رسالة فى شروط الجمعة وتعدد الجمع فى البلد الواحد[١]

قبساتُ من فوائد السيد أبِى بكر بن السيد محمد شطا رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (اعلم) رحمك الله تعالى أن إقامة الجمعة فرض عين على كل مسلم مكلف حر ذكر مقيم غير معذور بمرض ونحوه للخبر الصحيح الجمعة حق واجب على كل مسلم فى جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبى أو مريض فلا جمعة على غير مكلف ولا على من فيه رق ولا على امرأة وخنثى ومريض ومسافر ولصحتها شروط ستة

(أحدها) وقت الظهر بأن يبقى منه ما يسعها مع خطبتيها فلو ضاق الوقت عنها وعن خطبتيها أو شك فى ذلك وجب الظهر ولا تُقْضَى جمعة إذا فاتت (ثانيها) أن تقع فى أبنية مجتمعة ولو فى فضاء بين الأبنية فلا يشترط المسجد والمراد الأبنية ولو باعتبار ما كان فلو انهدمت فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها لأنها وطنهم فلا تصح بخيام لأن أهلها على هيئة المستوفزين نعم لو سمعوا النداء من محلها لزمتهم فيه تبعا لأهله وكذلك لو كانت خيامهم فى خلال الأبنية وهم مستوطنون فإنها تلزمهم وتنعقد بهم.

(ثالثها) أن تقع جماعة فى الركعة الأولى

(رابعها) إقامتها بأربعين مسلمين مكلفين أحرار ذكور مستوطنين بمحل إقامتها لا يظعنون شتاء ولا صيفا
(خامسها) تقدم خطبتين على الصلاة

(فائدة) لو خطب شخص وأراد أن يقدم شخصا آخر ليصلى بالقوم فشرطه أن يكون ممن سمع الخطبة وإن زاد على الأربعين.

(سادسها) إن لا يسبقها بتحرم ولا يقارنها فيه جمعة بمحلها لامتناع تعددها بمحلها إلا إن كثر أهلها وعسر اجتماعهم فى محل من البلد ولو فضاء ولو غير مسجد فيجوز تعددها للحاجة بحسبها والحاصل ان المقرر أن الجمعة لا يجوز تعددها عند الشافعى رضى الله عنه وعند كثير من العلماء إلا إن احتيج إليه بأن لم يكن فى البلد محل يسع أهلها فحينئذ يجوز التعدد بقدر الحاجة فقط. وأنه لا يُشترط لإقامتها المسجد بل متى كان فى البلد محل يسع أهلها ولو غير مسجد وجبت إقامة الجمعة، وأنه إذا وقع تعددٌ غير محتاج إليه كانت الجمعة الصحيحة هى السابقة، والعبرة فى السبق بالتحرم لا بغيره.

قال ابن حجر فى الفتاوى يجب على المقلدين للشافعى رضى الله عنه الاجتماع للجمعة فى محل واحد من البلد حيث أمكن ومتى خالفوا ذلك وصلوا صلاة فاسدة أثموا وفسقوا أو وردت شهادتهم وعزرهم الإمام التعزير البليغ لكن لا يحل قتلهم إلا إن تركوا الجمعة وإن قالوا نصلى الظهر بدلها فيستتيبهم الإمام فإن ابوا قتلهم قتل تارك الصلاة بشرطه المعروف فى بابه ولا تحل أموالهم إلا إن استحلوا ترك الصلاة المكتوبة سواء الجمعة وغيرها فإنهم حينئذ يكونون مرتدين فإذا قتلهم بذلك كانت أموالهم لبيت المال إلخ اهـ

