حرمة توسعة المسعَى[١]

قبساتٌ من فوائد العالم الشهيد أحمد صادق الدمشقِىّ

 رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد

فهذه رسالة مختصرة اقتصرتُ فيها على المعلومات المفيدة لعموم الناس ولطلبة العلم الذين لا يجدون وقتاً لمراجعة وبحث المسائل الفقهية فصاروا يأخذون فتاواهم من بعض مشايخ الفضائيات الذين يبيحون ما أباحه أو حرمه الله وأمّا العلماء العاملون فإنهم لم يترددوا لحظة فى حكم تغيير شعائر الله ومثلُ هذه الأمور واضحة عندهم أكثرَ مِن وضوح الشمس فى رابعة النهار.

والدافعُ لكتابة هذا الكتاب أننى علِمتُ إجماع الأمة على حرمة توسعة المسعى لأكثر مما بين الصفا والمروة وعلِمتُ تواتر النقل إلينا فى تحديد الصفا والمروة ورأيتُ صوراً "فتوغرافية" كثيرة تؤيِّد هذا المتواتر وكلُّ هذا لم يَختلف عليه اثنانِ حتى ما قبلَ عدّة سنوات ولكن الذى حصل بعدَ استلام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ءال سعود الحُكمَ أنه أحبَّ إراحةَ الحجاج من مشاكل الزِّحام فى المسعى فطَرح فكرةَ توسيع عرض المسعى لمناقشتها من قِبَل علماء الشريعة فسارع أصحابُ الأغراض مِن بعض العلماء وغيرهم لتأييد فكرته وأنها صحيحة بلا أدنى شكٍّ وأنّ فيها كاملَ رضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  ثم قام المسؤولون عن توسعة الحرم بتجاهل فتوى هيئة كبار العلماء التى تحرِّم توسعةَ المسعى ثم لم يَعرِضوا هذه المسألة على أى مَجمَعٍ علمى ولا حتى على رابطة العالم الإسلامى الموجودة بمكة المكرمة كما قاموا بنشرِ أى شيءٍ يؤيِّد ويبيح توسعة المسعى ولو كان تحريفًا أو خداعًا أو قلبًا للحقائق ثم رأيتُ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة قد دُفِعَ لها ما لا يَعلمه إلاّ الله تعالى فانحازت انحيازاً تامًّا لرأى مبيحى التوسعة بل وَصل الأمر ببعض الجرائد السعودية أن طلبتْ مِن علماء الأمة الإسلامية كتابة رأيهم فى حكم التوسعة ثم أخفتْ كلام مَن حرّم التوسعة ونشرتْ خلالَ أشهرٍ كلَّ ما جاءها مؤيِّدًا للتوسعة وهذا خروج عن ما يزعمونه من الحياد فِى أصول المهنة الإعلامية وهذا واللهِ عينُ الكذب والخِداع للقارئ الذى حُجِبَتْ عنه أدلةُ المانعين وحُجِبَ عنه بيانُ خِداع أو تزوير أو إباحيّة المبيحين وكذلك فإنّ بعض مواقع الإنترنت قد خصّصتْ مُلحقاً خاصًّا لمناقشة توسعة المسعى ثم أَخْفَتْ كلام العلماء المانعين ولم تذكرْ سوى أقوالِ المبيحين وكذلك فإنّ المتابِع لوسائل الإعلام المرئية يجدُ التهميش الواضح والتعتيمَ الكامل على فتاوى العلماء المانعين من التوسعة.

فنَتَجَ عمّا سبق ذِكْرُهُ أنْ خفيت حقيقة الأمر على كثير من الناس وظنوا أنّ الحق فى أمر التوسعة مع المجيزين وأنّ رأى المانعين شاذٌّ وغيرُ معتبَرٍ ولهذا شَمَّرتُ عن ساعد الجِدِّ وجمعتُ هذا الكتاب نصيحةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم وغيرةً على شعائر الله أن يدخل فيها ما ليس منها وشفقةً على الذين أباحوا التوسعة لثقتهم بالقائمين على شؤون الحرم دونَ أنْ يَعلموا عن المسألة شيئاً ألاَ هل بلَّغتُ؟ اللهمّ اشهد.

