حياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فِى البرزخ حياة حقيقية[١]

قبسات من فوائد الفقيه المرشد أبِى يوسف مصطفى الحمامِى الشافعِىّ المصرِىّ
المتوفَى سنة ١٣٦٩ هـ  رحمه الله تعالى

روى ابن ماجه عن أبى الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال أكثروا من الصلاة علِىّ يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدًا لن يصلِى علِىَّ إلا عرضت علِىَّ صلاته حتى يفرغ منها قال قلت وبعد الموت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل كل أجساد الأنبياء عليهم السلام اهـ ووافق ابن ماجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم فِى روايةِ قوله صلى الله عليه وسلم إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء اهـ ومن  هذا الوادِى ما رواه ابن سعد والبزار بسند صحيح ورواه أيضًا القاضِى إسماعيل والحارث فِى مسنده وهو قوله صلى الله عليه وسلم (حياتِى خير لكم تحدثون ويحدث لكم) أى تحدثون شؤونًا ويحدث لكم أحكامها (فإذا أنا مت كانت وافاتِى خيرًا لكم تعرض علىّ أعمالكم فإن رأيت خيرًا حمدت الله وإن رأيت شرًا استغفرت لكم) اهـ  فهذه صلاة أمة بأسرها معروضة عليه صلى الله عليه وسلم كما يفهم من الحديث الأول وهِى وغيرها من الأعمال كما يفهم من الحديث الثانِى أخبر صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوَى أنها تعرض عليه يحمد الله لخيرها ويستغفره لشرها، ومَنْ فِى الدنيا له ذرة من العقل ينكر حياة مَنْ هذا حاله.  ولا تفهم أن هذا العرض على الروح بل هو على البدن مع روحه من غير شك كما يفيده قوله عليه الصلاة والسلام إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) جوابًا لمن استبعد عرض العمل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الموت فأفهمه صلى الله عليه وسلم أن أجسام الأنبياء حية لا تبلَى وأن هذا العرض عليه ببدنه ليقتلع من نفسه ذلك الاستبعاد.

ويزيدك بصيرة فِى حياة الأنبياء فِى قبورهم قوله صلى الله عليه وسلم (الأنبياء أحياء فِى قبورهم يصلون) اهـ رواه أبو يعلَى والبيهقِىّ وهذا حديث لم يقتصر  على حياته هو صلى الله عليه وسلم بل تعدَى إلى جميع الأنبياء وفيه أنهم يؤدون في قبورهم الصلاةَ ذات الركوع والسجود والقيام والقعود والقراءة وذكر الله تعالى وهِى أعمال لوشك شاك فِى حياة فاعلها لكان شاكًا فِى حياة نفسه.

وقد جاء هذا المعنى كذلك فِى قوله صلى الله عليه وسلم مررت ليلة أسرِىَ بِى على موسَى عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلِى فِى قبره)اهـ رواه ابن عساكر والطبرانِىّ والنسائِىّ وابن حبان وابن خزيمة ومسلم ولا يتردد الناظر هنا فِى أنَّ الصلاة هِى الصلاة ذات الركوع والسجود فإن الشرع إذا أطلق الصلاة لا يفهم منها إلا ذلك المعنى.

وكذلك جاء هذا أيضًا فِى قوله صلى الله عليه وسلم (وقد رأيتنِى فِى جماعة من الأنبياء) إلى أن قال (وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلِى أشبه الناس به صاحبكم) يعنِى نفسه صلى الله عليه وسلم (فحانت الصلاة فأممتهم) الحديثَ رواه مسلم من حديث الإسراء وهذا الحديث يذكر شبه سيدنا إبراهيم وشَبَهُهٌ إنما يكون ببدنه الحقيقِىّ فدل ذلك قطعًا على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم إمامًا وهم بأبدانهم التِى كانوا عليها فِى الدنيا. 

وكذلك جاء ذكر وصف أجسامهم صلى الله عليهم جميعًا وسلم فِى قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد) أى مجتمع الخلق شديده (عريض الصدر وأما موسى فآدم) أى أسمر (جسيم سبط) أى حسن القد (كأنه من رجال الزط) وهم صنف من السودان والهنود (وأما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم) اهـ يعنِى نفسه صلى الله عليه وسلم فها هو ذا عليه الصلاة والسلام كما يصف بدن سيدنا عيسى الحِىّ يصف بدن سيدنا موسَى وسيدنا إبراهيم عليهم الصلاة والسلام المنتقلين من هذه الدار وهل يقال جسيم وحسن القد إلا للحى بجسمه الحقيقِىّ الذِى خُلِقَ به.