ثم إنه من أسباب عُسْرِ اجتماعهم أيضًا خوفٌ نشأ من قتال بينهم، أو بعدُ أطرافِ البلد بأن كان بمحل لا يسمع منه النداء أو بمحل لو خرج منه بعد الفجر لم يدركها إذ لا يلزمهم السعى إليها إلا بعد الفجر كما سيأتى بيانه قريبًا والحاصل أن عسر اجتماعهم المجوّزَ للتعدد إما لضيق المكان أو لقتال بينهم أو لبعد أطراف المحل بالشرط المذكور، وعبارةُ التحفة قال فى الأنوار أو بعدت أطراف البلد أو كان بينهم قتالٌ والأول محتملٌ إن كان البعدُ بمحل لا يسمع منه نداؤها بشروطه السابقة وظاهر إن كان بمحل لو خرج منه عقب الفجر لم يدركها لأنه لا يلزمه السعى إليها إلا بعد الفجر اهـ و مثلها عبارة النهاية حرفا بحرف اهـ وقوله وظاهر معطوف على محتمل أى والأول محتمل إن كان إلخ وظاهر إلخ وغرضه من ذكر هذا مع قوله والأول محتمل إن كان إلخ اهـ كما صرح به الرشيدى أن كلام الأنوار لا يصح حمله على إطلاقه فيحتمل تقييده بما إذا لم يسمع النداء ويحتمل وهو الظاهر تقييده بما إذا كان بمحل لو خرج منه عقب الفجر إلخ فلا بد من حمل كلام الأنوار على أحد هذين الاحتمالين لكن الثانى أظهر عند ابن حجر والرملى. والذى استوجهه ابن قاسم أن مشقة السعى التى لا يُحتمل عادة تجوّز التعدد دون الترك رأسًا ولو كان بمحل يسمع منه النداء حيث لحقه بالحضور مشقة لا يحتمل عادة لتحقق العذر المجوز للتعدد، قال ولعل هذا هو مراد الأنوار اهــ وفى حاشية الجمل نقلًا عن البرماوىّ ما يوافقه ونص عبارته ومِن صُوَرِ جوازِ التعدد بُعْدُ طَرَفَىِ المحل بحيث تحصل مشقة لا تُحتمل عادة لأنها تسقط السعى عن بعيد الدار.

ومن صور جوازه أيضًا وقوع خصام بين أهل جانبى البلد وإن لم تكن مشقة اه وهذا هو الظاهر الموافق لضبطهم لعسر الاجتماع فى محل بأن تكون فيه مشقة لا يحتمل عادة والمشقة تجلب التيسير. وعبارةُ الكردى تؤيد ذلك ونصها فضابط العسر كما فى التحفة أن يكون فيه مشقة لا تحتمل عادة. وفى العباب إما لكثرتهم أو لقتال بينهم أو لبعد أطراف البلد اهـ ونقل عن الإيعاب لابن حجر ضابط البعد بالاحتمال الأول من احتمالَيْهِ فقال قال فى الإيعاب وحد البعد هنا كما فى الخارج عن البلد أى بأن يكون من بطَرَفِها لا يبلغهم الصوت بشروطه الآتية اهـ فتلخص أنهم اختلفوا فى ضابط البعد بين أطراف البلد فتردد ابن حجر فى التحفة والرملى فى النهاية بين كونه بحيث لا يسمع النداء من بطرفه البعيد وبين كونه لو خرج بعد الفجر لم يدرك الجمعة واستظهرا الثانى والذى اختاره ابن قاسم أن المدار على المشقة فمتى وجدت المشقة التى لا تحتمل عادة فى الحضور جاز التعدد ولو كان يسمع النداء ولو خرج بعد الفجر أدرك الجمعة وتبعه البرماوى وغيره فى الضابط المذكور فيجوز الأخذ بقول كل ولا ينبغى النزاع فى أمثال هذه المسئلة والله ولى التوفيق.

(واعلم) أنه إذا اتصلت القريتان بحيث تعدان فى العرف قرية واحدة امتنع تعدد الجمعة حينئذ.

