خطبة الشيخ سمير القاضِى حفظه الله 

الجمعة ١٧ من شعبان ١٤٤١هـ

بسم الله الرحمن الرحيم 

 الحمدُ للهِ ربِّ العالمين يفعلُ ما يريد ويحكمُ بما يشاء يرفع ويخفض ويُعِزُّ ويُذِلُّ كلُّ نعمةٍ منه فضلٌ وكلُّ نِقمةٍ منه عدلٌ وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ وعلى ءَالِهِ الطيبين وصحابته أجمعين. 

أما بعدُ فأُوصِيكم ونفسِى إخوةَ الإيمان بتقوَى الله العظيم وأذكِّرُكم أنَّ الله تعالى يمتحن عباده بصنوف البلاء وأنواعِ المصائب كما قال عز وجل ﴿ولنبلونكم بشىْءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّرِ الصابرين﴾ وبهذا الامتحانِ والابتلاء يتميَّزُ المطيعُ مِنَ العاصِى والصابرُ من الخائر والمتوكل مِنَ الجَزُوع.

وقد أصابَ اللهُ بلادَنا بمرضٍ يُشبِهُ الزُّكامَ حلَّ فيها خفيفٍ ليس بالقوىِّ ولكنه استعقب بلايا حصلَ منها أضرارٌ شديدةٌ منها ما نال الأبدانَ ومنها ما نال الأموالَ ومنها وهو أخطرُها ما نال الأديان.

ويرجعُ الأصلُ فِى هذه الأضرار إلى أمورٍ ثلاثةٍ ضعفُ العلم بالدينِ وتكالبُ الأعداءِ وضعفُ اليقينِ والتوكلِ على الله فها أنت ترَى اليومَ كثيرًا من الناس أُسْقِطَ فِى يد الواحد منهم لا يعرف ماذا يَفعل ولا كيف يَتصرَّف خائفٌ لا يَأمن قلِقٌ لا يَنام مرتبكٌ لا يعرف أن يُرتب أموره ولا أن يُنظم أوقاته لا فِى ما يتعلق بأمر دنياه ولا فِى ما يتعلق بأمر أُخراه ولو أنه صحَّ له تمامُ التوكل على الله وتحلَّى بكمال اليقين لَمَا كان على هذه الحال فإن الله تبارك وتعالى يقول ﴿ومن يتوكلْ على الله فهو حسبُه﴾ أىْ فهو يكفيه وقال عليه الصلاة والسلام لو تتوكلون على الله حقَّ تَوَكُّلِهِ لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا اهـ ووصفَ عليه الصلاة والسلام سبعين ألفًا مِن خيارِ أمَّتِه يدخلون الجنة بلا حسابٍ فقال لا يَسْتَرْقُون ولا يكتوُون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون اهـ أىْ أنهم من قوة يقينهم وشدة توكلهم على الله إذا مرضوا لم يطلبوا الدواءَ لمرضهم لا برقيةٍ ولا بكىٍّ ولا تؤثر فيهم الحوادث التِى تلاقيهم طِيَرَةً ولا ما يشبهها بل تثق قلوبهم بالله تعالى ويعتمدون عليه حقَّ الاعتمادِ وهِىَ شاهدةٌ شهودًا ذوقيًّا أن كل ما يحصل هو بمشيئة الله تعالى لا يقع بلاءٌ إلا بتقديره ولا يرتفع إلا برحمته فتنصرف أفئدتُهُم وأبدانُهم لطاعة الله ودعائه والتذلل له طلبًا لمرضاته وحرصًا على نيل ثوابه وهذا عكسُ ما يحصل فى أيامنا من أكثر الناس.

ترَى الأكثرَ متعلقين بأسبابٍ أرضيَّةٍ يعتقدونَ أنها تدفع الضرر وترُدُّ الأذَى وتُبعد عنهم ما يكرهون غافلينَ عنِ الأسبابِ السماويةِ وعنْ مُسَبِّبِ الأسباب الذِى بيده كلُّ شىْءٍ.