وملخّص ما كتبتُ أننى أشَرتُ إلى موقفنا مِن شعائر الله ثم بَيَّنْتُ إجماعَ الأمة أنه لا يصح السعى خارج المسعى المحدد بالتواتر وأنه لا يصحُّ زيادة مساحته ثم بيّنتُ اهتمام المسلمين قديماً وحديثاً بضبط وتحديد طول المسعى وعرضه بدقة ثم ذكرتُ شُبَه مبيحى التوسعة وبيّنتُ بطلانها بالأدلة القاطعة والواضحة حتى لعموم الناس ثم ذكرت حكمَ مَن يسعى فى المسعى الجديد ولو شوطاً أو خطوة ثم ختمتُ هذا الكتاب بعدّة نصائح لى وللمفتين ولكلِّ معتمر وحاجٍّ.

وأسأله تعالى أن يهدى قادة المسلمين ومشايخهم وسائر المسلمين لتعظيم شعائر الله والوقوف عند حدوده وتحريم ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإباحة ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وردّ المشتبهات إلى أئمة الدين الفقهاء المجتهدين الصالحين رضِى الله عنهم.

(الفصل الأول) موقفنا من شعائر الله عز وجل.

قال الله عز وجل ]إن الصفا والمروة من شعائر الله[ قال ابن حَجَر فِى مقدمة الفتح (شعائر الله جمع شعيرة أى علامة ومنه المَشعَر الحرام ومشاعر الحج). إنّ الصفا والمروة مِن شعائر الله فيجب أن نحافظ على شعائر الله ونعظّمها ولا يجوز أبداً تغيير شعيرة من شعائر الله.

ولقد علّمنا الله تعالى فى القرآن الكريم كيفية التعامل مع شعائر الله بطريقين

الأول التعظيم قال الله تعالى ]ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب[ وأمّا مَن ضَعُف الإيمان والتقوى فى قلبه فلن يعظّم شعائر الله وسيَزيد ويُنقص ويُغير فيها ويجب على جميع المسلمين تداركُ هذا التهاون بشعائر الله ومنها المسعى فجميع المسلمين يحبون خدمة المسجد الحرام وتهيئة أسباب الراحة والأمان والخدمة للحجاج ولكنْ لا يرضى المسلمون المعظِّمون لشعائر الله أن يُجعل جزءٌ مِن مزدلفة ملحقاً بِمِنى ولا يَرضَون أن يُوسّع مكان رمى الجمرات ويُطمس تحديد المكان الأصلى للجمرات ولا يَرضَون أن يُبنى مسعىً جديدٌ لأداء عبادة السعى فيه.

وإنِّى أحث المسلمين على زيادة تعظيم مكة وحرمات الله وإلاّ أهلكنا الله مصداقًا لقول النبى صلى الله عليه وسلم الذِى رواه الإمام أحمد إنَّ هذه الأمَّة لا تَزال بخيرٍ ما عَظَّمُوا هذه الحُرْمة أى مكة حَقَّ تعظيمها فإذا ضَيَّعُوا ذلك هَلَكُوا[٢] اهـ

الثانِى عدم الإحلال قال الله تعالى ]يا أيها الذين ءامنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله [ قال أبو السُّعود فى تفسيره عند هذه الآية وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها فتبدل وتعيّر كما وقع للمسعَى.

(الفصل الثانى) بيان إجماع الأمة أنه لا يصح السعىُ خارج المسعى المعروف.

