حديث لا وصية لوارث[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين محمد الطاهر الأمين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين وبعد فقد قال ابن حجر فِى فتح البارِى[٢] عند كلامه فِى قول البخارِىّ باب لا وصية لوارث هذا لفظ حديث مرفوع.  ثم ذكر مخرجيه ثم قال جنح الشافعِىّ فى الأمِّ إلى أن هذا المتن متواترٌ فقال وجدنا أهل الفُتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازِىّ من قريش وغيرهم لا يختلفون فى أنَّ النبِىَّ صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح (لا وصية لوارث)ويأثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقلُ كافة عن كافة اهـ

يريد به ما ذكره الشافعِىّ رضِى الله عنه فى الأم[٣] أخبرنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا وصية لوارث) وما وصفتُ من أنَّ الوصية للوارث منسوخة بآى المواريث وأن لا وصية لوارث مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافًا اهـ وفيه أيضًا ورأيتُ متظاهرًا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازِى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فِى خطبته عامَ الفتح (لا وصية لوارث) ولم أرَ بين الناس فى ذلك اختلافًا اهـ والشافعِىرضِى الله عنه أخذ بمرسل مجاهد لِتَقَوِّيهِ بوجوهِ التَّقَوِى المعتبرة عنده فى المرسل ومثلُهُ يكون صحيحًا عنده كما يعلم من الرسالة له بل هو متواتر عنده كما سبق.

وقال مالكٌ رضِى الله عنه فى الموطإ رواية يحيَى الليثِىّ السنةُ الثابتة عندنا التِى لا اختلافَ فيها أنَّه لا تجوز وصيةٌ لوارثٍ إلا أنْ يُجيزَ له ذلك ورثة المَيِّتِ اهـ

وقال أبو داود فى المسائل سمعت أحمدَ رضِى الله عنه سُئلَ عن رجلٍ ماتَ وترك ورثةً فكان على أحد ورثته دين فلما أخذ ميراثه قضَى دينه فلم يبقَ عنده شىءٌ يُعْطَى من ثلث هذا الميت قال لا يعطَ، كررت عليه المسألة فقال لا يعطَى وراث اهـ

وقال ابنُ هُبيرة الحنبلِىّ فى الإشراف المفرز عن الإفصاح واتفقوا أنَّه لا وصيةَ لوارثٍ إلا أن يجيزَ ذلك الورثة اهـ يريد إجماع الأئمة على ذلك وليس بين الأئمة اختلاف فى أن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ وإنما الاختلاف فى ناسخه أهو ءَايَةُ المواريث أم الحديث المستفيض.

وقال ابن حزم فى مراتب الإجماع واتفقوا أنَّ الوصية لوارث لا تجوز اهـ يريد ثبوت الإجماع على ذلكوالإجماع هنا هو اتفاق الصحابة رضِى الله عنهم وليس هناك مسألة يجمع عليها الصحابة ثم يجترئُ أحد علماء الأمة بعدهم أن يخالفهم فى المسألة فيكون هذا الإجماع إجماعًا يقينيًا يَكْفُرُ منكره.

وقال ابن حزم فى المُحَلَّى إنَّ حديث لا وصية لوارث مما نقلته الكَوافُّ فيكون الحديث متواترًا عنده أيضًا وساق الزيلعِىُّ الحافظ فى نصب الراية أسانيدَ حديث إنَّ الله أعطَى كُلَّ ذِى حق ٍحقَهُ ألَّا لا وصية لوارث عن أبِى أُمامَةَ وعمرو بن خارجة وأنس وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضِى الله عنهم من رواية أبِى داود والترمذِىّ وابن ماجه والنسائِىّ والدارقطنِىّ وأحمد والبزار وأبِى يعلَى والحارث بن أبِى أسامة والطبرانِىّ وابن عَدِىٍّ وابن عساكر وتوسع فى الكلام على طرق الحديث فى ثلاث صفحات كبيرة.

وقال الشيخ مرتضَى الزبيدِىّ فى عقود الجواهر المُنِيفَة فى أدلة مذهب الإمام أبِى حنيفة بعد أن ساق الحديث بطريق مسانيد أبِى حنيفة والسُنَنِ الأربعة وسنن البيهقِىّ وغيرها، والذِى يظهر بمجموع ما ذكرناه أنَّ حديث أبِى أمامة صحيح وحديث عمرو بن خارجة من الوجهين صحيح وحديث أنس بالوجه الذِى ذكره صحيح ومع وجود هذه الأسانيد الصحاح كيف تُتْرَكُ ويُجْعَلُ مرسلُ مجاهد أصلًا فى المذهب اهـ

وقال أبو بكر الرازِىّ فى أحكام القرءان بعد أن ساق الحديث عن جماعة من الصحابة رضِى الله عنهم وهذا الخبر المأثور عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوارد من الجهات التِى وصفناها هو عندنا فى حيز التواتر لاستفاضته وشهرته فى الأمة وتَلَقِّى الفقهاء له بالقبول واستعمالهم له اهـ

والحديث الذِى ورد على مشهد ألوف من الناس فى خطبة الوداع يكون شأنه هكذا وإيراد بعض أهل العلم هذا الحديث نقضًا لقاعدة (لا تجوز الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد) يذوب إزاء هذا البيان، وليس أحد من أهل العلم يبيح الوصية لوارث أصلًا وإن كانت مداركهم تختلف فى هذا الحكم، ولا يضر الكلام فى سند خاص من أسانيد الحديث بعد أن ورد بأسانيدَ لا تُحْصَى وأخذتْ به الأمة جمعاء خلفًا عن سلف، على أن الكلام فى الأسانيد إنَّما يكون عند أهل النقد فيما لم يَسْتَفِضْ هذه الاستفاضة ولم تأخذ به الأمة هذا الأخذ.

وقال ابن هبيرة وأجمعوا على أنَّ الوصية مستحبة مندوب إليها لمن لا يرث الموصِى من أقاربه وذوِى رحمه اهـ

فعلم من ذلك كله أن إيجاب الوصية لوارث باسم الشرع لا يمكن صدوره من مُدَّعٍ للاجتهاد حيث لا وَجْهَ له أصلًا بعد قيام الدليل على خلافه كما شرحناه بل إنَّما يصدر مثل هذه المحاولة من زميلٍ لِمُسَيْلِمَةَ من الدجاجلة الذين أُنْذِرْنا بظهورهم فى ءَاخِرِ الزمان وإلى الله سبحانه مَرَدُّ الأمر كله.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثري لوكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى.

[٢] ٥ – ٢٤١

[٣] ٤ – ٢٧