حديث معاذ بن جبل رضِى الله عنه فى اجتهاد الرأىّ[١]

قبساتٌ من فوائد شيخ الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وبعد فقد كثر التساؤل فى هذه الأيام عن حديث معاذ فى الاجتهاد والقياس فرأيت التحدث عنه فى هذا المقال.

قد أخرج أبو داود والترمذِىّ والدارِمِىّ عن مُعاذ بن جبل رضى الله عنه بألفاظ مختلفة أنه لما بعثه النبِىّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن سأله النبىّ عليه السلام قائلًا له كيف تقضِى قال أقضِى بما فِى كتاب الله قال فإن لم يكن فى كتاب الله قال فبسنة رسول الله قال فإن لم يكن فى سنة رسول الله قال أجتهد رأيِى ولا ءَالُو فقال صلى الله عليه وسلم الحمد الله الذِى وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله اهـ

وهذا من جملة الأدلة على الأخذ بالقياس فى أحكام النوازل عند عدم النصِّ عليها فى الكتاب والسنة وعلى هذا جرت الأمة إلى أن ابتدع النَّظَّام ما ابتدع مِنْ نَفْىِ القياس وتابعه شراذم من المبتدعة.

وهذا الحديث رواه عن أصحاب معاذ الحارثُ بن عمرو الثقفىُّ وليس هو بمجهول العينِ بالنظر إلى أن شعبة بن الحجاج يقول عنه إنه ابن أخِى المغيرة بن شعبة ولا بمجهول الوصف من حيث إنَّه من كبار التابعين فِى طبقة شيوخ أبى عون الثقفىّ المتوفَى سنة ١١٦ هـ ولم ينقل أهل الشأن جرحًا مفسرًا فى حقه. ولا حاجة فِى الحكم بصحة خبر التابعىّ الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته بل يكفِى فى عدالته وقبول روايته ألا يثبت فيه جرح مفسر عن أهل الشأن لما ثبت من بالغ الفحص على المجروحين من رجال تلك الطبقة فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم فهو مقبول الرواية. أما الصحابة فكلهم عدول أى فِى النقل والرواية لا يؤثر فيهم جرحٌ مطلقًا عند الجمهور، والتابعون أيضًا مشهود لهم بالخيرية عدول ما لم يثبت فيهم جرح مؤثر. ومَنْ بعدهم لا تقبل روايتهم ما لم تثبت عدالتهم وهكذا. وهذا ما يؤدِى إليه النظر الصحيح و الأدلة الناصعة. فمن جعل الصحابة والتابعين وتابعيهم فى منزلة واحدة فى هذا الحكم لم ينزل الناس منازلهم. وكم فِى صحيح البخارِىّ من رجال لم ينقل توثيقهم عن أحدٍ نصًّا إلا أنَّه لم يثبت جرحهم فأُدخلت روايتهم فى الصحيح كما نصَّ على ذلك الذهبِىُّ فى مواضع من الميزان. والحارث هذا ذكره ابن حبان فى الثقات وإنْ جهله العقيلىُّ وابن الجارود وأبو العرب يعنون الجهل بحاله من جهة أنهم لم يظفروا بتوثيقه نصًا من أحد. وقد سبق حُكْمُ هذا الجهل فى كبار التابعين.