ولستُ أقصد بهذا المنعَ مِنَ الأخذ بالأسباب فِى حفظ النفس والأهل والمال و ما أكثر من يتكلم فِى هذا الأمر فِى أيامنا وما أكثر من يحث عليه ويدعو إليه ولكنَّنِى أقصد التذكير بأن لا يستعملَ الشخص من الأسباب إلا تلك التِى أذن بها ربُّنا تبارك وتعالى وهو مستحضرٌ فِى قلبه أنَّ ما يصل إليه مِنَ المنفعة عند استعمالها هو بتقدير الله عز وجل وأنه إن شاء حرمَهُ تلك المنفعة مع استعمال السبب فلا يصرفُ جُلَّ جِدِّه وأكثرَ اجتهاده فِى هذه الأسباب حريصًا على النعمة الدنيوية مِن مالٍ أو صحةٍ أو غيرِ ذلك مهمومًا قَلِقًا يخشَى فواتَها بحيثُ يشغلُهُ ذلك عن القيام بشكر الله عليها بدلَ العملِ بقولِهِ تعالى ﴿لَئِنْ شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم﴾.

مِن هذا البابِ أحببتُ أن أذكِّرَكُم اليومَ بأمورٍ

منها الأورادُ التِى تَقرؤونها فكمْ مِن قارئٍ لأورادٍ كثيرةٍ لا همَّ له مِن قراءَتِها إلا السلامةَ منَ المرضِ لا يُفكِّرُ عند قولِهَا فِى نَيلِ رِضَى اللهِ ولا تحصيلِ ثوابِهِ فيخرجُ منها بلا ثوابٍ ويُتعِبُ نفسَهُ بلا أجرٍ فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يقبلُ منَ العملِ إلا ما كان خالصًا لِوجْهِهِ.

ومنها أرحامُكُم فلا تُهمِلُوا عبادَ اللهِ صِلَتَهُم وأنتم تظنُّون أنَّ لكم عذرًا فِى ذلك عند الله تعالى بل واجبٌ عليكم وَصْلُهُم وفرضٌ عليكم إذا احتاجوا إعانتُهُم بل ينبغِى أن تتخذوا هذه الظروفَ وسيلةً ومَطِيَّةً لتتقربوا وتحسنوا إليهم لتقربوهم مِن أهلِ الحقِّ وتُسمِعوهُم علمَ الدين وتفتحوا لهم الطريق إلى تعلمه.

وجيرانَكم جيرانَكم أَوْصَى جبريلُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بالجار حتَّى قال عليه الصلاة والسلام ظننتُ أنه سيورثه اهـ هذه الأحوالُ فرصة لكم حتى تتفقدوهم وتُقَوُّوا الصلة بهم وتُحْسِنوا إليهم وتعلِّمُوهم مِمَّا علَّمكم الله تعالى وتذكَّر أخِى أنَّ النبِىَّ عليه الصلاة والسلام قال ما ءَامَنَ بِى من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به اهـ

أصحابُكم وأصدقاؤكم ومعارفُكم لا تهملوا تفقُّدَهم ولا تجعلوهم كأنهم من أهل البرزخ ليتنبَّهْ كلٌّ منا كيف يُخاطب الواحد منهم وكيف يُعامله إذا أقبل عليه ليضُمَّهُ لَمْ يكسِرْ قلبَهُ بعد العشرةِ الطويلةِ ويفِرَّ منه فرارَهُ من الأسد وإذا مدَّ يده ليصافحه لَمْ يَتَخَيَّلْ أنه مدَّ رمحًا ليطعنه به.

لحظاتُ عمرِك لحظاتُ عمرك لا تفرط بها تفريطَكَ بالمَدَر الذِى لا قيمة له ولا تشغلها بتتبع أخبار كورونا ومَن أصيب به فِى هذا البلد وذاك ولا تجعلْ همك إذاعةً وتلفزيونًا وتليفونًا وطعامًا وشرابًا وحَلوًى وما شابَهَ تُضَيِّعُ بها أنفاسَك فِى ما لا يعود عليك بخير ولا على أهل بيتك بخير بلِ احرص على أن تجد إنسانًا لم يتعلمْ علم الحالِ والفرضَ العينىَّ مِن علم الدين - وما أكثرَهم - فعلِّمْهُ إياه فإن كنت لا تعرف أنت ذلك العلمَ أو نسيتَهُ فاتَّفِقْ مع إنسانٍ ثقةٍ عارفٍ يتعلمُهُ كلاكُما منه

