بيان بطلان الشبه التِى احتج بها مَنْ أباح توسعة المسعى(٣) [١]

قبساتٌ من فوائد العالم الشهيد أحمد صادق الدمشقِىّ
رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.

الشبهة الثالثة

قال مبيحو التوسعة (من القواعد الشرعية المتفق عليها  أنَّ الضرورات تبيح المحظورات وأنه كلّما ضاق الأمر اتسع وأن المشقة تجلب التيسير، وقد اضطررنا لتوسعة المسعى فتجوز توسعته وكلما اضطررنا للتوسعة نوسع).

الجواب هذا الاستدلال لتوسعة المسعى خطأ جملة وتفصيلاً وإليك البيان

  1. لا توجد ضرورة لتوسعة المسعى فإنَّ المسعى يتسع لجميع المعتمرين والحجاج ومهما اشتد الزحام فى المسعى فإنه يصل لدرجة الانزعاج المحمول وليس لدرجة الأذى أو الموت وهذا كلام أقوله لأنى خبير به ومَن عرفنى فقد عرف خبرتِى.
  2. ثم على فرض وجود ضرورة لتوسعة المسعى فى الحال أو المآل باعتبار خطة زيادة عدد الحجاج فإنّ أغلب علماء الأمة أجازوا السعى فى فضاء المسعى لأنّ النبى صلى الله عليه وسلم سعى راكبًا ولأنّ مَن ملك أرضاً ملك فضاءها فيمكن التخلّص من المشكلة ببناء طوابق فوق بعضها وكذلك طوابق تحت الأرض فلماذا الإصرار على بناء مسعىً ثانٍ واستباحة المحرَّمات مِن أجله؟! ومَثَلكم كمثل مَن غصّ بلقمة وأمامه كأس من الماء وكأس من الخمر فشرب الخمر وقال الضرورات تبيح المحظورات!!
  3. إنّ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات وغيرها صحيحة وشرعية ولكنها تطبق ضمن ضوابط وفى مسائل معينة وليس فى جميع مسائل الدين وهذا المعنى مقرَّر لدى علماء أصول الفقه فى جميع المذاهب الفقهية ولكن سأكتفى بنقلٍ واحدٍ فقد قال ابن نُجَيم فى الأشباه والنظائر   (المشقة والحرج إنما يُعتبر فى موضوع لا نَصَّ فيه وأمّا مع النص بخلافه فلا يجوز التخفيف بالمشقة) اهـ وقد مرت بك عشرات النصوص التى تحدد طول وعرض المسعى فإذًا ثمة أحكام شرعية لا تخضع لهذه القواعد وثمة أحكامٌ تخضعُ لهذه القواعد ضمن ضوابط حدّدها الشرع فى كل مسألة وسأضرب أمثلة لتوضيح الفكرة فحرمةُ شرب الخمر تخضع لقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) فإذا غصّ شخص وأمامه كأس خمر جاز له شرب الخمر ولكن بشرط أن لا يوجد بديل لتفادى المشكلة وبشرط أن يشرب بمقدار الضرورة فقط لا بمقدار ما يشتهِى وأمّا مثالُ الحكم الذى لا يخضع لقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) فالوقوف بعرفات فى وقتٍ محدَّد لصحة الحج فإنه لا يصح حج مَن لم يقف بعرفات فى الوقت المحدّد مهما كانت الضرورة ومهما كان سبب عدم الوقوف ومهما كان العذر ولا توجد أية ضرورة مهما بلغتْ تجعل الحج صحيحًا لمن لم يقف بعرفات ولو قرأنا التاريخ لوجدنا أنّ حاجة الأمة لتوسيع زمن الوقوف بعرفات ليشمل أيامًا متطاولة حاجة عظيمة أكثرَ مِن توسعة المسعى وثمة الألوف المؤلفة من المسلمين المضطرين حقيقةً لهذا التوسيع.
