رسالة فِى حكم الصيام بالراديو[١]

قبسات من فوائد الشيخ المفتِى محمد سراج بن محمد سعيد الجبرتِىّ الشافعِىّ
المتوفى سنة١٣٩٢هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله على ما أنعم والشكر له على ما علم وألهم وصلى الله على الحبيب الأعظم والخليل الأكرم سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم

أما بعد فقد كثر السؤال علِىّ عن حكم الصيام بخبر الراديو وعمت البلوَى فِى المدن بذلك فكنت أجيب بلا كتابة فأردت أن أكتب على وجه الاختصار والاقتصار إجابةً للسائلين وإسعافًا للعاملين

اعلم أيها السائل أن الكلام فِى هذه المسألة وأمثالها من المُحدثات وأن  الزمان زمانُ فتن كما أخبر عنه النبِىّ صلى الله عليه وسلم فوقع كما أخبر، أخبر أنه يقع فيه اتباع الهوَى وإعجابُ كل ذِى رأىٍ برأيه وأن الصبر فيه على الحق كالقبض على الجمر وأن العلم يقِل ويَغلِبُ الجهل وأن الأمر بالمعروف والنهِىَ عن المنكر فيه لا يُؤثر وأخبر أيضًا أنه لا تزال طائفة من أمته قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتِى أمر الله وأن التمسك بسنته عند وقوع الفساد يكون من أعظم الجهاد وأن أهل الحقّ موجودون وجود كثرة ولله الحمد يهمهم أمر دينهم ويشق عليهم دخول الخَلَل فِى أعمالهم ويعظم عليهم شأن ءاخرتهم فلأمثال هؤلاء يُجْدِى الكلام لا لِمَن لا يُبالِى بدينه من الذين يريدون أن يبدلوا دين الله بأهوائهم والله حافظ دينه ولو كره المجرمون.

ولابد أن نقدم أولًا ما يدل على وجوب اتباع هَدْىِ النبِىّ صلى الله عليه وسلم والتأسِّى به من الكتاب والسنة ليُعلم الموافق من مخالفه قال الله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) فى الآية تبيين عظم قدر النبِىّ صلى الله عليه وسلم وأن اتباعه سبب فِى محبة الله تعالى للعبد وأن التحبب إلى الله تعالى اتّبِاع نبيه صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم عباده بأن محبته لعباده وغفرانه لهم منوط باتباعه وأخبر أن فِى طاعته الهداية لا غيره فالهداية مضمونة فِى طاعته واتباعه سبب فِى محبة الله تعالى وأعظِمْ بها نِعْمَةً وإن محبة العبد لله لا تنفع إلا إذا قارنتها محبة الله تعالى له ومحبةُ الله للعبد نافعة على كل حال ولا يعارضها شىء وقد علِم الشيطان هذا السر فاجتهد فِى صد الناس عن هذه الكرامة العظيمة بأن أوقعهم فِى مهاوِى الهوَى وذلك بسبب الجهل وضعف الإيمان قال الله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) وقال الله تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وفِى هذه الآيات من الأمر بطاعته والتحذير عن مخالفته ما يرجف له فؤادُ مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويُشْفِق على دينه ويخاف أن يكون عمله على وجه لا يرضاه الله عزَّ وجلَّ فلا يكون مقبولًا إذ لا يُقبل عمل إلا إذا كان على وفق السنة ففِى صحيح مسلم أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ اهـ أى مردود كما جاء كذلك فِى بعض الروايات.

وقد روى البخارِىّ وسلم عن عبد الله بن عمر رضِى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذكر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه) وفِى رواية عنه (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمَّ عليكم فأكموا عدة شبعان ثلاثين) وفِى رواية لهما عن أبِى هريرة رضِى الله عنه عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) اهـ وروى أبو داود والنسائِىّ وابن خزيمة فِى صحيحه عن حذيفة رضِى الله عنه أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (لا تَقَدَّموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة) اهـ وروى الإمام أحمد والنسائِىّ عن ابن عباس رضِى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا) اهـ وفِى الصحيحين (لا تَقَدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون يومًا كان يصومه أحدكم) اهـ

فليَنظر من له إيمان وأدنى فَهْمٍ إلى ما ثبت من أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم بالرؤية ونهيه عنه بلا رؤية ونهيه عن التقدم على رؤيةِ الهلال أو إكمالِ العددِ وأمره بالصوم بالرؤية أو الإكمال إلى ما يقع مِن أكثر الناس مِن تركهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذها وراء ظهورهم حتى كأنهم يعاندونها مع إهمالهم تَطَلُّبَ رؤيته، ويريدون أن يقبلوا كل من يَدَّعِى الرؤية ممن لا يقبله الشرع، ويحبون أن يصوموا دائمًا رمضان ثلاثين ورمضانُ لا يكون دائمًا ثلاثين.

وقد ثبت أن صوم النبِىّ صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر من صومه ثلاثين إذا عُلِم هذا فالجواب فِى هذه المسألة أن الصوم اعتمادا على خبر الراديو لا يصح وذلك لأمور

الأول أن ذلك المُخْبِر مجهولٌ لم يُعْرَف كونه مسلمًا أو كافرًا وعلى كونه مسلمًا فلم تُعرف عدالته ولا كونه مستور العدالة لعدم علمنا بظاهر حاله من كونه ظاهر الطاعة والغالب على المذِيْعِين أنهم لا يصلون ولا يبالون بأوامر الشرع مختلطون بالنساء الأجنبيات الكاشفات النحور وغير ذلك من العورات من غير غضِّ بصر عنها فأمثال هؤلاء خبرُهم غير مقبول شرعًا اتفاقًا بين الأئمة.

