الرد على ابن القيم فى تكفيره زوار القبور والصالحين المتبركين بها[١]

قبساتٌ من فوائد شيخ علماء مكة محمد العربِى بن التبانِىّ المالكِىّ

المتوفى سنة ١٣٩٠ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فإن ابن القيم قد ذكر ما فى قصة ثقيف من الفقه وهدم اللات صنمهم ثم قال (ومنها هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حالُ المشاهدِ المبنيةِ على القبور التي تُعبد من دون الله ويشرك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها، ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها، وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام ويستعين بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات والمتاع والنذور التي تساق إليها يُضَاهَى بها الهدايا التي تساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت وصرفها في مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يُفعل عند هذه المشاهد سواءٌ من النذور لها والتبرك بها والتمسح بها، وتقبيلها واستلامها، هذا كان شركَ القوم بها، ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض، بل كان شركُهُمْ بها كشركِ أهلِ الشركِ من أرباب المشاهد بعينه اهـ )

فقوله (منها) أى من مسائل الفقه المستفادة من قصة وفد ثقيف (هدم مواضع الشرك التى تتخذ بيوتًا إلى قوله وهذا حال المشاهد) صحيحٌ فإن ثقيفًا كانوا يعبدون صنمهم اللات وقوله (وهذا حال المشاهد المبنية على القبور إلى قوله لا يحل ابقاؤها) فاسدٌ فإن معبودَ ثقيف حجر لا يضر ولا ينفع ولا جاه له والمبنِىُّ عليه من قبور المسلمين نبيًا أو صالحًا مُتَوَسَّلٌ بجاهه عند الله ليس بمعبود، والفقه الشرعِىُّ معرفة الحلال والحرام فتشريك وتكفير أهل لا إله إلا الله ليس من الفقه فى شىء فما استفاده أو استنبطه من قصة وفد ثقيف من تكفير المتوسلين بالأنبياء والصالحين خارج عن الفقه الإسلامِىّ وقد ثبت التوسل بالأنبياء والصالحين فى الكتاب والسنة وهو مُقَلِّدٌ فى هذه المصيبة وهى تكفير المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين شيخهُ الحرانِىَّ تقليدَ أعمًى وهو نسخة منه وحيث كان الحرانِىُّ إمامه وقدوته فيها فلنبحث معه فنقول إنه زعم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا جاه لهم فلا يُتوسل بهم إلى الله تعالى ولا يُتوسل بغيرهم من الصالحين من باب أولى وبنى هذا على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية الذى اخترعه وزعم أن جميع الناس عرفوا توحيد الربوبية وجهلوا توحيد الألوهية والمتوسلون بمن ذُكِرَ عرفوا توحيدَ الربوبية وجهلوا توحيدَ الألوهية وبَنَى عليه أيضًا مَنْعَ شد الرحال لزيارة قبر سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم، وجَعْلَ السفرِ إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سفر معصية وقصرِ الصلاة فيه لا يجوز. وجَعْلَ هذه الألفاظ توسَّلَ، استعانَ، استغاثَ، تشفَّعَ، بمعنى عَبَدَ تمامًا، وفَرَّقَ هذه المصيبة فى كتبه وجلها فى فتاواه الكبرى وحمل الآيات الواردة فى الكفار على المسلمين على نهج أسلافه الحَرُورِيّين وقد اعتمد فى تكفير المسلمين بهذه الألفاظ على إرادة نفع جاه المتوسل به أو المستغاث به مثلًا قياسًا على عبدة الأوثان بجامع الارادة المذكورة فى كلّ وهو قياس فاسد من ستة أوجه

الأول جهله حقيقة العبادة فإن العبادة لغة أقصى نهاية الخضوع والتذلل بشرط نية التقرب ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم وشرعًا امتثال أمر الله تعالى كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم فاعتبر فيها ما اعتبر فى اللغوية من الخضوع والتذلل والتعظيم فاللغوية غير مقيدة بعمل مخصوص والشرعية مقيدة بالأعمال المأمور بها فكانت جارية على الأعم الأغلب فى الحقائق الشرعية من كونها أخص من اللغوية.