  4. مرّتْ على المسلمين فترات ضاق عليهم فيها السعى لدرجة الأذى والموت إمّا بسبب البيوت المقامة فى المسعى كما كان قبل سنة 167هـ، أو بسبب تعدى البعض على أرض المسعى وتضييقه كما حصل عدة مرات وسبق بيانه أو بسبب كثرة أعداد الحجاج كما حصل فى بعض العصور فقد قال الفاسِىُّ فِى شفاء الغرام فِى أحداث سنة 619هـ (مات بالمسعى جماعة من الزحام لكثرة الخلق الذين حجوا فى هذه السنة من العراق والشام) وقال الحافظ ابن حجر فِى إنباء الغمر  فِى أحداث سنة 784هـ (وفيها كان الحاج بمكة كثيراً بحيث مات من الزحام بباب السلام أربعون نفساً أخبر الشيخ ناصر الدين بن عشائر أنه شاهد منهم سبعة عشر نفساً موتى بعد أن ارتفع الزحام) وعلى الرغم من الحاجة الماسة والضرورة الملحة لتوسعة المسعى التِى بلغت موتَ بعض الحجاج فى هذه الفترات إلاّ أنه لم يُبِحْ أىُّ خليفة أو عالم لنفسه أن يوسع المسعى وذلك لإجماع المسلمين على عدم جواز التوسعة كما أنه لم يَسْعَ أىُّ مسلم خارج المسعى المعروف وفى كل عصر عالج المسلمون مشكلة ضيق المسعى إمّا بهدم البيوت المقامة فى المسعى أو بإزالة التعدى على المسعى أو ببناء طوابق لسعى الناس فإذاً فالمسعَى إذًا لا يخضع لقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وبقيةِ القواعد التِى ذكرتْ فى الشبهة.
  5. وأخيرًا نقول إذا أردتم تطبيق قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) على المسعى وتوسيعَ المسعى للضرورة فإننا نقول لكم لو كان تطبيقكم للقاعدة صحيحًا فإنّ ضرورة توسيع منى ومزدلفة وتوسيع مدة الوقوف بعرفات وتوسيع مدة رمى الجمار خارجَ أيام العيد كلّ هذا يضطر إليه المسلمون أكثر من ضرورتهم لتوسعة المسعى بل إنّ اختصار عدد أشواط السعى إلى شوطين فقط أفضل من التوسعة بل إنّ ضرورة بناء أكثر من كعبة يُطاف حولها فى العالم الإسلامى ضرورة ملحة جداً أكثر من توسعة المسعى ففى حج هذا العام وفى صباح العيد مات أربعة حجاج اختناقًا من شدة زحام الطواف فى الحرم. ولو نظرنا فى العالم الإسلامى لوجدنا أنّ أفغأ أغلب المسلمين لا يستطيع الحج بسبب عدم اتساع أرض الحرم لحج جميع المسلمين والحل سهلٌ ببناء كعبة ومسعًى وعرفات فى عدة أماكن لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ولكن هذا أمر يرفضه كلُّ مسلم.  وإذا قال لنا مبيحو توسعة المسعى إنّ الحج فرض على القادر وأمّا غير القادر فلا يفترض عليه الحج فلا داعى لبناء أكثر من كعبة قلنا لهم فلماذا لم تطبقوا هذا الكلام الجميل على المسعى أيضًا فتسمحوا لعدد معين من المسلمين بالسَّعْىِ بحسب ما يتسع له المسعى مع طوابقه المتكررة؟  فالنتيجة من الكلام أن نطالبكم بتطبيق قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) على المسعى والكعبة وعرفات أو اعتماد الفقه الصحيح وهو أنّ هذه القاعدة لا تنطبق على جميع الأحكام الشرعية وأنّ هذه القاعدة لها ضوابطها وليست مطيةً لتبرير شهواتنا وأوامر الحكام أو رؤساء الدوائر الحكومية.

فلو قرأنا كتب التاريخ لوجدنا أمثلة لا تعدّ ولا تحصى عن المشقة وأنواع العذاب وفنون الموت والهلاك التى كان يتعرض لها الحجاج القادمون من بلاد خراسان وما وراءها وكذلك الحجاج القادمون من بلاد المغرب والأندلس ومع هذا لم يَتجرَّأ أى عالم على توسيع أو بناء عرفات ومطاف ومسعى جُدُد فى بلاد المشرق أو بلاد المغرب وأمّا أنتم فقد وسعتم المسعى ولا نَدْرِى ماذا ستوسعون بعد هذا بحجة الضرورة والتيسير وفهم مقاصد الشريعة؟!

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب حكم السعِى فى المسعَى الجديد أنه باطل للشيخ أحمد صادق.