بر الوالدين[١]

قَبَساتٌ من فوائد عالم مكة وشيخها
السيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩١هـ رحمه الله تعالى

اعلموا رحمكم الله تعالى أنَّ برَّ الوالدين ءَاكَدُ حقوقِ المخلوقين وأولاها وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين حق الوالدين وحقه في كتابه العزيز فقال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وأخرج مسلم في صحيحه باسناده عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (رَغِمَ أنفُهُ ثم رغم أنفه قيل مَنْ يا رسول الله. قال من أدرك والديه عند الكِبَرِ أو أحدَهُما ثم لم يدخل الجنة). والمعنى أن بر الوالدين من موجبات دخول الجنة سيما عند كبرهما واحتياجهما إلى برّ ولدهما وخدمته فمن أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر عَرَضَتْ له فرصةٌ إن انتهزها دخل الجنة فمن لم ينتهز تلك الفرصة رغم أنفه ثم رَغِمَ أنفُهُ يعنِى ذَلَّ وخسرَ. وأخرج أحمد بإسناد حسن عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يغفر له فأبعده الله تعالى).

وبر الآباء من موجبات بر البنين فقد روَى الطبرانِىُّ بإسناد حسن عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم (بِرُّوا أباءكم تبرُّكم أبناؤكم وعِفُّوا تعِفُّ نساؤكم). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الفتَى كما يدين يُدان. وإننِى لأذكر أننِى يومًا رأيتُ رجلًا يضرب أباه في غرفة فاقشعر بدنِى وبالغت في زجره فقال لِى الأبُ هَوِّنْ عليك فإننِى ضربت قبله أبِى في هذه الغرفة نفسها فكان هذا جزاءً وفاقًا نسأل الله السلامة.

وبر الوالدين ليس فِى حال الحياة فقط بل فِى الحياة وبعد الممات فقد أخرج أبو داود أن رجلاً قال يا رسول الله بقِىَ علَّىَ من بِرِّ أبوَىّ شىءٌ أَبَرُّهُمَا به بعد موتهما قال (نعم الصلاة عليهما أى الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التِى لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما).

وقد يكون الولد عاقًا لأبويه فِى الحياة فلا يزال بعد موتهما يستغفر لهما ويتصدق عنهما ويصل رحمها ويندم على معاملته لهما في حياتهما حتى يُكْتَبَ عند الله بارًّا فقد أخرج الحافظ البيهقِىُّ بإسناده عنه صلى الله عليه وسلم قال (إن العبد يموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارًا). وأخرج البيهقِىُّ أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم قال (ما الميت في القبر إلا كالغريق المتغوِّث ينتظر دعوةً تلحقه من أب أو أم أو أخ أوصديق فإذا لَحِقَتْهُ كانت أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها وإن الله لَيُدْخِلُ على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثالَ الجبال يعنِى من الرحمة وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم). وأخرج أحمد في مسنده عنه عليه الصلاة والسلام قال (إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول ياربّ أنَّى لِى هذا فيقول باستغفار ولدك لك).

وينبغِى الاهتمام أيضًا بإكرام صديقهما فقد روى مسلم عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (إن بِرَّ البِرِّ صلةُ الرجل أهله وُدُّ أبيه).  وفي صحيح ابن حبان عن أبِى بُرْدَةَ رضِى الله عنه قال قدمت المدينة فأتانِى عبد الله بن عمر قال أتدرِى لم أتيتُك قلتُ لا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (مَنْ أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصلْ إخوان أبيه بعده) وأنه كان بين أبِى عُمَرَ وبين أبيك إخاءٌ وودٌّ فأحببتُ أن أصلَ ذلك.

وَلْيُحْذَرْ من العقوق فإنه من الكبائر أخرج النسائِىُّ بإسنادِ جيدِ عن النبِىِّ صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والديوث هو الرجل الذي يُقِّرُ الخبث في أهله، والرَّجِلةُ المرأة المتشبهة بالرجال).

ومن العقوق شتم الناس حتى يشتموه فِى أبويه ففِى الصحيحين عن النبِى صلى الله عليه وسلم قال (من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسبُّ الرجلَ أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)  وفي صحيح ابن حبان عن النبِى عليه الصلاة والسلام قال (لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من سَبَّ والديه). وعند الحاكم عنه صلى الله عليه وسلم قال (كل الذنوب يُؤَخِّرُ الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات).

وينبغِى أن يزيدَ أمَّهُ فِى البر فإن حَقَّهَا أكبرُ وهِى أضعف. ففِى الصحيحين عن أبِى هريرة رضِى الله عنه قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بصحابَتِى قال (أمك) قال ثم من قال (أمك) قال ثم من قال (أمك) قال ثم من قال (أبوك).

والله تعالى أعلم وأحكم.


[١] المرجع كتاب نفحات الإسلام من محاضرات البلد الحرام للسيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ رحمه الله تعالى.