  1. قال الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم) وقد سَعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِى حَجِّه وعمرته بين الصفا والمروة وقال اسْعَوْا فإنَّ الله كَتَبَ عليكم السعى اهـ وقالت السيدة عائشة رضى الله عنها ما أَتَمَّ الله حجَّ امرئٍ ولا عمرته ما لم يَطُفْ بين الصفا والمروة اهـ والسعىُ نسكٌ يختص بمكانٍ يُفعل فى الحج والعمرة والأمكنةُ المحدَّدةُ من قِبل الشارع لنوع مِن أنواع العبادات لا تجوز الزيادةُ فيها ولا النقص إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. فالأمكنة المحدَّدة شرعًا لنوع من أنواع العبادات ليست محلًا للقياس لأنّ تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علةٌ معقولة المعنى حتى يتحقق المَناط بوجودها فى فرعٍ آخرَ لكى يُلحق بالقياس فالتعبدى المحض ليس من موارد القياس.
  2. قال الإمام النووىّ فِى المجموع (قال الشافعِىّ والأصحاب لا يجوز السعىُ فِى غير موضع السعِى فلو مرَّ وراءَ موضع السعِى فِى زقاق العطّارين أو غيره لم يصح سعيه لأنّ السعْىَ مختص بمكان فلا يجوز فعله فِى غيره) اهـ
  3. قال الشمس الرَّملى الشافعِىّ فى نهاية المحتاج ويُشترط قطع المسافة بين الصفا والمروة كلَّ مرةٍ ولا بُدَّ أن يكون قطع ما بينهما مِن بطن الوادى وهو المسعى المعروف الآن اهـ
  4. قال الخطيب الشُّربينى الشافعِىّ فِى مغنِى المحتاج (فلو عَدَل عن موضع السعىِ إلى طريقٍ آخرَ فى المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا لم تحسب له تلك المرة) اهـ
  5. قال المُلاّ علىّ قارِى الحنفِىّ فِى مرقاة المفاتيح (والمسعى هو المكان المعروف اليوم لإجماع السلف والخلف عليه كابراً عن كابر) اهـ
  6. قال الكاسانِى فِى بدائع الصنائع عند الكلام على أركان السعىِ (وأمَّا رُكنه فكينونته بين الصفا والمروة) اهـ
  7. قال العلامة قطب الدين الحنفىّ فِى كتاب الإعلام (إنّ السعىَ بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التِى أوجبها الله تعالى علينا فى ذلك المحل المخصوص ولا يجوز لنا العدول عنه ولا تُعتبر هذه العبادة إلاّ فى هذا المكان المخصوص الذى سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ
  8. قال الحَطّاب المالكى فى مواهب الجليل ( إنَّ مَن تَرَكَ مِن السَّعىِ شيئًا ولو ذراعًا يَرجِعُ له مِن بلده ومنها كونُه بين الصفا والمروة فلو سَعَى فى غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا ودخل من المسجد لم يصح سعيه) اهـ
  9. وأخيراً أقول عجبًا من تحوّل منهج القائمين على شؤون الحرمين فقد كانوا يأخذون بقول ابن تيمية ولو خالف قولَ جميع العلماء أمّا الآن فلا يأخذون بقول ابن تيمية ولو وافق قولَ جميع العلماء فقد قال ابنُ تيمية فِى شرح العمدة (لو سعَى فى مسامتة المسعَى وترك السعىَ بين الصفا والمروة لم يُجْزِهِ) اهـ

ثم إنّ فعل النبى صلى الله عليه وسلم الوارد لبيان إجمال نصٍّ من القرءان العظيم له حكم ذلك النص القرآنى الذى ورد لبيان إجماله فإنْ دلَّتْ آية من القرءان العظيم على وجوب حكم من الأحكام وأوضح النبى صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله فإنّ ذلك الفعل يكون واجباً بعينه وجوبَ المعنى الذى دلّت عليه الآية فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لِتأخذوا عنى مناسكَكم اهـ فإنه يدل على أن أفعاله فى الحج والعمرة بيانٌ لإجمال ءايات الحج والعمرة فلا يجوز العدول عن شىء منها لبدلٍ ءَاخر إلاّ لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة.

ولقد صرّح الله تعالى بقوله (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله) بأنّ المكان الذى يُسمَّى الصفا والمكانَ الذى يُسمَّى المروة من شعائر الله ومعلومٌ أنّ الصفا والمروة كلاهما عَلَمٌ لمكانٍ معيَّن وهو عَلَم شخصٍ لا عَلَم جنس بلا نزاع ولا خلاف بين أهل العربية أنّ العَلَم يُعيِّنُ مُسمّاه مطلقًا أى لا يَدخل فى مُسمّاه شىءٌ ءاخرُ غيرُ ذلك الشىء عاقلًا كان أو غيرَ عاقل فإذاً لا يصح أن نجعل ما يوازى المسعى مكانًا ثانيًا للسعِى ولو سمّيناه مسعًى جديدًا أو توسعةَ المسعى فالتسمية لا تُغيِّر واقعَ أنّ المسعَى الجديد لا يَدخل ضمن المكان الذِى أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالسعىِ فيه.

