حكم تعدد الزوجات فى الإسلام[١]

قبسات من فوائد شيخ حماه العالم المجاهد محمد الحامد الحنفِىّ
المتوفَى سنة ١٣٨٩هـ رحمه الله تعالى

إن الله عليمٌ حكيمٌ، تشريعاتُهُ سبحانه وتعالى غنيةٌ بالحِكَم زاخِرَةٌ بالفوائد للعباد جامعةٌ للمنافع مانعةٌ للمضار، وقد يُدرك الناس حِكمة ربِّهم سبحانه فى بعض المشروعات وقد تَخْفَى عليهم فى بعضٍ ءَاخَرَ فالمؤمنون يؤمنون بها والكافرون ينكرونها ويتخذون مِنْ خَفَاءِ بعضِ الحِكَمِ ذريعةً للنَّيل من المشروعات الإلهية ويَشُنُونَ عليها هجومًا عنيفًا يَرمون من ورائه إلى زلزلة العقيدة فى المؤمنين وقد فعلوا هذا كثيرًا وما زالوا يفعلون.  ومن المُحزن أنَّه سمعَ لهم فريقٌ من أبناء المسلمين لضعف بنائهم العِلمِىّ فقاموا يَنعقون بآرائهم ويحبذونها طاعنين فى شرع الله المتين (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[٢].

ومَنْ طَعَنَ فِى أحكام الله واستَهْجَنَها فأين هو من الإيمان وأين الإيمان منه.

والذِى يتوجب على حملة الشريعة وفقهاء المِلَّة أن يذودوا عن حياضِ الدين بعلم وعرفان جهد طاقتهم تثبيتًا للضعفاء وتنويرًا للعقول ودعوة للشاردين عن باب الله تعالى إلى الأوبة إليه والرجوع إلى حظيرة الإيمان و (إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)[٣].

تعدُّدُ الزوجات فى الإسلام أثار علينا المخالفون من أجله عَجَاجات وأعاصيرَ من الانتقادات وأهبوا زوابع من الاعتراضات وطعنوا بسببه فى ديننا مطاعن مُرَّة فلنكن يقظين متسلحين بالمعرفة لصد هجوم الباغين.

بعث الله نبيه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بتحريم الفواحش كلِّها فلا زنًا ولا لواط ولا سحاق بين النساء ولا إتيانَ للبهائم ولا شىء من الأنْكِحَة الفاسدة التِى كانت قبل البعثة إنْ هو إلا الوَطْءُ الحلال للزوجة أو الأمة المملوكة مِلكًا صحيحًا شرعيًا. وفى حصر قضاء الوطر فى هاتين إبقاءٌ على الصحة الجسدية والشرف والكرامة وصيانة للأمة أفرادًا وجماعات عن رِجْسٍ يُودِى بها إلى الانهيار ثم الانقراض.

جاء الإسلام وقد تعارف الناس فيما تعارفوا أن للرجل الحقَّ فى أن يتزوج من النساء ما يشاء من غير تقيد بعدد مخصوص ولا مراعاة للعدل بين الزوجات فأصلح الإسلام هذا الأمر فجعل الحد الأقصَى فيه أربعًا ولم يمنعه ولكنه لم يُوجبه علمًا بأن كثيرًا من الأزواج لا يتم لهم السكون الزوجِىّ والهناء العائلِىّ إلا فى حال توحيد الزوجة. إذًا فالإسلام لم يمنع الأمر ولم يُوجِبْهُ لِمَا فِى المنع والإيجاب من الحرج الذِى يعمل الدين بجملته وتفصيله على نفيه.  أبقاه فى دائرة الإباحة ولكن قَيَّدَهُ بواجب العدل بين الزوجات فمن ءَانَسَ مِنْ نفسه الكفاءة والقُدرة عليه فليتقدم وإلا فالوقوف حيث هو مع زوجة واحد أسلم وأحكم.

تعدد الزوجات محظور على غير العادل، ولو أنَّ المُعَدِّدِينَ عَقَلُوا قولَ الله تبارك وتعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)[٤] أىْ أقرب من أن لا تميلوا وتجوروا، أقول لو عقل المُعدِّدُونَ هذا لوقفوا عند الحدود فإما واحدة فقط وإما عدل يجلب الهناء ويَنْفِى الشقاء فلا يكونون بتعديدهم مُطْلِقِى ألسنةِ أعداء الإسلام بالنيل منه عن طريقهم لمعاملتهم أزواجهم معاملةً شاذةً جائرةً. إنَّهم بهذا شَوَّهُوا فى أعين البعضِ وَجْهَ الحِكمة فى إبقاء الله تعالى التعدد مُباحًا.

ولْنَزِدِ الأمرَ نظرًا وشرحًا.

