الغارة الإيمانية فِى ردّ مفاسد التحريرية (٣)[١]

(حزب التحرير يبيح تقبيل ولمس الرجل للمرأة الأجنبية التِى لا تحل له)

قبسات من فوائد خادم علم الحديث
الشيخ عبد الله بن محمد الهررِى
المتوفى سنة ١٤٢٩ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد فإن من جملة ضلالات حزب التحرير قولهم بجواز تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية وكذا الغمز والمَشْىُ إلى الزنا ونحو ذلك فإنهم ذكروا ذلك فى منشور لهم على شكل جواب عن سؤال نصه (ما حكم القبلة بشهوة مع الدليل) فقالوا فِى الجواب نصًّا (قد فُهم من مجموع الأجوبة المذكورة أن القبلة بشهوة مباحة وليست حرامًا لذلك نصارح الناس بأن التقبيل من حيث هو تقبيل ليس بحرام لأنه مباح لدخوله تحت عمومات الأدلة المبيحة لأفعال الإنسان العادية فالمشِىُ والغمز والمصُّ وتحريك الأنف والتقبيل وزم الشفتين إلى غير ذلك من الأفعال التِى تدخل تحت عمومات الأدلة. فالصورة العادية ليست حرامًا بل هِى من المباحات ولكن الدولة تمنع تداولها وتقبيلَ رجل لامرأة فِى الشارع سواءٌ كان بشهوةٍ أم بغير شهوة فإن الدولة تمنعه فِى الحياة العامة فالدولة فى الحياة العامة قد تمنع المباحات فمن الرجال من يلمس ثوب المرأة بشهوة ومنهم من ينظر إلى حذائها بشهوة ويسمع صوتها من الراديو بشهوة وتتحرك فيه غريزة الجنس على وجه يحرك ذكره من سماع صوتها مباشرة أو من الغناء أو من قراءة إعلانات الدعاية أو من وصول رسالة منها أو نقل له منها مع غيرها فهذه أفعال بشهوة كلها تتعلق بالمرأة وهي مباحة لدخولها تحت أدلة الإباحة) اهـ

ويذكرون فى منشور ءاخر ما نصه (ومن قبَّل قادمًا من سفر رجلًا كان أو امرأة أو صافحَ ءَاخَرَ رجلًا كان أو امرأة ولم يقم بهذا العمل من أجل الوصول إلى الزنى أو اللواط فإن هذا التقبيل ليس حرامًا ولذلك كانا حلالين) اهـ

وقالوا أيضًا بجواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية زاعمين أن الرسول صافح بدليل حديث أم عطية فِى المبايعة المروِىَّ فى البخارِىّ (قالت فقبضت امرأة منا يدها) فإن غيرها لم تقبض يدها وقالوا البيعة تكون مصافحة باليد أو كتابة ولا فرق بين الرجال والنساء فإن لهن أن يصافحن الخليفة بالبيعة كما يصافحه الرجال اهـ

وقالوا فى منشور لهم عنوانه (حكم الإسلام فى مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية) بعد كلام طويل ما نصه (وإذا أمعنا النظر فى الأحاديث التى فهم منها بعض الفقهاء تحريم المصافحة نجد أنها لا تتضمن تحريمًا أو نهيًا) اهـ وختموا هذا المنشور بقولهم (وما يصدق على المصافحة يصدق على القبلة) اهـ

الردّ. روى ابن حبان عن أُميمة بنت رُقَيْقَة وإسحاق ابن راهويه بسند جيد عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (إنِّى لا أصافح النساء) قال الحافظ ابن حجر بعد إيراده للحديث (وفِى الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة ومنعُ لَمْسِ بشرةِ الأجنبية بلا ضرورة) اهـ

أما حديث أم عطية الذي ورد فى البخارِىّ فليس نصًّا فى مس الجلد للجلد، وإنما معناه كنَّ يُشرنَ بأيديهن عند المبايعة بلا مماسة فتعين تأويله توفيقًا بين الحديثين الثابتين ولأنه يتعين الجمع بين الحديثين إذا كان كل واحد منهما ثابتًا.

ثم إنه قد ورد في صحيح البخارِىّ فى نفس الباب الذي ورد فيه حديث أم عطية حديثٌ عن عائشة رضِى الله عنها قالت (كان النبِىّ صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية (لا يشركن بالله شيئًا)[٢] قالت وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأةً يملكها) فلو كان معنى المبايعة المصافحة كما زعموا لكان فِى كلامها تناقض.

قال ابن منظور فى لسان العرب (وبايعه عليه مبايعة عاهده، وفِى الحديث «ألا تبايعونِى على الإسلام» هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة) اهـ فليست المبايعة من شرطها لغةً ولا شرعًا مسُّ الجلد للجلد فالمبايعة تصدق على المبايعة بلا مس ولكن للتأكيد بايع الصحابة النبِىّ صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان بالأخذ باليد وقد تكون المبايعة بالكتابة.