الثانِى الوسيلة لغة كلُّ ما يُتقرب به إلى الغير، وَسَّلَ إلى الله تعالى توسيلًا عمل عملًا تقرب به إليه فتحقق منه أن التوسل لا يُسَمَّى عبادة قطعًا ولا يقال فيه عبادة وإنما هو وسيلة إليها ووسيلةُ الشىءِ غيرُهُ بالضرورة وهو واضحٌ فإن التوسل لا تقربَ فيه للمتوسَّلِ به ولا تعظيمه غاية التعظيمِ، والتعظيمُ إذا لم يصل إلى هذا الحد لا يكون الفعل المُعَظَّمُ به عبادةً فلا يُطلق اسمُ العبادة على ما ظهر من الاستعمال اللغوِىّ إلا على ما كان بهذه المثابة من كون العمل دالًا على غاية الخضوع منويًا به التقرب للمعبود تعظيمًا له بذلك التعظيمَ التامَّ فإذا اختلَّ شىءٌ منها منع الاطلاق. أما الدلالة على نهاية الخضوع فظاهر لأن الناس من قديم الزمان إلى الآن يخضعون لكبرائهم ورؤسائهم بما يقتضيه مقامه الدنيوِىّ عندهم ويُحَيُّونهم بأنواع التحيات ويتذللون بين أيديهم ولا يَعُدُّون ذلك قُرْبَةً ولا يطلقون عليه اسم العبادة وإنما يرونه من باب الأدب وما ذاك إلا لكون ذلك الخضوعِ لم يبلغ نهايتَهُ والتعظيمِ الناشئِ عنه لم يبلغ غايتَهُ وبهذا ظهر الفرق بين التوسل والعبادة. على أنَّ عَبَدَ يتعدَّى بنفسه وتوسل يتعدى بحرف الجر .

وقد أوغل ابن تيمية فى بيداء القياس الفاسد دفعتين قياسه معانِى هذه الألفاظ توسل استعان استغاث تشفع على العبادة، وقياسه المؤمنين المتوسلين بالنبى صلى الله عليه وسلم مثلًا على عبدة الأوثان من دون الله بجامعِ إرادةِ الجاهِ فِى كلٍّ فإنه لو تأمل فى قولِ القائلِ اللهم إنى أتوسل إليك بفلان وأجراه على ما تدل عليه اللغة لوجد معناه يا الله إنى أتقرب إليك وأتحبب إليك بفلان فهو دال بجوهره على أن التقرب لله لا لمن يراد جاهه ومن جهل الفرق بين عبد وتوسل كيف يصح له القياس فى دين الله وإلحاق بعض الفروع ببعض والقياسُ أصعبُ أنواع الاجتهاد لكثرة ما يعتبر فى أركانه من الشروط وما يَرِدُ عليه من المعارضات والمناقضات وغيرِ ذلك من أنواع الاعتراضات فلا يصفو مشربه إلا لأهل الاجتهاد ومن أحاط بمداركهم على اختلاف مراتبهم، ومن قصر عن تلك المراتب لا يسوغ له الجزم بالحكم المأخوذ منه فى دانق فكيف بالحكم المأخوذ منه فى تكفير المسلمين المتوسلين.

الثالث حيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل فالعبادة فيها معنى زائد يناسب إناطة الحكم به وهو اشتمالها على الاعتراض عن الله تعالى وإطلاق الالهية على غيره وإقامته مقامه وخدمته بما يستحق أن يخدم.