أولًا الرجل مُستعدٌ للإعقاب طولَ حياته أما المرأةُ فإنَّها غيرُ مستعدة له إلا إلى السنة الخامسة والخمسين من عمرها ثم ينقطع حملها لدخولها فى سِنِّ الإياس وإنَّ أقصَى ما تستطيع المرأة إعقابه عادة عشرون ولدًا وهو ربع ما يستطيعه الرجل المتزوج بأربعة حرائر. إنَّه يستطيع استيلادهُنَّ ثمانين ولدًا. ولئن لم يَهْوَ بعض الناس هذه الكثرة فإنَّ كثيرًا من المُوسِرِينَ والأُمراء يَهْوَوْنَها بل إنَّ الأُمة بمجموعها تُحِبُّها فإنَّ النصر من أسبابه الكثرةُ والعربُ أمةٌ وَلُودٌ أذابوا غيرهم فيهم فى كُلِّ قِطْر حَلُّوه عن طريق التزاوج ومن تَأَمَّلَ هذه الحكمةَ فَقِهَ سِرَّ تعدد الزوجات ولَمَسَ نفعه وقديمًا قال القائل

ولستَ بالأكثرِ مِنْهُم حَصًى        وإنَّما العِزَّةُ للكَاثِرِ

وقد رأينا الكثرةَ وما صنعتْ فى الحرب الأخيرة والمسلمون أحوج إليها لكثرة أعدائهم.

ثانيًا قد يتزوجُ الرجلُ امرأةً للنسل وهو الغايةُ الكُبرَى من الزواج فيجدها عاقرًا لا تلدُ وهو راغبٌ فى الذُرية ولا يريدُ طلاقها حُبًّا لها أو شَفقةً عليها فَمِنْ مصلحتها والحالة هذه أن ينكح أُخرَى غيرها تأتيه بما تقّرُ به عينه من الذرية مع بقاء الأولَى ناعمة بنعمة الزواج.

ثالثًا ثبتَ أنَّ كثيرًا من الرجال لا تُشبِعُ غرائزهم امرأةٌ واحدةٌ فلا يَفْتَؤُنَ يتطلعون إلى غير ما لديهم بشَغَفٍ فإذا لم يُفتح لهم باب النكاح الصحيح وقعوا فِى الزنا القبيح فقبروا كرامتهم وشرفهم وضيعوا دينهم وخلقهم.

رابعًا قد يتزوج الرجل المرأة وهو ذو مِزاج حارٍّ مهتاج يدفعه إلى كثرة الوطء وقد تكون المرأة قليلة الرغبة فى المباضعة بعكس مزاجه فماذا يصنع لإشباع رغبته هل هو إلا الزنا لو لم يُفتح له باب الزواج من أخرَى.

خامسًا قد تكون المرأة طويلةَ الحيضِ إلى عشرة أيام كما يقول الحنفية أو إلى خمسة عشر يومًا كما يقول الشافعية وهو أكثر الحيض عندهم وقد يمتد نفاسها إلى أكثره وهو أربعون يومًا عند الحنفية وستون يومًا عند الشافعية وقد يكون الرجل مع هذا قوِىَّ الغريزة غزير المادة واللهُ تعالى حرّم إتيان الحائض والنفساء فماذا يكون من الرجل ءَانَئِذٍ، إنَّه إما أنْ يَصْبِرَ ولا يصبرُ إلا متين الدين راسخ الصلاح وإما أن يأتِىَ زوجته مع الحظر الشرعِىّ فيأثم أو يمشِى إلى الفواحش وهناك البلاء الأعظم.

سادسًا قد يكون الرجل فِى قُطْرٍ بعيد عن امرأته فيضطر إلى الزواج بغيرها تصونًا من الزنا القبيح.

سابعًا النساء فى أكثر الأمم أكثرُ من الرجال وقد تزدادُ هذه الكثرةُ فِى أعقاب الحروب التِى تجتاح الآلاف بل الملايين من الرجال فيتفاحش عدد الأيامِى والعازباتِ فلو حُظِرَ الزواج بأكثر من واحدة فهل لأؤلئك التعيسات وقد حُرِمْنَ من نعمة الزواج إلا الخدمة فى المطاعم والفنادق والمعامل وهُنَّ فى خلال هذا يُتَاجِرْنَ بأعراضهن ويَبِعْنَهَا بأنجس الأثمان.  أين الرحمة بالنساء إذا فتح عليهم باب الشقاء والسقوط فى الرذيلة وأغلق عنهن باب الراحة فى الحياة الزوجية الشريفة.

ثم ماذا يفعل أولئك البوائس حال الحمل من الزنا بالوحم وءالامه والوضع ومشتقاته ثم بالحضانة والإرضاع والتغذية والكسوة والتربية لما يضعن.

الزنا غالب الوقوع عند تفاحش الكثرة من النساء كما يقع فى أوربا فيصير إليه النساء بتأثير الجوع والحرمان أو بتأثير الشهوة الطبيعية أو بإغراء العاهرين من الرجال وما أكثرهم وهل للعاهر من أمانة؟ إنَّه يَزنِى ثم يَزنِى ثم يَزنِى ويتخذ الزنا دَيْدَنًا له ولا يُبَالِى بما يَترك عمله هذا من فواجع وحسرات فى قلوب المزنيات الشقيات وقلوب أهلهن.

