ثبوت الصفات المعنوية[١]

قبساتٌ من فوائد الفقيه الشيخ العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.  سئل حفظه الله لماذا لم يقل الأشاعرة بالصفات المعنوية فجاء جوابه

لم يتفق الأشاعرة على القول بنفِى الصفات المعنوية بل قد قال بذلك أئمة أعلام كإمام الحرمين فى كتاب الإرشاد حيث قال الحال صفة لموجود غير متصفة بالوجود ولا بالعدم ثم من الأحوال ما يثبت للذوات معللًا ومنها ما يثبت غير معلل فأما المعلل منها فكل حكم ثابت للذات عن معنَى قائم بها نحو كون الحِىّ حيًّا اهـ وكالإمام عمرو عثمان بن عيسى السلالجِىّ الفاسِىّ إمام أهل الغرب فى هذا الفن فى القرن السادس الهجرِى قال رحمه الله فى العقيدة البرهانية مع شرح العلامة المقترح لها (والدليل على أنه تعالى عالم قادر) الفصل إلى ءاخره.

قلتُ وبالله التوفيق تعرض فى هذا الفصل لإثبات الأحكام الموجبة للمعانِى ككونه عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا حيًّا فهذه كلها أحكام وأخَّر الكلام فى المعانِى الموجبة لهذه الأحكام. وكان الأولى تقديم المعانِى على المعلول بالذات ولكن إنّما قدَّم الأحكام هنا على المعانِى هو وغيره ممن تقدمه من القائلين بالحال، ضرورة أن الخصم وهو المعتزلة يسلم ثبوت الأحكام دون المعانِى وأنه يقول عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحِىّ بلا حياة فإذا سلم الأحكام بنينا عليها غرضنا على القول بالحال وقلنا يلزم من ثبوت المعلول ثبوت العلة ضرورة وجوب تلازم العلة والمعلول عقلًا اطّرادًا وعكسًا. فهذا سبب تقديم الكلام فى الأحكام لِيَبْتَنِىَ عليها إثبات المعانِى الموجبة لها.

وإذا تقرر هذا فاعلم أولًا أنَّ هذا إنَّما يُبْتَنَى على القول بالحال وأما على القول بنفِى الأحوال فلا معنَى لكون القادر قادرًا وكون العالم عالمًا إلا قيام القدرة والعلم بالمحل وكذلك سائر الصفات وقول القائل عالم وقادر اسم فاعل وحاصله راجع إلى سببية هذه الصفة لمن قامت به.

ومِنَ الأشاعرة كثير فمن نفَى هذه الأحوال[٢] واعتبر ذلك هو الحق الذِى لا محيد عنه قال العلامة الدسوقِى فى حاشيته (ثم اعلم أن التحقيق نفِى هذه المعنوية وعدم ثبوتها لأن الحق نفِى الأحوال) اهـ وقد استفاض فى إبطال القول بالحال العلامة المقترح فقال فى شرح البرهانية (الثانِى أن القول بالعلة مبنِى على القول بالحال وهو على أصول المحققين من أصحابنا محال وقد أنكرها الإمام فى البرهان غاية الإنكار وسَفَّهَ قولَ من يقول بها وقد أقمنا أدلة كثيرة على بطلانها فى شرح الإرشاد فى كتابنا الموسوم بكفاية طالب علم الكلام فى شرح الإرشاد للإمام. وما كانت المسألة مذكورة قبل هذا وإنما أنشأها أبو هاشم لكن نومِئ إلى إبطالها هنا ببعض ما ذكرناه هناك ليستقل بها الناظر خشية التطويل مما قد قرغنا من تقريره فى شرح الإرشاد. فنقول وبالله التوفيق القول بالحال يلزم منه وجوه من المحال الأول أن القول بإثباتها فى البارئ يلزم منه تصيير واجب الوجود لا وجود فإنه قد قام الدليل على أن البارئ تعالى وصفاته واجب الوجود وقد صدق على الحال لا وجود. الثانِى إثبات صفة للبارئ لا يدلُّ عليها معقول ولا منقول وصفات البارئ تعالى لا تثبت بالتحكم وإنما أثبتنا بالمعقول ما دلّت عليه ءاثاره ولا أثر للحال يدل عليها ولا سمع قاطع ولا لغة فإثبات ما لا دليل عليه لا نظرًا ولا سمعًا ولا لغةً ولا عرفًا محال سيما فى صفات البارئ تعالى إذ ليس لأحد التحكم فيها من غير دليل. وما ذكروه من إثباتها بطريق النظر قد بَيَّنَا فساده فى شرح الإرشاد فمن أراد استيفاء الكلام فى ذلك فيطالعه فى موضعه عند التعرض للكلام فى الحال إذ لا يحتمله هذا المختصر اهـ

وسبب الخلاف فى هذه الصفات المعنوية هو أن الصفات على أربعة أقسام قسم عدمِىٌّ اتفاقًا أى مفهومه عدمُ شَىْءٍ وهو صفات السلوب، وقسمٌ موجود فى خارج الأعيان اتفاقًا بحيث يمكن رؤيته لو أزيل الحجاب عنا وهو صفات المعانِى، وقسم له ثبوت فى نفسه ولم يرتقِ لمرتبة الوجود فى خارج الأعيان فلا يمكن رؤيته وهو المعنوية، وقسمٌ اختلف فيه وهو النفسية اهـ فالصفات المعنوية أحوالٌ مترتبةٌ على صفات المعانِى وصفاتُ المعانِى عِلَلٌ لها فمن قال بالأحوال أثبتها ومن نفَى الأحوال نفاها لأنها أى الحال ليست موجودة بالاستقلال ولا معدومة عدمًا صرفًا بل هِى واسطة بين الموجود والمعدوم وهذا هو السر فى الاختلاف فيها أى فى إثباتها صفة زائدة على صفة المعنى مع الاتفاق على وجوب معانيها له تعالى قال العلامة الدسوقِى (واعلم أن هذه الصفات المعنوية السبع واجبة له تعالى إجماعًا على مذهب أهل السنة والمعتزلة وعلى القول بثبوت الحال وعلى القول بنفيها والخلاف إنما هو فى معنَى قيامها بالذات العلية.  فمن قال بنفِى الحال قال معنى كونه عالمًا مثلًا هو قيام العلم به وليس هناك صفة أخرى زائدة على قيام العلم ثابتة فى خارج الذهن ومن قال بالحال قال معنى كونه عالمًا صفة أخرى زائدة على قيام العلم بالذات) اهـ

والله تعالى أعلم وأحكم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.

[٢] والإمام الأشعرِىّ نفسه رحمه الله تعالى مِمَّن نفَى الأحوال. المنتصر بالله.