

إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى ... ومالُكَ موفورٌ وعِرضُكَ صَيِـّنُ

لسانكَ لا تذكر به عورةَ أمـــرئٍ ... فكُلُكَ عوراتٌ وللناس ألسُــنُ

وعينكَ إن أبـدت إليك معايبًـا ... لغيرك قل يا عينُ للناسِ أعينُ

والله أعلم.


[١]المرجع كتاب نفحات الإسلام من محاضرات البلد الحرام للسيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ رحمه الله تعالى.