وإنِى أزيدك يقينًا بهذا المعنى وأذهب بك فِى حياة الأنبياء إلى أبعد مما سمعت فقد روى الطبرانِىّ أنه صلى الله عليه وسلم قال (كأنِى أنظر إلى موسى فِى هذا الوادِى محرمًا بين قطوانيتين) اهـ  والقطوانية العباءة البيضاء المنسوبة إلى قطوان بلدة بالعراق.  وروى ابن ماجة وأحمد ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال (كأنِى أنظر إلى موسى هابطًا من الثنية) مكان مرتفع (وله جؤار) صوت مرتفع (إلى الله تعالى بالتلبية وكأنِى أنظر إلى يونس بن متَّى على ناقة حمراء جعدة) أى مجتمعة الخلق شديدته (عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة  مارًا بهذا الوادِى ملبيًا) اهـ

وهذا الحديث وما قبله يثبتان أن الأنبياء صلى الله عليه وسلم يخرجون من قبورهم بأبدانهم الحقيقية لابسين الثياب ماشين أو راكبين ويذهبون إلى حيث يحجون ويلبون ويراهم بعينه من كشف الله عن بصيرته من العباد وأنت لا تشك فِى أن سيدنا موسى وسيدنا يونس انتقلا إلى الرفيق الأعلى قبل أن يوجد النبِىّ صلى الله عليه وسلم بدهور وإذن فلا شك أن نظره إليهما وهما ذاهبان إلى الحج يلبيان إنما كان وهما فِى عالم البرزخ.

وهذا الذِى نروِيه كلام عربِىٌّ على قواعد الوضع العربِىّ تفهمه العقول وليس هناك استحالة عقلية أو شرعية فِى حياة الأنبياء فِى قبورهم الحياة الحقيقة التى يفعلون معها ما يفعله أقوياء الرجال وإنا إذا ترددنا فِى ذلك فقد وقفنا أمام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف التكذيب وهو موقف لا يقوَى عليه ذو دينٍ خصوصًا إذا لاحظنا ما قرره العلماء من أن العدول عن ظواهر النصوص من غير مقتضٍ قاطع إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد وكفر اهـ

وهذا حديث المعراج وهو متفق عليه يصرح أنه صلى الله عليه وسلم رأى فِى السماوات جماعة من الأنبياء سيدنا ءادم وسيدنا إبراهيم وسيدنا يوسف وسيدنا موسَى وسيدنا هرون وسيدنا يحيى وسيدنا عيسى عليهم الصلاة والسلام وكلمه كل واحد منهم بما كلمه ونحن معشر الأمة المحمدية لليوم وإلى انقضاء الدنيا نتمتع براحة ما أجلَّها وما أعظمها لولا سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم ما رأيناها ولكنا فِى تعب يومِىٍّ طول حياتنا بأداء خمسين صلاة فرضها علينا ربنا عز وجل فِى اليوم وبلغها لنبينا صلى الله عليه وسلم فأشار إليه هذا الوجيهُ الكليمُ أن يسأل ربه التخفيف عن أمته فسأله ثم سأله حتى جعلها الكريم الرحيم خمسًا فقط. كما أنا لليوم وبعد اليوم نذكر ربنا بقول سبحان الله والحمد لله إلخ امتثالًا لوصية سيدنا إبراهيم الخليل التِى وصلت إلينا فِى قول نبينا صلى الله عليه وسلم (رأيت إبراهيم ليلة أسرِى بِى فقال يا محمد أقرِئ أمتك السلام) وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان) أماكن ممهدة واسعة (وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله) اهـ رواه الطبرانِى. وهل تشك فِى أنَّ النبِىّ صلى الله عليه وسلم إذا قال رأيت فلانًا وفلانًا يقظة فإنما يريد أنه رءاهم صلى الله عليهم وسلم بأشخاصهم وأرواحهم خصوصًا إذا كلموه وروى عنهم مثل ما سمعت وليس بغريب أن يَرَى صلى الله عليه وسلم سيدَنا موسى فِى تلك الليلة فى قبره يصلِى ويراه فِى السماوات فيرقَى السماوات فِى قليل من الزمن بلا سبب يَرْقَى عليه كالملائكة تمامًا.

 وأظنك بعد هذا البيان أصبحت وحياة الأنبياء فِى قبورهم عندك من الأمور البديهية غير أنِى أرجو أن لا تنسَى مع ذلك كله أن الأنبياء فِى عالم البرزخ الآن فلا تقل إذا كانوا أحياء فلماذا لا نراهم يذهبون بيننا ويجيئون كما كانوا فِى الدنيا فإن لعالم البرزخ أحكامه كما لا يخفَى على فطنتك.