إنَّ العدول عن المسعى النبوى إلى المسعى الجديد المبنىِّ بموازاته يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا غير موجود، كما يحتاج إلى معرفة مَن أُخِذ عنه هذا المسعى الجديد لأنّ النبى صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحدَه صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لنا فى أخذها عن أحدٍ غيره كائنًا مَن كان.

إنّ زيادة مكان نسكٍ على ما كان عليه المسلمون من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليوم تحتاج لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع التحرّى والتثبت والنظر فى العواقب وكلُّ هذا غير موجود.

ولقد أجمعتِ الأمة على أن مكان السعى هو ما بين الصفا والمروة حصراً ولا تجوز الزيادة عليه ولا تغيير موضعه مهما كان العذر وإليك أمثلةً على ذلك

ولم ينقل عن أىّ عالم ولو شذوذًا ومهما كانت نِحلته أنه أجاز توسعة المسعى ولو قليلاً على الرغم من موت واختناق البعض بسبب ضيق المسعَى فى أزمانهم.

الأمر الثانِى أنه لم ينقل عن أى مسلم مهما كانت نحلته أنه سعى خارج المسعى المعروف مع أنه نُقل عن بعض العلماء أنّ الخروج اليسير لا يضرُّ بخلاف الخروج الكثير. وقبل بيان هذين الأمرين لا بد من توضيح الفرق بين الأمرين لعامة الناس فالأمر الأول يتكلم عن حرمة توسعة المسعى سواء كانت هذه التوسعة قليلة أم كثيرة فهذا الأمر أجمعت الأمة عليه بلا أدنى خلاف وأمّا الأمر الثانى فيتكلم عن سير الساعى فى المسعَى وحكم سعيه لو خرج أثناء سيره قليلًا عن المسعى وهذا الأمر حصل فيه الخلاف وسأضرب مثالًا من بحث الصلاة يَعرفه الجميع لتوضيح فكرة الفرق بين الأمرين فالأمر الأول مِثلُ إجماع الأمة على أنّ الكعبة هى القِبلة الوحيدة ولا يجوز توسعتها أو بناء كعبة غيرها كقِبلةٍ جديدة أو اتخاذُ أى مكان ثانٍ كقبلة وأمّا الأمر الثانى فمِثلُ أنه لو صلَّى المصلى فهل يَلزمه الاجتهاد لإصابة عين الكعبة أم يكفيه التوجه لجهتها ولو أصاب غيرَ الكعبة؟ وهذا الأمر فيه خلاف فقال بعض إنَّ المراد الخروج اليسير عن العَقْد المُشرِف على الصفا والمروة لا الخروج ولو يسيراً عن المسعى لأنّ عرض العَقْد أصغرُ مِن عرض المسعى بقليل كما كان مشاهداً حتى إزالة العَقْد فى التوسعة السعودية. والعَقْدُ عبارة عن ثلاثة قناطر على الصفا وقنطرة كبيرة على المروة وهذه العقود مصورة بصور "فتوغرافية" واضحة قبل إزالتها فى التوسعة السعودية الأولى.

وقال بعض إن أرض المسعى هى أرض جبلية فلا تخلو مِن التواءات وصخور مما يَجعل الخط بين الصفا والمروة ليس مستقيماً وهذا أمر لا يمكن ضبطه بدقة إلاّ إذا سُوِّيَتْ أرض المسعى وسار الساعى بخطٍّ مستقيم ما بين طرف الصفا وطرف المروة فإنه يكون قد خرج يسيراً فى بعض الأماكن وهذا لا يضر.

وقال ءَاخرون إنَّ ما بين الصفا والمروة يتسع قليلاً أحياناً وخاصة فى الوادى ويضيق قليلاً أحياناً فلو أنّ الساعى سعى بخطٍّ مستقيم فإنه سيَخرج عن المسعى يسيراً فى بعض الأماكن الضيقة فهذا الخروج اليسير لا يضر.