الرابع القاعدة المشهورة المطردة وهِى أنَّ استواء الفعلين فى السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما فى الحكم. يدل على هذه القاعدة دلالةً قطعيةً أنه لو لم يكن الأمر كذلك بأن كان الاستواء فى الحامل يوجب الاستواء فى الحكم كما فهمه ابن تيمية وقرره فى قياسه التوسل على العبادة والمتوسل على عابد الوثن للزم إبطال الشريعة وتساوِى الأعمال فى الأحكام واللازم باطل بالاتفاق وهو ضرورِىٌّ غنِىٌّ عن الاستدلال، وأما الملازمة فَلِمَا عُلِمَ من أن الشريعة جاءت لإخراج العبد عن دائرة هواه حتى يكون بالاختيار عبدًا لله تعالى فالمعنى الذِى يراعيه المكلف ويحمله على الفعل بالاقدام إن كان مصلحة أو الاحجام إن كان مفسدة وإن راعته الشريعة له تفضلًا من الله تعالى إلا أنها لم تسترسله مع أغراضه وأهوائه فلم يُبَحْ له لسلوك كل طريق يوصل إليها بل أخذت بلجامه إلى الطرق التى عينتها له ليتبيينَ بذلك كونُهُ عبدًا لا يقدر على شَىْءٍ حتى إذا أخذ حظه من العمل أخذه من تحت يد الشريعة فالأكل مثلًا يُحْمَلُ على دفع ألم الجوع وَسَدِّ الرَّمَقِ وهو يحصل بكل ما يؤكل من طاهر أو نجس حلال أو حرام وقد عينت الشريعة طريقه بالاختيار بالحلال الطيب الطاهر، ومثلُهُ الشُّرْبُ الذِى يَحمل عليه دفع ألم العطش خَصَّهُ أيضًا بالحلال الطيب فالأكل والشارب من الحلال الطيب لدفع الألم وسد الرمق مساوٍ للآكل والشارب من الحرام النجس للغرض المذكور فلو كان الاستواء فى الحامل موجبًا للاستواء فى الحكم لما اختلف الحكم فيها فكان الأولُ ءَاتِيًا بواجبٍ أو مباحٍ والثانِى ءاتيًا بحرامٍ ولكان الواجب استواءُهُما فى الحِلِّيّةِ أو الحُرْمَةِ، وكذلك الوطء إذا وقع لقضاء الشهوة ودفع دغدغة المنِىّ فإن الزانِىَ والناكحَ والمالكَ يشتركون فى هذا السبب مع أن فِعْلَ الأخيرين مباحٌ وفعلَ الأول محرمٌ فلو كان الاشتراك فى الحامل مفضيًا إلى الاشتراك فى الحكم للزم استواؤهم فى الحل والحرمة، ومثل ذلك اكتسابُ الأموال واقتناؤها فإنَّ الشارع عين لتحصيلها طرقًا مخصوصة على وجوه مخصوصة كالبيع والاجارة وما أشبه ذلك على شرائطَ عَيَّنَهَا فيها تنعدم بانعدامها ولا يحصل الاكتساب بفقدها وحرم فى ذلك طريقَ الغصب وما كان من الطرق على غير الوجه المشروع فالغاصبُ والمشترِى مثلًا مستويان فِى الحامل وهو الاكتساب ومختلفان فى الحكم.

ومثل ذلك يقع فى العبادات المشروعة لقهر النفس والتوجه للواحد الحق فإن الشارع عَيَّنَ لها طرقًا مخصوصةً يتقرب بها إليه فمن جاءه منها قَرَّبَهُ وأسعدَهُ ومن جاءَهُ من غيرها طرده وأبعده وإنْ تَوَجَّهَ بها إليه وقصدَهُ فالعابد والمبتع مشتركان فى الحامل وهو قصد التقرب مع اختلافهما فى الحكم، فظهر بهذا صحةُ لزومِ قلبِ الشريعةِ على تقديرِ القولِ بتساوِى الأحكامِ عند الاشتراك فى الأغراض فَيَتَعَيَّنُ بطلانه وإذا بطلَ لزم صدق نقيضه وهو أن الاشتراك فى الغرض لا يوجب الاشتراك فى الحكم.