وهذا الذى نشرحه الآن ليس معنًى انفردنا نحن بالقول به بل يشاركنا فى تقريره واعتقاده علماء الاسلام متقدموهم ومتأخروهم ولم ننقل عن أحد منهم ما يؤيدنا لأنا وجدنا صرائح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيدنا كما سمعتَ وليس من اللياقة فِى شىء أن يلتفت إلى الناس من معه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان هذا المعنى من الأوليات فِى عصر النبوة أيام أن كانت العقائد تُتَلَقَّى غضة طرية من مهبط الوحِى صلى الله عليه وسلم وكانت القلوب إذ ذاك فِى منتهَى صحتها لم يطرأ عليها من أمراض الشبهات والشكوك شىء وإن شئت فاسمع ما تقوله أمنا الجليلة السيدة عائشة رضى الله عنها كنت أدخل بيتِى الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنِى واضع[٢] ثوبِى وأقول إنما هو زوجِى وأبِى فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلتُ إلا وأنا مشدودة علىَّ ثيابِى حياء من عمر اهـ رواه أحمد وهو تقرير منها واضح جدًا أنه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى لا يزال زوجها لا حرج عليها أن يرَى منها ما لا يراه الأجنبِىُّ وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان حيًا حياة حقيقية وهذا يؤيد ما صرح به بعض العلماء من أن نساءه صلى الله عليه وسلم ما كُنَّ فِى عدة منه صلى الله عليه وسلم عند انتقاله من هذه الدار بل كان نكاحهن لا يزال قائمًا بينه وبينهن ومن أجل هذا حرم على غيره صلى الله عليه وسلم أن ينكحهن رضِى الله عنهن.

وإنِى ءاخذ بيدك إلى حيث أريك أكثر من هذا أريك أن أفراد المؤمنين الذين ليسوا برسل ولا أنبياء ولا أولياء إذا زارهم زائر وسلم عليهم ردوا عليه السلام وإن استغربت هذا فاسمع الدليل روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصحابة إذا خرجوا إلى زيارة أهل المقابر أن يقولوا لهم (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين والمسلمات وإنَّا إن شاء الله بكم لا حقون أسأل الله لنا ولكم العافية) فهل يأمر النبِى صلى الله عليه وسلم أن يسلم الناس على من لا يسمع ولا يرد أظن أن ذلك تقشعر منه جلود المؤمنين بحكمة ربنا عزَّ وجلَّ.

بل الأمر فِى طبقات المؤمنين فوق ما رويت لك فقد روَى الترمذِىّ والحاكم وابن مردويه وابن نصر البيهقِىّ فِى الدلائل عن ابن عباس رضِى الله عنه أن بعض الصحابة ضرب خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر إنسان فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام هِى المانعة هِى المنجية تنجيه من عذاب القبر اهـ وهل يبقَى من شك فِى حياة امرئ يقرأ القرءان يعبد الله تعالى بصوت مرتفع به لدرجة أن يسمعه من بينه وبينه حائل عظيم من أتربة وأحجار. إلا أنه ينبغِى أن يعلم أن هذه الحياة لا تبلغ درجة حياة الأنبياء بل الشهداء فِى سمو مقامهم لا تبلغ درجة حياتهم درجة حياة الأنبياء وإن كان القرءان يخبر عنهم أنهم أحياء يرزقون ويفرحون ويستبشرون فإنه ليس يصح أن يبلغ فرد من أفراد أمة أيًّا كان مركزه سموًا أو كمالًا عند ربه المبلغ الذِى بلغه الرسول المرسل إليه.

بل لأكثر من كل ما سبق أذهب بك فقد روى البخارِىّ عن أبِى طلحة رضِى الله عنه أن النبِى صلى الله عليه وسلم قام على شفة الركية أى البئر التِى لم تُطْوَ فجعل يناديهم بأسمائهم أى ينادِى قتلى بدر الكفار الذين ألقوا فى تلك البئر (يا فلان بن فلان وفلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتهم ما وعدكم ربكم حقًا) قال فقال عمر ما تكلم من أجساد لا روح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذِى نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) اهـ فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر مؤكدًا بالقسم أن الأحياء الموجودين معه فِى الدنيا لا يزيدون عن أولئك الفتلَى الكفار فِى سماع كلامه صلى الله عليه وسلم.

