تحريمُ أكل ورق القنَّب الهندىِّ المسمَّى بالحشيشة[١]

قبسات من فوائد أبِى عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشِىّ الشافعِىّ
المتوفى سنة ٧٩٤هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله على إنعامه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة أصفيائه، وعلى ءَاله وصحبه خير أوليائه وبعدُ فهذه فصولُ كلامٍ على الحشيشة اقتضَى الحال شرحها لعموم البلوَى لكثير من السفلة بها. والأطباء يسمونها القنب الهندِىّ. ولم يتكلم فيها الأئمة الأربعةُ رحمهم الله وغيرُهُم من علماء السلف لأنَّها لم تكن فِى زمنهم، وإنَّما ظهرت فِى أواخر المِائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار وكانت شَرَّ داخلٍ على بلاد العجم حين استولَى على من فيها التتارُ ثم انتقلت إلى بغداد وقد عُلِمَ ما جرَى على أهلها من قبيح الأثر.

(فصلٌ) فِى مضارها فِى العقل والبدن

ذَكَرَ بعضهم أنَّه جُمِعَ فيها مِائَةٌ وعشرون مضرةً دينية ودنيوية، وقد قال محمد بن زكريا الرازِىُّ إنَّ أَكْلَ ورقها يصدعُ الرأسَ ويقطع المنىَّ ويجففه، ويولّدُ الفكرة، وهو يورث موتَ الفجاءة، واختلالَ العقل، والدقّ اهـ

وقال بعضُ الأئمة إنَّها تشارك الخمر فِى كون ضررها فِى الدين والبدن ففيهما سكرٌ وفسادُ الفكرِ ونسيانُ الذكرِ وإفشاءُ السرِّ وذهابُ الحياء وكثرةُ المراءِ وعدمُ المروءةِ وكشفُ العورةِ وقمعُ الغَيْرَةِ وإتلافُ الكيسِ وتركُ الصلاة والوقوعُ فِى المحرمات.

هذا بعض ضررها في الدين. وأما البدن فتفسد العقل، وتقطع النسل، وتجلب الأسقام وتكسب الرعشة، وتنتن الفم، وتجفف المنِىَّ، وتسقط شعر الأجفان، وتحرق الدم وتحفرالأسنان، وتظهر الداء الخفِىّ، وتضر الأحشاء، وتبطل الأعضاء، وتضيق النفس، وتُقَوِّى الهوس، وتنقص القوى، وتُقِلُّ الحياء، وتصفِّرُ الألوان، وتُسَوِّدُ الأسنان، وتثقب الكبد، وتوهج المعدة، وتولد فِى الفم البَخَر، وفِى العين الغشاوة وقلة النظر، وفِى المخيلة كثرة الفكر.

ومن أوصافها المذمومة أنَّها تُكْسِبُ ءَاكِلَها الكسل، وتورثه الفشل، وتجعل الأسد كالعجل، وتُصَيِّرُ العزيزَ ذليلًا، والصحيحَ عليلًا، إن أكل لا يشبع، وإن أعطَى لا يقنع، وإن كُلِّمَ لا يَسمع، تجعل الفصيحَ أَبْكَمَ، والفطيحَ به أبلم، تُسْقِطُ المروءة، وتزيل الفتوة، ثم إنَّها تفسد الفكرة، وتبلد الفطرة، وتخمد الفطنة، وتجعل النوم له مظنة، ولله در القائل

وأصغُر دائِهَا والداءُ جَمٌّ         بغاءٌ أو جنونٌ أو نَشَافُ

قلتُ ومن أعظم دائها أنَّ متعاطيَهَا لا يكاد يتوبُ لتأثيرها في مزاجه، وأنت ترَى أَهْلَهَا أكثرَ الخلق ضلالاً وتجافيًا عن الاستقامة، وأقرب إلى الدَّنِيَّةِ وأَسْفَهَ أحلامًا، وأفسد تصرفًا، ولله دَرُّ القائل

قل لمن يأكل الحشيشة جهلًا    يا خسيسًا قد عِشْتَ شَرَّ مَعِيشَهْ

دية العقل بدرة فلماذا   يا سفيهًا قد بعتها بحشيشهْ

 

والذِى عليه الأطباء والعلماء لأحوال النبات أنها مُسْكِرَةٌ منهم أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقىُّ العشَّابُ ابنُ البيطار فِى كتاب «الجامع لقوَى الأدوية والأغذية» قال ومِن القنب الهندِىّ نوع ثالث يقال له القنب ولم أره بغير مصر ويزرع فِى البساتين ويُسَمَّى الحشيشة أيضًا وهو يسكر جدًّا إذا تناول منه الإنسان يسيراً قدر درهم أو درهمين، حتى إنَّ مَنْ أكثر منه أخرجه إلى حَدِّ الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وربما قتل اهـ وقال فِى علاجه القَىْءُ بسمنٍ وماءٍ ساخن حتى تنقِى المعدة، وشراب الحماض لهم في غاية النفع اهـ

وأما الفقهاء فمنهم مَنْ قد صرحوا بأنها مسكرة منهم أبو إسحاق الشيرازِىُّ رحمه الله في كتاب «التذكرة في الخلاف» والشيخُ محيِى الدين النووىّ رحمه الله فِى «شرح المهذب». وقال أبو العباس القرافِىُّ فِى قواعده نصَّ العلماء بالنبات في كتبهم على أنها مسكرة، والذِى يظهر لِى أنَّها مفسدة. قال وتحرير الفرق بين المُفْسِدِ والمُرَقِّدِ والمُسْكِرِ أن المتناول من هذه إما أن يغيب عنه الحواس أو لا فإن غابت عنه الحواس كالسمع والبصر واللمس والشم والذوق فهو المرقد، وإن لم يغب عنه الحواس فإما أن يحدث معه نشوة وسرور أو قوة عند التناول غالباً أم لا فإن حدث فهو المسكر وإلا فهو المفسد فالمسكر هو المغيب للعقل مع نشوة وسرور كالخمر والمفسد هو المشوش للعقل مع عدم السرور الغالب كالبنج.