وقد أداه جهله حقيقةَ العبادة إلى قياسٍ ءَاخَرَ وهو قياسُهُ ما لا عبادةَ فيه من نذرٍ وذبحٍ وطلبِ دعاءٍ على ما فيه عبادة غير الله بجامع العبادة فى كلٍّ، روى الحافظ ابن عبد البر فى كتابه جامع بيان العلم وفضله بسنده إلى عوف بن مالك الأشجعِىّ رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة أعظمها على أمتِى فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله اهـ

الخامس الجمع فى هذا القياس الفاسد بغير علة شرعية لأن إرادة نفع الجاه من الأغراض التى تدعو النفوس إليها فمن اتَّبَعَهَا اتَّبَعَ نفسَهُ إذ قد أعطاها مطلوبها وما كان من الأغراض النفسانية قد عُلِمَ أن الشرع قد جعل لبعضه طرقًا توصل إليه وحظر عليه ما سواها فجعل لإرادةِ نفعِ الجاه طريقَ التوسل وحَرَّمَ طريق العبادة وحينئذ فمسألة التوسل من فروع القاعدة المتقدمة وقد بُيِّنَ فيها أن تلك الأغراض لا يجمع بها القياسُ لأن الشرع لم يُعَيِّنْها للتعليل ولا المكلف يقصد بها اتباع الشرع إذ ليس الحامل له على ذلك الاتباعَ. فإن قيل لا يُسَلِّمُ ابنُ تيمية أنه جَمَعَ فى هذا القياس بالأغراض النفسانية بل يزعم أنه جمع بعلة شرعية فإن تعليل العبادة الوثنية بنفع الجاه مما أومأ إليه القرءان الكريم فى قوله تعالى (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وبها تمسك ابن تيمية ومقلدوه فى تكفير المسلمين المتوسلين فالجواب لا يَتمسك بها فى تكفير المتوسلين إلا غبِىٌّ لأن العلة الشرعية المعتبرة فى الجمع المراد بها علة الحكم من الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة لا علة نفس الفعل الحاملة لفاعله عليه والقرءان العظيم إنما أشار إلى أنَّ تعليلهم الذى عللوا به عبادتهم وحملهم عليها فاسدٌ فهو من باب التنبيهِ على ضلالهم وإنما يكون من قَبِيل العلة الشرعية لو قال الله تعالى حُرِّمَتْ عبادةُ الأوثان لارادة نفع الجاه منها أو أومأ إلى ذلك أو نبّه بمسلك من مسالك العلة عليه ولم يقل ذلك ولم يشر إليه بحال بل أشار فى مواضع كثيرة إلى أن العلة فى تحريمها وتكفير فاعلها عُدُولُهُمْ عن خالقهم المستحق لها وَوَضْعُهُمْ الشَّىْءَ فِى غير محله بإذلال نفوسهم المملوكةِ لغير مالكها وتعظيمِهِم مَنْ لا يملك دفع الضر عن نفسه ثم لا يلزم من الإيماء إلى فساد تعليل العمل أن يكون ذلك الفساد هو علةَ النهِى لأن فسادَ تعليلِ العملِ يرجع إلى التخطئة فى عمل ذلك العمل على ذلك القصدِ ولا إشعارَ فيه بحكم مَنْ توسَّلَ بنبِىٍّ أو ولِىٍّ أصلًا.

السادس مما يدل على فساد هذا القياس اشتراط العلماء قاطبة فى صحة القياس كون المقيس غير منصوصٍ عليه فى الكتاب والسنة والمقيس هنا وهو التوسل منصوصٌ عليه كتابًا وسنة والقياسُ فِى مقابلة النص باطلٌ بالاجماع والتفرقة بين الحِىِّ والميتِ فى جواز التوسل بالأول فيما يقدر عليه دون الثانِى لا وجه لها لأن الحكم الشرعِىّ منوطٌ فى هذه المسألة ببلوغ حد العبادة وعدمه فإن بلغ الفعل إذا وقع لغير الله تعالى ذلك الحد كان كفرًا وإلا فلا سواء كان المُتَوَسَّلُ به حيًا أو ميتًا على أنها مُوَرِّطَةٌ للمُفَرِّق فى مذهب القدرية وجارَّةٌ له إلى مذهب الماديين الذين ينكرون وجود الإله ويعتقدون فناء الأرواح وقد أجمع أهل الأديان السماوية على بقاء الأرواح.