وإنِىّ أحبُّ أن أشير أن الأبدان هى ءالة الأرواح التى تسخرها فيما تريد من أعمال وإذا كانت الأرواح باقية بعد الموت فإن أرواح المؤمنين تزيد صفاء وكمالًا بعد موت أبدانها عما كانت قبل ذلك الموت فإنها فِى الدنيا كانت مقيدة بهذا البدن الظلمانِىّ الكثيف تقيدًا عظيمًا بتدبيرها وتصريفها لشئونه فى كل حال وبعد الموت انقطع ذلك التعلق العظيم وأصحبت مطلقة اطلاقًا لا يعلم قدره إلا الله عزَّ وجلَّ ولهذا ينبغِى أن تعلم أنها تجول فى هذه العوالم بإذن ربها فتأمر منامًا بمصالح وتنهَى عن مضار وتبشر بمحاب وتنذر بمكاره وتأخذ وتعطِى وتدعو الله تعالى وتعلم علومًا وتخبر عن غيوب وهِى إذا قالت شيئًا كان حقًا ما تقول فإنها فى عالم لا يعرف الكذب وكم حمد الله تعالى مَنْ أطاعها فيما تشير إليه وكم ندم من خالفها وكم وصل من خير لعباد الله تعالى الأحياء من طريقها وكم وصل من شر والفاعل فى الكل ربُّ الجميع وهو المسخّرُ لها فى كل حركاتها الآذن لها أن تقول ما تقول وتفعل ما تفعل. كل هذا أقوله وبراهينه كما ترى قوة واتجاهًا وأنا أعلم أن بيننا فريقًا تقع منهم هذه الحقائق موقعًا غريبًا وأليمًا ولا يكادون يصدقونها، ولعلك تقول وماذا يفعلون فى هذه الحجج اليقينية التِى تسوقها فأقول لك إنك يا أخِى كأنك لم تكن فى الدنيا لتعلم أيها الفاضل أنَّ الفريقَ الذِى نشير إليه لاقيمة للحجة عنده إذا كانت من السنة كأن السنة نسخت فى هذا الزمان نعم لقد وصلوا فى الاستخفاف بالسنة النبوية التِى لولاها ما كان لنا دينٌ إلى حَدٍّ لا يكاد بصدقه المؤمن وماذا عسى أن تنتظر فى الاستخفاف بها بعد أن تسمع أحد هؤلاء يصرح فى غير خجل أن بنتًا صغيرة خادمًا أصدق من رواة البخارِىّ الذى يعده علماء الاسلام أصح كتاب فى السنة.

لا تفزع أيها الأخ واعلم أن هذا الفريق الذى حاله ما نذكر وصل أمره إلى أكثر مما نقول فقد طبع فى العام المنصرم عام ١٣٤٩ هـ تفسير لواحد من هذا الفريق يتشجيع من إخوانه ينكر فيه كلام الله انكارًا صريحًا بصرف كثير من عباراته الكريمة إلى معان لا يدل عليها الوضع العربِىّ الذِى به نزل هذا الكتاب الحكيم وبذلك أنكر حقائقَ انكارُها كفرٌ صريحٌ وقامت له الأمة وقعدت وكان أولُ خطوة معه أنْ صُودِرَتْ نُسَخُهُ لئلا تصل إلى أيدِى الناس ومنهم الجاهل الذى لا يميز صوابًا من خطإ. وهذا المفسر الجديد لم يزد على أن أضاف على فريق الباطنية واحدًا وأصبح بين الأمة كالمجذوم يفر منه كل من وقعتْ عينه عليه وسيرى عاقبة ذلك فى يوم يشيب الولدان.