ولا مجال لتوهينِ هذا الحديث باعتبار انفراد أبِى عون برواية هذا الحديث عن الحارث بن عمرو الثقفِىِّ لأن ردَّ الحديث بسبب انفراد راو غير مجروح ليس من مذهب أهل السنة ولا من أصول أهل الحق. وأبو عون محمد بن عُبيد الله الثقفِىّ قد روَى عنه أمثال الأعمش وأبِى حنيفة وأبِى إسحاق الشيبانِى ومسعر وشعبة وغيرهم وهو من رجال الصحيحين وتوثيقُهُ موضع إجماع بين أهل النقد.  وقد روَى هذا الحديث عن أبى عون عن الحارث أبو إسحاق الشيبانِىُّ وشُعبةُ بن الحجاج المعروفُ بالتشدد فى الرواية والمُعْتَرَفُ له بزوال الجهالة وصفًا عن رجال يكونون فِى سند روايته فرواه عن أبى إسحاق أبو معاوية الضرير وعنه سعيد بن منصور وابن أبى شيبة. كما رواه عن شعبة يحيى بن سعيد القطان وعثمان بن عمر العبدى وعلِىّ بن الجعد ومحمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدى وعبد الله بن المبارك وأبو داود الطيالسِىُّ وغيرهم ورواه عن هؤلاء مَن لا يحصون كثرة حتى تلقت فقهاء التابعين وتابعيهم هذا الحديث بالقبول وَجَرَوْا خلفًا عن سلف على الأصل الأصيل الذِى أصَلَّهُ هذا الحديث.

وأما محاولةُ توهينِ أمرِ هذا الحديث حيث وقع فى لفظ الحارث عن أصحاب معاذ مِن أهل حمص عن معاذ باعتبار أن أصحاب معاذ مجاهيل ورواية المجاهيل مردودة فمحاولة فاسدة لأنَّ أصحاب معاذ معروفون بالدين والثقة ولا يستطيع هذا المحاول أن يثبت جرحًا فى أحدٍ أصحابِ معاذٍ نصًّا. وأما ذكر الحارث لأصحاب معاذ بدون اكتفاءٍ منه بذكر اسم أحدٍ منهم فإنما هو للدلالة على مبلغ شهرة هذا الحديث من جهة الرواية حتى ترَى الأمة قد تلقته بالقبول.

قال أبو بكر العربِىُّ فِى العارضة (ولا أحدَ من أصحاب معاذ مجهولًا ويجوز أن يكون فى الخبر إسقاطُ الأسماء عن جماعة ولا يُدْخِلُهُ ذلك فى حيز الجهالة وإنما يدخل فِى المجهولات إذا كان واحدًا فيقال حدثنِى رجل أو حدثنى إنسانٌ ولا يكون الرجل للرجل صاحبًا حتى يكون له به اختصاص فكيف وقد زيد تعريفًا بهم أنَّ أُضيفوا إلى بلد. وقد خرج البخارِىّ الذى شرط الصحة فى حديث عروة البارقِى (سمعت الحَىَّ يتحدثون عن عروة) ولم يكن ذلك الحديث فِى جملة المجهولات. وقال مالك فى القسامة (أخبرنِى رجال من كبراء قومه) وفى الصحيح عن الزهرِىّحدثنى رجال عن أبِى هريرة (من صلى على جنازة فله قيراط) اهـ

وكلام ابن عربى هذا يقضِى على ما يرويه ابن زنجويه عن البخارىّ فى التاريخ. على أنَّ لفظ شعبة فِى رواية على بن الجعد قال سمعت الحارث بن عمرو بن أخِى المغيرة بن شعبة يحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن معاذ بن جبل كما أخرجه ابن أبى خيثمة فى تاريخه ومثله فى جامع بيان العلم لابن عبد البرِّ و قد صحب معاذًا كثيرٌ من أصحاب الرسول عليه السلام فيكون أصحاب معاذ الذين سمع منه الحارث هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضًا ومثله لا يكون من الجهالة فِى شَىْءٍ عند جمهور أهل العلم بالحديث وَعَدَّهُمْ مجاهيلَ يكون مجازفة باردة.  وهكذا أصحاب القرائح الجامدة يجعلون من القوة ضعفًا.