وبضعهم قال إنّ النبى صلى الله عليه وسلم قد حدّد لنا عرض المسعى بالبينية بين الصفا والمروة ولم يحدّده بعلامات دقيقة كما أنه لم يَرِد أى حديث ينص على عرض المسعى وهذا يدل على أنّ الخروج اليسير عن الحد الذى حدده المسلمون لا يضر بخلاف الخروج الكثير فإنه حينئذ يكون خارجًا عن البينية بين الصفا والمروة.

وأيًّا ما يكون فإنّ هذا الكلام من الشافعىّ لا يصح أن يَحتج به مبيحو التوسعة لأنّ التوسعة خرجتْ عن حدّ المسعى خروجًا كبيرًا جدًا جدًا حتى إنها بلغتْ أكثر من مِثل مساحة المسعى كاملًا وإنّ الساعى فى المسعى الجديد قد سعى خارجَ المسعى بالكامل لا أنه خرج خروجًا يسيرًا.

قال الإمام النووِىّ فِى المجموع قال الشافعىّ فِى القديم فإن التوى شيئًا يسيرًا أجزأه وإن عدل حتى يفارق الوادى المؤدى إلى زقاق العطارين لم يجز وكذا قال الدارمِىّ إن التوى فى السعى يسيرًا جاز وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا والله أعلم اهـ

وقد أجمع جميع المتأخرين والمعاصرين حتى عام ١٤٢٦هـ على أنّ مكان السعى هو ما بين الصفا والمروة حصرًا ولا تجوز الزيادة عليه ولا تغيير موضعه مهما كان العذر وأنّ السعىَ لا يصح إلاّ فى المكان المخصص والمعروف لجميع الناس وهو المسعى وإليك بعضَ النصوص فى هذا

وفِى أول عام ١٣٧٨هـ قام مكتب مشروع توسعة المسجد الحرام ببناء مصعدين أى درج ومزلق إسمنتِى عند الصفا والمروة لتسهيل صعود الساعين عليهما فثارت ثائرة أهل مكة لأنّ بعض الساعين من الغرباء لن ينتبه لِما يَدخل مِن هذه المصاعد فى المسعى مما هو خارج عن المسعى فربما كان بعضُ سعيه خارجًا عن المسعى وبذلك لن يصح سعيه فأمرتْ وزارة الداخلية بتشكيل لجنة مؤلفة من ستة علماء وكان منهم السيد علوى مالكى رحمه الله وأنْ يَختار محمد بن لادن عالِمَين لكونه مدير الإنشاءات الحكومية وبعد معاينةٍ ودراسةٍ لمدة ١٢ يومًا مع الرجوع للخرائط والاختصاصيين وأهل مكة أصدروا بياناً بالإجماع وقد انتقيتُ منه العبارات التى هى موضع الشاهد (اتضح أنّ المصعد الشرقى المواجه للمروة هو مصعد غير شرعِىّ([٣]) فلا يتأتى بذلك استيعاب ما بين الصفا والمروة المطلوب شرعًا. وبناء على ذلك فإنّ اللجنة رأت إزالة ذلك المصعد والاكتفاء بالمصعد الثانى المبنِىّ فِى موضع المصعد القديم كما أنّ المصعد والنزول من ناحيته يحصل به الاستيعاب المطلوب شرعًا فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا وعليه فلا مانع من توسعة المصعد المذكور فى حدود العرض المذكور ولِيحصل الاستيعاب المطلوب شرعًا. وبالنظر لكون الدرج الموجود حاليًا هو 14 درجة فقد رأت اللجنة أن تستبدل الستة الدرجات السفلى منها بمزلقان يكون انحداره نسبيًا حتى يتمكن الساعى من الوصول إلى نهايتها باعتباره من أرض المسعى وليتحقق بذلك الاستيعاب المطلوب شرعًا ثم يكون ابتداء الدرج فوق المزلقان المذكور ويكون مِن ثَمّ ابتداء المسعى من ناحية الصفا كما وقفت اللجنة أيضًا على المروة فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى وبعد تطبيق الذرع للمسافة تنتهى عند مراجعة موضع العَقْد القديم من المروة وهو الموضع الذى أقيم عليه الجسر فى البناية الجديدة وبذلك يكون المدرج الذى أنشئ أمام الجسر والذى يبلغ عدده ستة عشرة درجة جميعه واقعاً فى أرض المسعى. وقد يجهل كثير من الناس ضرورة الصعود إلى نهاية الست عشرة درجة المذكورة ويعودون من أسفل الدرج كما هو مشاهد من حال كثير من الناس فلا يتم بذلك سعيهم لذلك رأت اللجنة ضرورة إزالة الدُّرَج المذكورة. وبعد تداول الرأى مع المهندسين والاطلاع على الخريطة القديمة تقرر استبدال الدُّرَج المذكورة بمزلقان يتحدر نسبيًا ابتداء من واجهة الجسر المذكور إلى النقطة التى عيّنها المهندسون المختصون بمسافة يبلغ طولها 31 مترًا وبذلك يتحتم على الساعين الوصول إلى الحد المطلوب شرعًا وهو مكان العَقْد القديم الذى وضع فى مكانه الجسر الجديد باعتبار المزلقان المذكور من أرض المسعى ثم تكون الثلاث الدُّرَج التى تحت الجسر هى مبدأ الصعود للمروة وتكون هذه النقطة هى نهاية السعى من جهة المروة).