ومع كون ذلك الفريق بتلك الدرجة التى نحكيها مع الحجج النبوية تراه إذا عثر على شبه حجة له على معنى يعتقده تجده يتشبث بها تشبثه بروحه مع أنها من السنة التِى لا قمية لها عنده ولكنها الأهواء تفعل أكثرَ من ذلك كما يتشبت بقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له اهـ يحتج هؤلاء الناس بهذا الحديث على أن الإنسان متى مات فلا عمل له أصلًا وهو خطأ قبيح فإن الحديث الكريم يتكلم عن الأعمال التكليفية التِى تزداد بها الحسنات والسيآت فأفادنا أن العمل الذِى هذا حاله ينقطع عن الميت بمجرد موته فإن الحسنات والسيآت فى دار العمل ودار العمل الدنيا والميت قد انتقل من الدنيا غير أن الحديث استثنى الأعمال الصالحة التِى يبقَى نفعها فى الدنيا للأحياء بعد موت العامل فأخبر أنها مادامت منتفعًا بها فالعامل فى ازدياد من الثواب ومَثَّلَ صلى الله عليه وسلم بالأمثلة المذكورة وهذا معنى واضح لا يتوقف فيه عاقل أما الأعمال التكوينية فالأمر فيها بالنسبة للأموات كما قررنا ولعلنا لا نبعد عن الواقع إذا قلنا أن من النادر أن نجد إنسانًا ليس له واقعة أو وقائع منامية مع أناس ماتوا من زمن بعيد أو قريب حاورهم فيها وحاوروه وكان منهم له ما يَسُرُّهُ أو لا يَسُرُّهُ من أقوال أو أفعال يحكيها بعد أن يقوم من منامه وتقع أو تكون واقعة كما قالوا وإنا ننقل هنا مثالًا لا شك فى صحته رواه البخارِىّ مختصرًا والطبرانِىُّ مطولًا عن أنس قال لما انكشف الناس يوم اليمامة قلت لثابت بن قيس ألا ترى يا عم ووجدته  يتحنط فقال ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله عليه وءَالِهِ وسلم بئس ماعودتم أقرانكم اللهم إنِى أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء وما صنع هؤلاء ثم قاتل حتى قتل وكان عليه درع نفيسه فمر به رجل مسلم فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت فى منامه فقال إنِى أوصيك بوصية إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إنى لما قُتلتُ أَخَذَ دِرْعِى فلان ومنزله فِى أقصى الناس وعند خبائه فرسن تستن أى تذهب وتجيئ عدوا فى نشاط ومرح ولا راكب عليها وقد كَفِئ على الدرع بُرمة وفوقها رَحْلٌ فأتِ خالدًا فمره فليأخذها وليقل لأبِى بكر إن علِىّ من الدين كذا وكذا وفلان عتيق فاستيقظ الرجل فأتِى خالدًا فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته اهـ هذا لفظ الحافظ ابن حجر فى الإصابة فى ترجمة ثابت ابن قيس. فهذا رجل ميت يغضب على تركته أن يأخذها غير وارثه فيأمر من يذهب إلى قائد الجيش يخبره بمكانها ليردها إلى ورثته ولما سمع هذا القائد ذلك بعث إلى الدرع فأتَى بها ثم أمر هذا القائد أن يخبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عليه من الدين ليؤدِى عنه ليستريح من ناحيته وحتى لا يندم ربُّ الدين على ضياع ماله بموت المدين وأن يخبره بوصيته بعتق غلامه لينفذ هذه الوصية بماله من السلطة العامة وليكون هو قام بمكافأة ذلك الغلام على طول خدمته له فِى حياته فنفذ أبو بكر رضِى الله عنه ذلك، وانظر لما ذهب إلى الرائِى كيف شدد عليه أن يبلغ ما يوصيه به وأفهمه أن الأمر جِدُّ لا هزل وحق لا باطل ليقتلع من نفسه التردد الذِى يقع فِى نفوس فِى بعض ما ترَى فى المنام، وانظر كيف يصف المكان الذِى به الدرع على مبالغة ءاخذها فى إخفائها، وانظر كيف فطن هو وحده لذلك الآخذ مع أنه ميت ولم يفطن له الأحياء المحيطون به من كل مكان، فَمَنْ بعد هذا ينكر أو يتردد أو تحظر له شبهة فِى أن الميت بعد موته يعمل ويقول فيعتقد أن الميت لا يقول بعد موته ولا يفعل إلا من يئسوا من أصحاب القبور.

وإذا أحطت علمًا بهذا كله علمت أن الأمر عادِىٌّ صرفٌ فى مخاطبة الأنبياء والأولياء وجميع المؤمنين بل والكافرين بعد موتهم المخاطبة التِى لا تقل عن مخاطبتهم وهم أحياء فى الدنيا فإن الميت يسمع ويفهم فمن خاطبه خاطبَ سميعًا فاهمًا وعلمتَ أن مَنْ يحكمون بالشرك على من يخاطب وليًا أو نبينًا بعد انتقاله من هذه الحياة بعدوا عن الحق بُعْدَ الحقِّ عن الباطل وبرهنوا بذلك على أنهم لم يُكَلِّفُوا خاطرهم بالنظر فى دين الله حتى وصلوا فى الجهل به إلى درجة أن تخفى عليهم تلك الحقيقة الواضحة.                            

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب غوث العباد وبيان الرشاد للشيخ أبِى يوسف مصطفى الحمامِى رحمه الله تعالى.

[٢] التذكير باعتبار أنها شخص. الشيخ مصطفى.