(وسئل) ابن حجر عن بلدة تسمى راون بها ثلاثُ قُرًى مختصةٌ كل قرية باسم وصفة بين كل قرية أقل من خمسين ذراعًا مثلًا فبنوا مسجدًا لإقامة الجمعة فى خطة أبنية أوطان المُجَمِّعِين فصلَّوا فيه مدة مديدة فحصل بينهم مقاتلة فانفردات قرية من الثلاث بجمعة فى قريتهم وأهل القريتين بنوا مسجدًا ثانيًا لجمعة أخرى فهل يلزمهم أن يجتمعوا لجمعة واحدة وتبطل الأخرى بوجود الأمان بينهم أو لا (فأجاب) نفع الله بعلومه حيث كانت القرى المذكورة يتمايز بعضها عن بعض وكان فى كل قرية أربعون من أهل الجمعة فى بلدهم خرجوا عن عهدة الواجب وصحت جمعتهم سواء المتقدمة والمتأخرة وإنما يأتى التفصيل بين علم السابقة وغيرها إذا أقيمت جمعتان أو أكثر فى بلد أو قرية واحدة مع عدم الاحتياج إلى التعدد بأن كان بين أبنية البلد مسجد أو فضاء يسع أهلها فحينئذ لا يجوز لهم تعددها بخلاف ماذا لم يكن فيها محل يسعهم فإنه يجوز لهم التعدد بقدر الحاجة فإن زاد فى التعدد على الحاجة فالسابقة إذا عُلِمَت هى الصحيحة والعبرة فى السبق براء تكبيرة إحرام الإمام وإن لم تُعلم السابقة أو عُلمت ثم نُسيت وجب الظهر على الجميع وإن علم وقوعهما معًا أو لم يعلم سبق ولا معية أعيدت الجمعة إذا اتسع الوقت ويندب لهم أن يقيموا الجمعة ثم الظهر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب اهـ وقال فى التحفة قال ابن عجيل ولو تعددت مواضع متقاربة وتميز كل باسم فلكل حكمه اهـ وإنما يتجه إن عد كل مع ذلك قرية مستقلة عرفًا اهـ قال فى بغية المسترشدين أى بحيث لو خرج المسافر من أحداهما إلى جهة الأخرى عد مسافرًا عرفًا بأن فصل بينهما فاصل ولو بنحو ذراعين إن عده العرف فاصلًا كالمقابر وملعب الصبيان ومطرح الرماد والمناخ والنادى ومورد الماء والمزارع أو لم يفصل ما ذكر لكن لم يتصل دورها الاتصال الغالب فى دور البلدان اهـ ولو كانت قرى متفاصلة فاتصلت عمارتُها فلا يجوز تعدد الجمعة فيها وحكِى فِى المنهاج قولًا ضعيفًا يجوّز تعددها بعدد تلك القرى أى استصحابًا لحكمها الأول.

وبما ذكر كله يعلم الجواب عن حادثة وهى أن قرية كانت منفصلة عن بلدة تقام الجمعة فيها ثم اتصلت عمران تلك البلدة بالقرية فأقام أهل القرية الجمعة فيها فلا تصح إلا إن لم يسمعوا نداء البلدة أو لو خرجوا بعد الفجر لا يدركونها على ما سبق أو كان بينهم قتال فإنها تصح نعم لو أرادوا تقليد القول الضعيف الذى حكاه فى المنهاج صحت خصوصا إذا كانوا لو كلفوا السعى إلى جمعة البلد أداهم ذلك إلى تركها بالكلية ويعلم الجواب أيضا عن حادثة وهى أن بلدة كانت مسورة وبعد السور قرية ثم أزيل السور ولم يوجد اتصال العمران بيهما فتصح إقامة الجمعة فى القرية إن تميزت باسم وصفة.

(فائدة) إذا تعددت الجمعة لحاجة صحت للجميع على الأصح وتسن الظهر مراعاةً لمقابله لأن عندنا قولًا بعدم جواز التعدد مطلقًا ولو مع وجود الحاجة وإذا تعددت لغير حاجة فى جميعها أو بعضِها ووقع إحرام الأئمة معًا أو شكُّوا فى المعية والسبق بطلت على الجميع، ثم إن أمكن استئناف جمعة بخطبتيها وجب وسن معها الظهر كما فى شرح المنهج فى مسئلة الشك وأما مسئلة المعية فلا تُسَنُّ الظهر بل لا تصح، وإذا تعددت مُرَتَّبَةُ وعُلم السبقُ صحت السابقات إلى انتهاء الحاجة وبطلت فيما زاد، ثم من غلب على ظنه أنه من السابقات لا تجب عليه الظهر بل تسن له فقط أو من الزائدات أو شك وجبت الظهر. والحاصل أن صلاة الظهر بعد الجمعة إما واجبة أو مستحبة أو ممنوعة فالواجبةُ كما فى مسئلة الشك، والمستحبة فيما إذا تعددت بقدر الحاجة من غير زيادة، والممتنعة فيما إذا أقيمت جمعة واحدة بالبلد فيمتنع فعل الظهر والله سبحانه وتعالى أعلم.

 


[١]  أصل هذه الرسالة نسخة مطبوعة فى حياة المؤلف رحمه الله تعالى.