وعُرِضتْ مسألة السعىِ فى الطابق الثانى حلاًّ لمشكلة الزحام فى المسعى على هيئة كبار العلماء سنة ١٣٩٣هـ فاجتمع للمسألة أشهر شيوخ المملكة وعددهم ستة عشر شخصًا وبعد مدارسات طويلة استمرت ثمانية أشهر مع دراسات ميدانية من قبل العلماء والمهندسين ومراجعة كلّ ما كُتِب فى كُتُب العلماء عن المسعى وبعد توكيل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث مطوّل حول الموضوع وجمع كلام العلماء فى المسألة بعد كلّ هذا أصدروا البيان رقم ٢١ بتاريخ ١٢/١١/١٣٩٣هـ وملخصه أجاز أغلبُ أعضاء الهيئة السعى فوق سطح المسعى وتوقف عن الإفتاء ستة علماء ومنعه عالم واحد وقد أجمع الجميع بلا خلاف أنه لا يجوز توسعة عرض المسعى اهـ

وأذكُر قبل الانتقال إلى الفصل التالِى أنّ أول خلاف حصل فى الأمة حول توسعة المسعى وُجِدَ بعد أن أمرت الحكومة السعودية بتوسعة عرض المسعى ورفضتْ فكرة زيادة عدد الطوابق دون الخروج عن عرض المسعى فَقَبْلَ اعتماد مخطط توسيع المسعى الحالى طَلَبَ أميرُ منطقة مكة المكرمة بتاريخ ٦/٨/١٤٢٦هـ من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء دراسة حكم توسعة المسعى من الناحية الشرعية وبعد الدراسة لمدة أكثر من ستة أشهر وبتاريخ ٢٢/٢/١٤٢٧هـ أصدر مجلس الهيئة أن العمارة الحالية للمسعَى شاملة لجميع أرضه ومِن ثَمَّ فإنه لا يجوز توسعتها ويمكن عند الحاجة حلُّ المشكلة رأسياً بإضافة بناءٍ فوق المسعى اهـ

فكيف تغيَّر الأمر عن القائمين على شئون السجد الحرام وشئون الحجاج بين ليلة وضحاها؟!!

الخلاصة

يجب السعىُ كاملًا فى مسعَى النبى صلى الله عليه وسلم  وأمّا مَن سعى خارجه فهذا حرام ولا يجوز لأنَّ السعىَ عبادة وهذا إحداثٌ لعبادةٍ جديدة فى الإسلام هِى السعىُ خارجَ الصفا والمروة وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  مَن أحدَثَ فى أمرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ  (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم مَن صَنَعَ أمرًا مِن غير أمرنا فهو مردود اهـ

قال الإمام النووِىّ فِى المجموع (السعى ركنٌ من أركان الحج لا يتمّ الحج إلا به ولا يُجبر بدم ولا يفوت ما دام صاحبه حيًّا فلو بقى منه مرةً من السعى أو خطوةً لم يصح حجُّه ولم يتحلل من إحرامه حتى يأتى بما بقي ولا يحلُّ له النساء وإن طال ذلك سنين).