الثانِى أن المُذيع ليس شاهدًا أو متحمِّلًا للشهادة على وجهها وإنما يخبر عن رؤية غيره فلا يترتب على خبره حُكْمٌ شرعِىّ اتفاقًا أيضًا فظهر أن العوام الآن يتهوَّرون على الصوم بغير وجه شرعِىّ والله المستعان.

الثالث ما رواه مسلم وأبو داود والترمذِىّ والنسائِىّ عن كريب قال (استهل علِىَّ رمضانُ وأنا بالشام فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة ثم قدِمْتُ المدينة فِى ءاخر الشهر فسألنِى ابن عباس متى رأيتم الهلال فقلت ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورءاه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل العدة ثلاثين أو نراه فقلت أو لا تكفِى برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ دل هذا الحديث على صدور الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل كل بلاد متباعدة برؤية بلدها لا بغيرها وكان إذا ذاك الصحابةُ متوَافرِيْنَ فِى المدينة والشام وغيرهما فلم يُعْرَف من أحد منهم خلافُ ذلك وقد نقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على ذلك يعنِى إجماع السلف من الصحابة والتابعين فلا يُلْتَفِت إلى ما حدث بعد ذلك فقال أجمعوا على أنه لا تُراعى الرؤية فيما بَعُدَ من البلاد كخرسان والأندلس نقله الحافظ ابن حجر فِى الفتح. وهذا الحديث موافقٌ لإجماع المسلمين فِى عمل أهل كل بلد فِى صيامهم وإفطارهم بفجر بلادهم وغروبها وفِى صلاتهم بفجر بلادهم وزوالها وغروبها فهو موافق للقياس مع ثبوته فِى نفسه فالسَّعْىُ فى مخالفته منابذة للسنة.

والزعم أنَّ ابن عباس أراد بقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما فهمه من نحو قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته لا حديثٌ مخصوصٌ ينقلُهُ رجمٌ بالغيب وتأويلٌ فاسدٌ لا ريب لأنه لو قيل مِثلُ هذا الخيال لأدَّى ذلك إلى ردّ الأوامر والنواهِى الصحيحة بزعم أن الراوِى قال ذلك برأيه وهو معلوم البطلان وبالجملة فهذا الحديث نصٌّ فى هذه المسألة ومخالفته منابَذَةٌ للسنة والعملُ على خلاف السنة مردودٌ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخيرَ الهدِى هُدْىُ محمد وشرُّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة رواه مسلم.

الرابع أن المُذِيعين يُخبرون بلا تثبُّتٍ فيكذبون وقد وقع فِى رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف أن أُذِيْعَ بالراديو أنه ثبت رؤيةُ الهلال ليلة السبت فِى مكة فصام أهل الحجاز وأهل مصر على ما أُذيع وفِى ليلة الأحد التالية ليوم صيامهم لم يوجد الهلال وكانت السماء صَحْوًا فعجب الناس الذين كانوا مُوْلَعِيْنَ بأخبار الراديو وكانوا متأسفين على عدم الصيام يوم السبت وظهر لهم كذِبُ أولئك المذيعين فلم يَصُم يوم الأحد لعدم ما يُعتمد عليه ولا ما يُتَعَلَّلُ به. وكذلك وقع أيضًا فِى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف وفِى السنة الماضية أن أذيع بالراديو أنَّ رؤية الهلال ثبتت فِى مكة ليلة الإثنين وأنَّ أهل الحجاز صاموا يوم الإثنين فلما كان مساء ذلك اليوم وهِى ليلة الثلاثاء لم يوجد الهلال وكانت السماء صحوًا وهذا مما يُقطع فيه بكذب المُخْبِر بالرؤية لأن الهلال إذا رُؤىَ فى ليلة فكيف يُفْقد من الليلة التالية لها وهذا شىءٌ لم يخلقه لله عزَّ وجلَّ وقد قال الله تعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) وقال الله تعالى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) فالمُخْبِر بخلاف ما أخبر الله به مقطوعٌ بكذبه. وبالجملة فالجهلُ قد غلب والهوَى قد عمَّ فالتفت أكثر الناس إلى مثل هذا الكذب الفاضح لركونهم إلى مجرد الخبر ولتساهلهم فهل مِن عاقل مَنْ يَعتمد على أمثال هذه فِى ركن من أركان الدين فيُقْدِمُ على الصيام أو الإفطار بلا مُوجِبٍ شَرْعِىٍّ ما هذا إلا تلاعب بالدين وإفساد فيه وهذا ما أشار إليه النبِىُّ صلى الله عليه وسلم بقوله (المتمسك بسنتِى عند فساد أمتِى له أجرُ شهيدٍ) وأىُّ فسادٍ أشدُّ من الاقدام على صوم أو إفطار من صوم رمضان بغير موجب شرعِىّ.

وأما الصيام بالحساب والإفطارُ به فَمُحْدَثٌ وقد قال صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة) وقد (إنا أمة أمية لا نكتبُ ولا نَحْسُبُ) وكذلك الاعتماد على الاستتار[٢] الذى حدث قريبًا وقد اشتمل على مفاسد فالصوم اعتمادًا عليها سيرٌ على غير سنة النبِىّ صلى الله عليه وسلم.

         كتبه محمد سراج بن محمد سعيد الجبرتِى الأنِىّ.



[١] المرجع رسالة الشيخ المفتِى محمد سراج المطبوعة فِى الحبشة والتِى وزعها ولده الشيخ محمد بن المفتِى محمد سراج.

[٢] قوله (الاستتار) هو ما يُسَمَّى القمر الصناعِىّ فيما أحسب والله أعلم. المنتصر بالله.