هذا المعنى حمل بعضًا من كتاب الغربيين وكاتباتهم على استحسان تعدد الزوجات إذ رأوه أَحْمَدَ سُلوكًا وأسلَمَ عاقبة من فقرٍ يواكبه عُهْرٌ فى المرأة التِى لا كافل لها.

ثامنًا مِن حِكَمِ الكثرة فى التعدد إقرارُ عَينِ النبِىّ صلى الله عليه وسلم فقد قال (تناكَحُوا تكثروا فإنِى مباهٍ بكم الأُمَمَ يومَ القيامة).

هذا ما ظهر لنا من حكم التعدد وقد تكون أكثر مما ذكرنا وصدق الله تعالى فى قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[٥] فهل يقول منصفٌ بعد هذا بِقُبْحِ التعددِ. إنَّا نسائل العقول الصحيحة والوجدانات الطاهرة ولا عبرة بالملتائين بلوث الضلال وإنّا نسأل الله تعالى لنا ولهم العافية من الزيغ.

والغريبُ أنَّ بعضَ الجُرَءاءِ على الله يقتحمون غمرة الهلاك فيستدلون غلطًا بآية على نقيضِ ما تُفيد يقولون إنَّ الله تعالى قال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)[٦] وقال (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)[٧] إذًا فالتعدد غير جائز لأنه معلق بالعدل والعدل منفِىُّ اهـ وكلامهم هذا يدل على جهل واسع فى التفسير لا سيما المأثور منه ويَدُلُّ قبلًا وبعدًا على عدم عِرفانٍ بالله تعالى إذ نسبوا إليه التناقض فى كلامه وهو منزهٌ عنه كيف وهو القائلُ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[٨].

الله غير متناقض وعقولهن المتناقضة. العدلُ فِى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) هو العدل الواجب فى القَسْمِ بين النساء من طعام وكسوة ومنزل ومبيت وإقبال لا فى الجماع لابنتائه على النشاط وقد لا يكون دائمًا.  نعم يجب أحيانًا إعفافًا للزوجة عن الزنا. والعدلُ فى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) هو العدل فى الحب والميل القلبِىّ الخارجَيْنِ عن الاختيار، ونفىُ استطاعةِ العدل فى الحُبِّ الخارج عن اختيار المرءِ لا يلزم منه نَفْىُ استطاعةِ العدلِ فِى القَسْمِ الداخل فى اختياره، يَدُلُّ عليه ءاخر الآية (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، والمُعَلَّقَةُ هِى التِى ليست أيِّمًا لا زوج لها، كلا، إنَّها متزوجة بزوج لا يُحْسِنُ عشرتها ويَدُلُّ عليه أيضًا بيانُ مَنْ أُنزل عليه القرءان وهو صلى الله عليه وسلم أعلمُ الناسِ بتفسيره حيث كان يَقْسِمُ بين نسائه فيعدل ويقول (اللهم هذه قسمتِى فيما أملك فلا تؤاخذنِى فيما تملك ولا أملك) يعنِى المحبة. لأنَّ عائشة رضى الله عنها كانت أحبَّ إليه من سائر أزواجه رضِى الله عنهن، وكذا يدل عليه فعل السلف الصالح فإنهم العالمون بالتفسير على وجهه الصحيح وقد عَدَّدُوا الزوجاتِ.

وصفوةُ القول أنَّ التعديدَ جائزٌ بشرط العدل والجورُ حرامٌ فقد أخرج الترمذِى من حديث أبِى هريرة رضِى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وَشِقُّهُ مائلٌ) أى ليعرفَ أهلُ الجمعِ أنَّه كان فى الدنيا جائرًا.

هذا ويُباح لمن تزوج جديدة على قديماتٍ أنْ يَخُصَّهَا بمبيتِ سبعِ ليالٍ إن كانت بكرًا وثلاثٍ إن كانت ثيبًا. روَى أبو قِلابة عن أنس رضِى الله عنه قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم  وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا وقسم. قال أبو قِلابة ولو شِئتُ لقلتُ إنَّ أنسًا رفعه إلى النبِىّ صلى الله عليه وسلم أخرجه البخارِىُّ.

والله تعالى أعلم.

        


[١] المرجع كتاب مجموعة رسائل العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى.

[٢] سورة البقرة ءاية ١٠٨.

[٣] سورة ءال عمران ءاية ٧٣.

[٤] سورة النساء ءاية ٣.

[٥] سورة البقرة ءاية ٢٢٢.

[٦] سورة النساء ءاية ٣.

[٧]  سورة النساء ءاية ١٢٩.

[٨] سورة النساء ءاية ٨٢.