ويدل على ضابط المسكر قول الشاعر

ونشربها فتتركنا ملوكًا                      وأُسْدًا ما يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ

فالمُسكِرُ يزيد فِى الشجاعة والمروءة وقوةِ النفس والميل إلى البطش فِى الأعداء والمنافسةِ فِى العطاء، ومنه قول القاضِى عبد الوهاب المالكِىّ رحمه الله تعالى

 

زعم المدامة شاربوها أنها                تنفِى الهموم وتَصْرفُ الغَمَّا

صدقوا سَرَتْ بعقولهم فتوهموا          أنَّ السرور لهم بها تَمَّا

سَلَبَتْهُمُ أديانَهُمْ وعقولَهُمْ                أرأيتَ عادمَ دينِهِ مُغْتَمَّا

قال فظهر بهذا أن الحشيشة مفسدة وليست مسكرة لوجهين

أولهما أنها تثير الخلط الكامن فِى الجسد كيفما كان فصاحب الصفراء تحدث له حدة، وصاحب البلغم تحدث له سباتًا وصمتًا، وصاحب السوداء تحدث له بكاء وجزعًا، وصاحب الدم تحدث له سرورًا يقدر حاله، فتجد منهم مَن يشتد بكاؤه، ومنهم مَن يشتد صمته، وأما الخمر والمسكرات فلا تكاد تجد أحدًا ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور بعيد عن صدور البكاء والصمت.

وثانيهما إننا نجد شُرَّابَ الخمرِ تكثر عربدتُهُمْ ووثوبُ بعضهم على بعضٍ بالسلاح وأكلةَ الحشيش خلافَ ذلك، بل هم رقدةٌ سكوت، وهم أشبهَ شىءٍ بالبهائم.

(فصلٌ) فِى أنها حرام

وقد تظاهرت الأدلة الشرعية والعقلية على ذلك. أما الكتاب والسنة فالنصوص الدالة على تحريم المسكر تناولَتْهَا عند القائلين بأنها مسكرة وفي صحيح مسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام). وقد قال الله تعالى (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) وأىُّ خبيثٍ أعظمُ مما يُفْسِدُ العقول التي اتَّفَقَتِ المِلَلُ والشرائع على إيجاب حفظها، وقد حرم الله تعالى إذهاب العقول باستعمال ما يزيلها، أو يفسدها أو يخرجها عن مخرجها المعتاد.

وروى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضِى الله عنها قالت نهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفَتِّرٍ اهـ قال العلماء المفتر كل ما يورث الفتور والخدر فِى الأطراف، وهذا الحديث أدلُّ دليلٍ على تحريم الحشيشة بخصوصها فإنها إن لم تكن مسكرةً كانت مفترة مخدرة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها وتثقِّلُ الرأسَ بواسطة تبخيرها للدماغ.

وأما الإجماعُ على تحريمها فقد نقله غيرُ واحد منهم القرافِىّ فِى قواعده أىْ لضررها. وتحريمُها داخلٌ أيضًا عند مَن قال بأنَّها مسكرةٌ تحت الإجماعِ على أنه يحرم تناول المسكر قال الإمام الرافعِىُّ رحمه الله عَمَّمُوا النبات وغيره اهـ وقال صاحب بحر المذهب فى باب الأطعمة إن النبات الذِى يسكر وليست فيه شدة مطربه يحرم أكله اهـ وفِى فتاوَى المرغينانِىّ من الحنفية أن المسكر من البنج وأن لبن الرماك حرام ولا يحل ولا حَدَّ فيه، قاله الفقيه أبو جعفر ونص عليه شمس الأئمة السرخسِىّ. انتهى.

(فصلٌ) فِى بعض أحكامها

منها جواز التداوِى بها إن ثبت أنها تنفع من بعض الأدواء، وقد قيل إنها تحلل النفخ وتنقِى الأبرية من الرأس عند غسله بها والأبرية مرض يحدث بسطح الرأس وهِى بُثُورٌ بيضٌ مبصرة والعلة في فعلها لذلك ما اشتملت عليه من الحرارة واليبس، وينبغِى الجزم بالجواز عند ذلك. وفِى كلام الزعفرانِىِّ ما يدلُّ على الإجماعِ على جوازِ تناول القليل منه للحاجة اهـ وقال الرويانِىّ فِى «البحر» ويجوز التداوِى به وإن أفضَى إلى السكر إذا لم يكن منه بُدٌّ اهـ

ومنها جوازُ بيعها لأجل التداوِى وأمَّا بيعها لمن يتحقق منه تعاطيها فحرامٌ كما فِى بيع العنب لعاصر الخمر.

ومنها أنه يقع طلاقُ ءَاكِلِهَا قال الجرحانِىّ فِى «الشافِى» لو شرب مختارًا أو شرب البنج تهزيًا أو تطربًا فزال عقله وقع طلاقه لأن فعله معصيةٌ فَلَزِمَهُ ما تَوَلَّدَ منه كِسرَايَةِ القَطْعِ فى القِصاص والسرقة اهـ

ومنها قال القاضِى حسين رحمه الله فِى باب صلاة المسافر من «تعليقته» إذا شرب البنج وغيره مما يزل العقل فعليه قضاء الصلاة والصيام بعد الإفاقة كالسكران لأنه جلب إزالةً أى لعقله بنفسه فيؤاخذ به اهـ

والله سبحانه وتعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب زهر العريش في تحريم الحشيش للزركشِىّ.