وقال أبو بكر الرازىُّ فى أصوله (فإن قيل إنما رواه عن قوم مجهولين من أصحاب معاذ قيل له لا يضره ذلك لأنَّ إضافته ذلك إلى رجال من أصحاب معاذ توجب تأكيده لأنهم لا يُنسبون إليه بأنهم من أصحابه إلا وهم ثقات مقبولو الرواية.  ومن جهة أخرى إنَّ هذا الخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستفاض واشتهر عندهم من غير نكير من أحد منهم على رواته ولا ردٍّ له يعنِى فِى القرون الفاضلة وأيضًا  فإن أكثر أحواله أن يصير مرسلًا و المرسل عندنا مقبول) اهـ

وقَبُولُ المرسل عند الاعتضاد موضع اتفاق بين الأئمة المتبوعين وكم من دليل يعضد مضمون هذا الحديث حتى يبلغ المجموع حدّ التواتر المعنوِىّ فضلًا عن الصحة المصطلحة وقد سبق منا تحقيق أنه ليس هذا الحديث مِن مظان الانقطاع أصلًا وكلام الرازىِّ إنما هو على فرض الإرسال.

وقال أبو بكر بن العربىّ ذلك الحافظُ الكبير (اختلف الناس فِى هذا الحديث فمنهم مَن قال إنه لا يصح على مصطلحهمومنهم مَن قال هو صحيح والذِى أَدِينُ به القولُ بصحته فإنه حديث مشهور يرويه شعبة بن الحجاج رواه عنه جماعة من الفقهاء و الأئمة) اهـ

وقال الخطيب البغدادِىّ فى كتابه الفقيه والمتفقه وهو من أجدر كتبه بالطبع وقول الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ يدلُّ على شهرة الحديث وكثرة رواته وقد عُرِفَ فضلُ معاذ وزهده والظاهرُ مِنْ حالِ أصحابه الدِّينُ والثقة والزهد والصلاح وقد قيل إن عُبادة بن نسىّ رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسنادٌ متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا  به فوقفنا بذلك على صحته عندهم اهـ

فتلخص من ذلك كله أنّ الحديث ثابت عند جمهرة الجامعين بين الفقه والحديث بل مع ما احتف به من القرائن والروايات يبلغ مَدْلُولُهُ حَدَّ التواترِ المعنوىِّ ولو أخذتُ أسرد طرق هذا الحديث من الكتب السالف ذكرها فضلًا عن سائر الكتب وعن سائر الروايات فِى هذا الصدد لطال بنا الكلام جدًا و سئم المطالع الكريم وفيما ذكرناه غُنيةٌ فِى معرفة مرتبة هذا الحديث رغم تقولات بعض النقلة.

والذى دعانا إلى نشر هذا الكلام هو ما نَلْقَى من كثرة التساؤل عن هذا الحديث فى هذه الأيام  حيث مُنِىَ أهل العصر بجهلةٍ أغمارٍ يحاولون إنكارَ القياس الشرعِىِّ زاعمين الأخذ بالحديث عن كل مَنْ هبَّ ودبَّ وليسوا هم فِى شَىْءٍ من علم الحديث ولا مِنَ التَّفَقُّهِ  لكنهم أعوان الشيطان و أنصار الهوَى يسعون فى تفريق كلمة المسلمين بتشتيت اتجاههم و مجافاةُ الحق  ومجانبةُ الصدقِ ومتابعة الهوَى هى أخص أوصافهم  فالواجبُ أنْ لا يُلتفت إلى هرائهم مع صدق السلوك على الطريق المُثلَى المسلوكة عند أئمة الدين وهى قبول القياس مِن أهله فيما لا نصَّ فيه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة مع الاستقصاء البالغ فِى أحاديث الأحكام  لنكون على بَيِّنَةٍ من مراتب الأحاديث المروية فِى أحكام الفروع قوةً وضعفًا متنًا و سندًا من حيث الثبوت ووضوحًا وخفاء مِن حيث الدلالة  إن كنا نريد الإلمام بأدلة الأحكام بعض إلمام  

والله سبحانه الموفقوهو أعلم.


  [١]المرجع كتاب مقالات الكوثرِى لشيخ الإسلام محمد زاهد الكوثرِى.