وقوله (لا يحل بقاؤها فى الاسلام ويجب هدمها) مثله فِى كتابه إغاثة اللهفان نقله عنه صاحب كشاف القناع صحيحٌ إن أراد به المشاهدَ المبنيةَ فِى الأرض الموقوفة وإن أراد به المبنية فى الأرض المملوكة فهو باطلٌ قطعًا لأن النهىَ عن البناء على القبور فى الحديث محمولٌ على كراهة التنزيه فى غير الموقوفة عند العلماء وحرمةُ البناء فى هذه معللةٌ بالتضييق على المسلمين ولا تضييق فى المملوكة ولا معصية فى البناء فيها ولا يجوز هدمه عند العلماء وإن كان خلاف السنة وليس بفقيهٍ من أوجب الهدم فى المكروه وجعله معصية، والواجبُ إنما يقابل الحرامَ لا المكروهَ، والامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه إنما رُوِىَ عنه منعُ البناء فى وقف عام ولم يُرْوَ عنه وجوب هَدْمِ ما بُنِىَ فيه. وخلاصةُ حكم البناء والكتابة على القبور فى المذاهب الأربعة أن البناء على القبور عند الشافعية والمالكية والحنابلة فى الأرض الموقوفة والمسبلة حرام يجب هدمه عند الشافعية والمالكية وأبى حفص الحنبلِىّ ومكروهٌ كراهة تنزيه فى المذاهب الثلاثة فى الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه ولا يجوز هدمه عند الشافعية والمالكية مسكوت عنه عند الحنابلة جائزٌ فيها عند ابن القصار المالكِى وطائفة من الحنابلة وحرامٌ للزينة ومكروهٌ للأحكام بعد الدفن عند الحنفية وإن الكتابة عليها مستحبة عند الشافعية جائزةٌ عند الحنفية مكروهةٌ كراهة تنزيه عند المالكية والحنابلة ومَنْ أراد تفصيلًا أكثر من هذا فليطالع باب الجنائز فى المذاهب الأربعة وخاصةً كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلِىّ المُتَوَفَّى سنة اثنتين وستين وسبعمائة الِذى قال فيه هذا (ما تحت أديم السماء أعلم بالفقه من ابن مفلح) وقال له ابن تيمية (أنت مفلح لا ابن مفلح).

وقوله (ولا يصح وقفها) إن كان مراده به البناء على القبور أى تلك المشاهد لا يصح وقفها فقد تقدم تفصيله وإن كان مراده به غيره فلا معنى له.

وقوله (ولا الوقف عليها وللامام أن يقطعها إلى قوله كما أخذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم) فاسد لأن الوقف ليس على صاحب القبر حقيقة وإنما على أولاده وذريته وعلى الفقراء الملازمين لمسجده والمجاورين له وعليه فليس للإمام نزعه منهم وإعطاؤه لغيرهم وكذلك ما يُهْدَى أو يُنْذَرَ له مصرفه ومرجعه حقيقة لمن ذكرناهم ليس للإمام أخذه ومن راجع تعريف النذر لغة وشرعًا فى المذاهب الأربعة تَحَقَّقَ عنده أنه ليس بقربةٍ لذاته ولا بعبادةٍ وقد جعله هذا فى أول هذا الكتاب من العبادة وتقسيم الحنابلة له إلى ستة أقسام دليلٌ على أنه ليس بقربة لذاته ولا بعبادة والنذر لمخلوقٍ نبِىٍّ أو ولِىٍّ عند الحنابلة دائر بين الكراهة والتحريم ولا كفر ولا إشراك فيه.