وقال الحطاب المالكِىُّ فى مواهب الجليل ( إنَّ مَن تَرَكَ مِن السَّعى شيئاً ولو ذراعاً يَرجِعُ له مِن بلده).

وقال ابن قُدامة الحنبلى فى الشرح الكبير 3/405 (فإن ترك مما بينهما شيئاً ولو ذراعاً لم يُجزه حتى يأتى به).

فإذا كان لا يصح السعىُ ولو شوطًا واحدًا أو أقلَّ فى المسعى الجديد ولا يقبل الله تبارك وتعالى حجنا ولا عمرتنا ولا يكونان مبرورين إلاّ إن سعينا فى مسعى النبى صلى الله عليه وسلم ذهابًا وإيابًا فهذا يعنِىأن تسعَى أيها الأخ المسلم الأشواط السبعة ذهابًا وإيابًا ضمن المنطقة المخصصة الآن لعودة الساعين من المروة إلى الصفا وإن شئت فانزل إلى الطابق السفلِىّ فتسعَى فيه تحت ما يسامت المسعَى القديم فإنهم لم يوسعوه إلى الآن.  وهنا لا بدّ لى من تذكير وتحذير المسلمين من أن تحقيق السعى الصحيح لا يُبَرِّرُ إيذاء المسلمين أو دفعهم أو الوقوف بوجوههم فبإمكانك تصحيح سعيك مع عدم إيذاء أحد باختيارك وقتاً مناسباً أو طابقاً مناسباً لسعيك من غير إيذاء أى مسلم.

ويحسن هنا إراد ما رواه الإمام أحمد فى مسنده عن عُبَيْد الله بن عباس رضِى الله قال (كان للعباس مِيزاب على طريق عمر بن الخطاب فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذُبِحَ للعباس فرخان فلمّا وافى الميزابَ صُبَّ ماءٌ بدمِ الفرخين فأصاب عمرَ وفيه دم الفرخين فأمر عمر بقلعه ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه ثم جاء فصلّى بالناس فأتاه العباس فقال والله إنه لَلْموضع الذى وضعه النبى صلى الله عليه وسلم. فقال عمر للعباس وأنا أعزِم عليك لَمَا صعدتَ على ظهرى حتى تضعه فى الموضع الذى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك العباسُ رضى الله تعالى عنهما).

لقد سعَى النبى صلى الله عليه وسلم فى المسعى بين الصفا والمروة على الرغم من وجود بيوت فى منتصف وعلى يمين ويسار الطريق بين الصفا والمروة وهذا يدل على وجود سرٍّ فى هذا المكان لا نعلمه وإلاّ لكان النبى صلى الله عليه وسلم قد سعى فى أى طريق من الطرق المحيطة بالحرم أو القريبة من الصفا والمروة وسواء أدركنا سر المكان أم لا فلن نترك مكاناً سعى فيه حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن نسعى بمكان لم يسع فيه حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحم الله سيدنا عمر القائل (فِيمَ الرَّمَلانُ الآنَ والكشفُ عن المناكِب وقد أَطَّأَ الله الإسلام ونَفَى الكفر وأهله؟! ومع ذلك فلا ندع شيئاً كنا نفعله فى زمن رسول الله صلى الله عليه سلم).

ألهمنا الله تعالى التمسك بالسنة النبوية وأن نعض عليها بالنواجذ ونكون لمن يريد تحريفها وتبديلها بالمرصات.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب حكم السعِى فى المسعَى الجديد أنه باطل للشيخ أحمد صادق.

[٢] وقد وقعت الفتن الشديدة فى بلاد المسلمين شرقًا وغربًا بعد تغيير المسعَى مصداق هذا الحديث الشريف على ما يراه كل أحد ويعلم به وهِى مستمرة إلى الآن وقانا الله شرورها. المنتصر بالله.

[٣] هذا هو مكان المسعى الجديد الغير شرعى.