وانظرْ إذا كان عليك قضاءُ صلوات تركتَها فِى الماضِى فاستغلَّ الوقت فِى ذلك

وإن كنتَ قصَّرْتَ فِى حِفْظِ كتابِ الله فأقبلْ على ذلك واجعلْ لنفسك حصةً فِى الصباح ومثلَها فِى المساءِ تَذْكُرُ فيها الله عز وجل طلبًا لمرضاته وسعيًا لنيل الأجر منه.

وإذا مرضَ قريبٌ لك أو جارٌ أو صديقٌ أو أخٌ فِى الله فلا تُوَلِّه دُبُرَك وتتغافلْ عنه كأنك لم تسمعْ بعِلَّتِهِ ولا تشمئزَّ منه ولا تهربْ من إعانته وتمريضه وخدمتِهِ بل عاملْهُ كما كنتَ تحب أن يعاملك لو أنك أنت أُصِبتَ وتذكَّرْ أن المرض لا يصيبُ إلا مَن كتب الله له أن يصاب به وأن النبىَّ عليه الصلاة والسلام قال لعبد الله بن عباس يا غلام لو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشىْءٍ لم يضروك إلا بشىْءٍ قد كتبه الله عليك ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىْءٍ لم ينفعوك إلا بشىْءٍ قد كتبه الله لك رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحُفُ اهـ فإذا كان الأمر كذلك فلأىِّ شىْءٍ يترك الإنسان إعانة أخيه ويتخلى عن مساعدته فى وقت حاجته وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه اهـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة اهـ

وإذا مات أخٌ لكم بكورونا أو بغيره فإياكم أن تهملوا ما أمركم به ربُّكُم مِن تجهيزِهِ للدفن بالغسل والتكفين والصلاة عليه فإن الشخص مهما بلغ به ضعفُ اليقين وقلةُ التوكل فليس يعجِزُ عن أن يلبس ثوبًا يُشبِهُ الثوبَ الذِى يلبَسُهُ الأطباء والممرضون وأمثالُهُم أثناء الاعتناء بالمرضَى ويقومَ بغسل أخيه وتكفينِهِ بعد ذلك فإذا تركتم ذلك مع عدمِ المانعِ لكم من تجهيزِهِ لم يكنْ لكم عذرٌ عند الله يوم القيامة.

وقد اشتدَّ عجبِى جدًّا من أناسٍ يدَّعون العلم يزعُمُون أنَّ من مات بهذا المرض الخفيف يجوز تركُ غسلِه وتكفينِه

بل وصل بعضهم إلى القول بتركِ الصلاة عليه مع أنَّ الصحابةَ فمن بعدَهُم لم يترُكُوا تجهيزَ مَن ماتَ بأمراضٍ أشدَّ مِن هذا المرضِ بكثيرٍ بل صلى بعضُهُم فِى الجماعةِ على ستينَ جنازةٍ مِمَّن ماتوا به

بل أجمعَ علماءُ المذاهبِ الأربعةِ الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ على وجوبِ غسلِ مَن ماتَ بالطاعونِ وهو أشدُّ من كورونا بكثيرٍ 

 فكيفَ قالوا بسقوطِ غسلِهِ وتكفينِهِ كيف وهم لا يُبيحون للأطباء والممرضين والعاملين فِى المستشفيات ونحوِهِم تركَ خدمة المرضى بهذا المرضِ بل يُلزمونهم ذلك مع ما قرَّرُوهُ منِ احتياطٍ فكانُوا لو صحَّتْ نِيَّاتُهُم وعرفوا الحُرمةَ لأمواتِنا يستطيعونَ أن يُقرِّرُوا مثلَ ذلك الاحتياطِ مهما خافُوا وظنوا أو تخيَّلوا هذا مع العلمِ أنَّ تجهيز الميت ودفنه فرضٌ على الكفاية بينما التداوِى من المرض سنة وليس فرضًا