وقوله (كما أخذ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت إلى قوله يكونوا) فيه صحيحٌ وفاسدٌ، صحيحٌ أخذ النبى صلى الله عليه وسلم أموال الطواغيب لأنها أحجار وأخشاب تُملك ولا تَملك لا تضر ولا تنفع ومع هذا عبدوها من دون الله وصرحوا بعبادتهم لها وعللوا عبادتهم لها بتعليل فاسد وسَمَّوْهَا ءَالِهَةً وسووها برب العالمين كما نطق القرءان بذلك واعتقدوا فيها الضر والنفع من دون الله تعالى والأمثلة على هذا كتابًا أو سنة لا تُحصى، وفاسدٌ قياسُهُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين المتوسَّلِ بهم إلى الله تعالى على الأحجار والأخشاب المعبودة من دون الله تعالى وقياسُ المؤمنين الزائرين لقبروهم على عبدة الأوثان، فلو كان زُوَّارُ قبورِ الصالحين على الهيئة التى زعمها مشركين لوجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى رحمته وشفقته على أمته أن يُبَيِّنَ لها ويحذِّرَها من ذلك بأن يقول لهم لا تزوروا القبور على هذه الهيئة فإن زرتموها عليها فإنكم قد كفرتم وأشركتم لا أن يأمرها بزيارة القبور أمرًا مطلقًا ولو كان البناء على القبور شركًا وكفرًا لوجب عليه صلى الله عليه وسلم بمقتضى شفقته على أمته أن يحذرها منه ويصرح لها بأن البناء على القبور شرك وكفر ويصرح لها أيضًا بأن الأوقاف التى توقف على أصحاب القبور يجب على الامام أن يأخذها ويصرفها فى مصالح المسلمين ويصرح لها ايضًا بأنه يجب عليكم هدم ما بنِى على القبور لأن المبنِىَّ عليهم معبودون من دون الله مثل عبادة الأوثان تمامًا ولا يترك أمته تهيم فى بيداء الشرك وهو المُبَيّنُ للناس ما نزل إليهم، فإذا كانت الأمةُ الزائرةُ للقبور كُلُّها فِى رأي شيخه مشركةً فأين الأمة المسلمة الموحدة التى تكون يوم القيامة ثلثِى أهل الجنة؟ وإذا كانت الأمة الزائرة للقبور كلها مشركة فى رأى شيخه فإمامُها مثلُها عندئذٍ!!

وقوله (ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض) صحيحٌ لم يكونوا يعتدون أنها خلقت السماوات والأرض ولكن عبادتهم لها من دون الله واعتقادهم فيها أنها ءَالِهَةٌ مع الله يناقض عدم اعتقادهم بأنها خلقت السماوات إلخ وأما قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله) فهذا يقولونه بحسب الفطرة التى فطر الله تعالى الناس عليها كما قرره المفسرون وقد حكى القرءان عنهم فى ءَاياتٍ كثيرةٍ أنهم كانوا ينكرون البعث والنشور أشد الإنكار منها قوله تعالى (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) فما ءَامَنَ بربٍّ خلق السماوات والأرض من أنكر البعث والنشور وقدرة الرب عليه فمنكر البعث والنشور من هذا الوجه والدهرِىُّ سواءٌ.

وقوله (بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه) حكمٌ جائرٌ على جميع الزائرين للقبور بالكفر والشرك، ومحلُّ الكفر والشرك القلب ولا يعلم ما فى قلوبهم من المقاصد إلا الله تعالى فقد جار فى حكمه على أهل لا إله إلا الله بالشرك وقد خالفه الحديث الصحيح (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وخالفه أيضًا حديث أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنهما حيث وبخه صلى الله عليه وسلم على قتله الأعرابِىّ بعد ما قال لا إله إلا الله بقوله هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها لذلك اهـ أى خوفًا من السيف وخالفه أيضًا الحديث الصحيح إنِى لم أُؤمَرْ أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم اهـ ومن أجل هذا الحكم الجائر على الزائرين للقبور ينبز التيميون جميع المسلمين المخالفين لهم فى هواهم بالقبوريين والقبورية أى العابدين القبور فى زعمهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلِىّ العظيم،

فهل تكفير المسلمين ورميهم بالشرك الأكبر من هديه صلى الله عليه وسلم أيها العقلاء معاذ الله أن يكون من هديه صلى الله تعالى عليه وسلم.

والله أعلم وأحكم.


[١] المرجع كتاب التعقيب المفيد على هدِى الزرعِىِّ الشديد للشيخ محمد العربِى التبانِى رحمه الله تعالى.