ومما يردُّ كذبهم بأن غير أم عطية مدت يدها للرسول فصافحته فى المبايعة حديث البخاري أيضًا من قول عائشة (لا والله ما مست يدُه يدَ امرأةٍ قط فى المبايعة ما يبايعهن إلا بقوله قد بايعتُكِ على ذلك)، وأيضًا يقال لهم أين فى حديث أم عطية النص على أن غيرها قد صافح النبي فهذا وهمٌ منهم وافتراء. ويدل أيضًا على تحريم المصافحة ومس الأجنبية بلا حائل حديثُ (لأن يطعن أحدُكم بحديدة في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحلُّ له) رواه الطبرانِى فِى المعجم الكبير وحسنه الحافظ ابن حجر ونور الدين الهيثمِىّ والمنذرِىّ وغيرهم. والمس فِى الحديث معناه الجس باليد ونحوها ليس الجماع كما زعمت التحريرية وراوِى الحديث معقل بن يَسار فهم من الحديث خلاف ما تدعيه التحريرية كما نقل ذلك عنه ابن أبِى شيبة فى مصنفه.

فتبين أن التحريرية افتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا عائشة رضِىَ الله عنها وحرفوا اللغة العربية وأباحوا ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومما يدل على جهلهم أنهم ادَّعَوْا أنَّ حديث الطبرانِىّ فى تحريم مصافحة الأجنبية من قبيل خبر الآحاد ولا يعمل به فى الأحكام. فنردُّ عليهم بما ذكره الخطيب البغدادِىّ فى كتاب الفقيه والمتفقه من جواز العمل بحديث الآحاد وقرر الأصوليون أنه حجة فى سائر أمور الدين ولم يخالف فى ذلك باشتراط التواتر إمام من الأئمة فظهر بلا خفاء مكابرة حزب التحرير للحقيقة.

ثم ما يُرْوَى من أنَّ النبِىَّ كانت تقوده أمة سوداء في أحياء المدينة ويقولون فى هذا الحديث حجة على جواز مصافحة المرأة بلا حائل. يقال لهم هذا الحديث ليس فيه النص على أنها كانت تأخذ بيده مصافحة بلا حائل وليس هناك دليل على أنها كانت مشتهاةً وليست دون حد الشهوة، فلا يجوز إلغاء الحديث الصريح الذِى فى مسلم (واليد زناها البطش) من أجل ذلك الحديث الذِى يدخله الاحتمال فإن هذا خلاف قاعدة الأصوليين والمحدثين أنه إن تعارض حديثان ثابتان إسنادًا فى الظاهر يجب الجمع بينهما ما أمكن فإن لم يمكن فإن عُرف المتأخر كان ناسخًا والمتقدم منسوخًا وإلا ذُهب إلى الترجيح. فلو ذهبنا إلى الترجيح كان هذا الحديث أى حديث مسلم هو المعمول به لأن عليه إجماع الأئمة فإن المذاهب الأربعة يحرمون المس بلا حائل بشهوة وبدون شهوة فالحديث الذِى يوافق عمل الأكثر عند المحدثين والأصوليين يكون راجحًا على الذِى يخالفه فكيف بالذِى عليه عمل الجميع.

وانظر أيها القارئ إلى فساد قول التحريرية إنه لا يحرم المشِىُ للزنَى ولا تحرم قبلة الرجل للمرأة الأجنبية وبالعكس وكذا الغمز والمصّ وعَدُّوا كل ذلك من المباحات. أليس هذا الكلام مخالفًا لحديث الطبرانِىّ المذكور، ومخالفًا لحديث مسلم (كُتب على ابن ءادم نصيبه من الزنَى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخُطا والقلبُ يهوَى ويتمنَى ويُصدّق ذلك الفرج ويكذبه) وفِى رواية لأبِى داود (واليدان تزنيان فزناهما البطش والرجلان تزنيان فزناهما المشِى والفم يزنِى فزناه القُبل) والقُبل جمع قُبلة وفى رواية عند ابن حبان (واليد زناؤها اللمس).

فما قالوه يكفِى ردًّا للنصوص ورد النصوص كفرٌ كما قال النسفِىّ وغيره. وأما استدلال التحريرية بحديث أم عطية جاءنا عمر بن الخطاب فقال أنا رسول رسول الله إليكم للمبايعة فمد عمر يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت فبايعناه فليس فيه ذكر المصافحة وإنما فيه ذكر مد اليد من عمر ومنهن فيحمل على أنه كان المد منهن للإشارة للمبايعة.

فالتحريرية يحرفون شرع الله بتحليلهم مصافحة الرجال للنساء الأجنبيات غير المحارم وتقبيلهن عند الوداع وقد خالفوا في هذا الإجماعَ وأحاديثَ صحيحةً كما تقدم ذلك. أما الإجماع فإن المجتهدين الأربعة وغيرهم وأتباعهم من الأمة يحرمون مصافحة الأجنبيات مع اختلافهم فى نقض الوضوء وعدمه. وأما الحديث فإن التحريرية خالفوا حديث عائشة (ما مَسَّت يد رسول الله امرأة لا تحل له قط) رواه البخارِىّ وحديث مَعْقِل بن يسار رضِى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يطعن أحدكم بحديدة فى رأسه خير له من أن يَمَسَّ امرأة لا تحل له) رواه الطبرانِى وحسنه الحافظ ابن حجر فهذه الأحاديث فيها التصريح بحرمة مس المرأة الأجنبية. وقد تقدم هذا كله.

ومن القواعد المقررة عند الأصوليين والفقهاء أن المحتمِلَ لا يعارض الصحيح على أن الإجماع كافٍ وحدَهُ فكيف إذا انضمت إليه هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة فبعد هذا لا يبقى للمخالف إلا المكابرةُ والعناد.

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب الغارة الإيمانية فى الردّ على التحريرية للشيخ عبد الله بن محمد الهررِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] سورة الممتحنة ءاية ١٢.