فما أهوَنَ أخاهم المسلم عندهم إذا مات بلغ بهم الهلَعُ إلى معاملته كأنه جيفةٌ نَتِنَةٌ لا حرمةَ لها مع أن نبىَّ الله صلى الله عليه وسلم قال إن حرمة المسلم عند الله أعظم مِن حرمة الكعبة اهـ وقال كسرُ عظمِ المسلمِ ميتًا ككسْرِهِ حيًّا ولذلك أكَّد الفقهاءُ منَ المذاهبِ الأربعةِ أنَّ حرمته ميتًا كحرمته حيًّا ولهذا السببِ يقلِّبُهُ الغاسل برفقٍ عند غسله وكأنه حىٌّ بين يديه.

عبادَ اللهِ لا تَضِيعُوا عنِ الخيرِ فِى الأزماتِ ولا تفقِدوا رُشْدَكُم فِى الشدائدِ ولا تنشغِلُوا عن ءَاخِرَتِكُمْ بمُلهِياتِ دنياكُم وتذكَّرُوا حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها اهـ فأعتقُوا أنفسَكم ولا تُوبقوها وتمسَّكوا بما جاءَ به صلى اللهُ عليه وسلم واشتغِلُوا بنشرِهِ وتبليغِهِ ولا يُثْنِ عزمَكُمْ عن ذلك أوهامٌ وتخيُّلاتٌ ولا يَفُتَّ فِى عضُدِكُم وسوساتٌ يُلقيها مَن لا يُوثَقُ بدينِهِ ولا خُلُقِهِ ولا صِدقِهِ واقتدُوا فِى طاعةِ الرحمن عزَّ وجلَّ وفِى التوكُّلِ على اللهِ تعالى فِى الشدائدِ بنبيِّكم عليه الصلاةُ والسلامُ وعَدَهُ المشركونَ وتهدَّدوهُ فخافَ عمُّهُ عليه وكلَّمَهُ فِى ذلك فكان جوابُهُ واللهِ يا عمِّ لو وضعُوا الشمسَ فِى يمينِى والقمرَ فِى يسارِى ما تركتُ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَهُ اللهُ أو أهلِكَ دونَه اهـ ووجده مشركٌ فِى بعضِ الغزواتِ منفردًا عن أصحابه فقام على رأسِهِ شاهرًا سَيفَهُ وقال مَن يُنجيكَ مِنِّى فأجابَ عليه الصلاةُ والسلامُ جوابَ الواثقِ المتوكِّلِ الذِى لم يضطربْ منه قلبٌ ولا اهتزَّ له مِن ارتباكٍ جَفنٌ [اللهُ] فسقطَ السيفُ مِن يده فتناوله عليه الصلاةُ والسلامُ وقال مَن يُنجيك مِنِّى فقال كُنْ خيرَ ءَاخِذٍ فعفا عنه اهـ

عبادَ اللهِ لكلِّ واحدٍ مقامٌ فمتوكلٌ على ماله ومتوكلٌ على نفسه ومتوكل على لسانه ومتوكل على سيفه ومتوكل على سَلطنته ومتوكل على قُفَّازه ومتوكل على كمامته ومتوكل على طبيبه ومتوكل على الله عز وجل فأما المتوكلُ على الله تعالى فقد عملَ بقولِهِ تعالى ﴿وتَوَكَّلْ على اللهِ وكَفَى باللهِ وَكِيلًا﴾ فوجد الاسترواحَ فِى قلبِهِ ونوَّه اللهُ بذِكْرِهِ ورفعَ قَدْرَهُ وأنالَهُ رضاه ووعدَهُ بِجَنَّتِهِ وأما مَن غفلَ واستروَحَ إلى غيرِه فإنَّهُ يُوشِكُ أن ينقطعَ به فيهلِكَ.

عبادَ الله قال اللهُ عز وجل ﴿فأما الزبد فيذهب جُفآءً وأما ما ينفع الناس فيمكث فِى الأرض﴾ فلا تكُنْ أخِى متكاسِلًا لا تكنْ أخِى متخاذِلًا لا تكُنْ أخِى زَبَدًا لا تكنْ زبدًا.

وأستغفرُ اللهَ لِى ولكم.