خطورة التسرع فى الإفتاء[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم أما بعد فقد ذُكِرَ للإمام سفيان بن سعيد الثورِىّ رضِى الله عنه كثرة المحدثين فى عصره فقال إذا كثر المَلَّاحُونَ غرقت السفينة اهـ وقُلْ أنت كذلك عن كثرة المفتين فى هذه الأيام.  والصحابة رضِى الله عنهم الذين شاهدوا التنزيل وتلقوا علم الدين من النبِىّ صلى الله عليه وسلم مباشرة كانوا يتهيبون الإفتاء ويحيل بعضهم على بعض الإجابةَ عن مسألة يُسأل هو عنها خوفًا من الزلل. وفى صحيح مسلم من حديث أبِى المنهال أنه سأل زيد بن أرقم عن الصرف فقال سَلِ البراءَ بن عازب فسأل البراء فقال سل زيدًا الحديثَ اهـ وأخرج أبو محمد الرامَهُرْمُزِىُّ صاحبُ المحدث الفاضل عن عبد الرحمن بن أبى ليلَى أنه قال لقد أدركت فى هذا المسجد مائَةً وعشرين من الأنصار ما منهم أحد يحدث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديثَ ولا يسأل عن فُتيا إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الفُتيا اهـ  وأخرج أيضًا عن الشَّعْبِىّ أنه سُئِلَ كيف كنتم تصنعون إذا سُئلتم قال علَى الخبيرِ سقطتَ كان إذا سُئِلَ الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول اهـ  وقال أحد كبار الأئمة لولا الفَرَق من الله من ضياع العلم ما أفتيتُ أحدًا يكون له الهناء وعلِىَّ الوزر اهـ

ولولا خوفُ السلف من إثمِ كتمِ العلم لَمَا كانوا يتصدون للإفتاء بالمرة. وفى هذا الصدد رواياتٌ كثيرةٌ عن رجال الصدر الأول تدل على مبلغ احترازهم من تبعة الإفتاء، ولكن نرَى الناس اليوم على خلاف ذلك يتزاحمون على الفُتيا و يتسابقون فى حمل التبعة فما من مجلة أو صحيفة فى البلد إلا وفيها فتاوَى عن مسائل[٢] وكذلك ليس لطائفة اللامذهبية مجلسُ وعظٍ و تذكيرٍ إلا وفيه افْتِئَاتٌ على الفتوَى فى التوحيد والفقه حتى إن الكاتب البسيط لا يرى بأسًا فى أن يُفْتِىَ الناس فى أعوص المسائل وأكثرها تشعبًا وكفَى أن تكون عنده فتاوِى فرجِ اللهِ الكردستانِىّ أو الشيخ الحرانِىّ فينقل منها صفحتين مِن بحثِ تعليقِ الطلاق مثلًا ويُذيع ما فيهما فى الصحف والمجلات بدون أن يشعر بحاجة إلى التأكدِ من مبلغ أمانة الطابع ومِن عدم تصرفه فى نصوص الكتاب زيادةً ونقصًا أو تصحيحًا على زعمه أو تصحيفًا أو متابعةً للهوى ولا إلى التحقق من درجة مطابقة ما فى الكتاب للواقعِ وصدقِ مؤلفِهِ وبُعدِهِ عن الزيغ و الزلل فيما شَذَّ به عن الجماعة.

وتلك الأمورُ قد يغلط فى تحقيقها كبار أهل العلم فضلًا عن صغار أرباب القلم. على أنَّ اختلاف الفتيا من تلك المصادر المختلفة فى مسألة واحدة باسم الشرع تصحيحًا وإبطالًا وتحليلًا وتحريمًا يؤدِى إلى تفرقة كلمة الشعب المتحد الآمن المطمئن بل إلى تهاونهم بأمرِ الشرعِ إلى أن تزولَ من قلوبِ الأمةِ مهابةُ الإفتاءِ وجلالُ الشرع وحرمةُ العلماءِ حتى إذا شاهدَ المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها استمرارَ هذه الفوضَى ربما يزولً من صدورهم ما كانوا يحملونه بين جوانحهم نحو علماءِ المصرِ من الإجلال والإكبار والثقة والاعتماد.  

والله يعلم ماذا فقدت مصر من سمعتها العلمية فى الخارج منذ مات شيخ فقهاء عصره الشيخ محمد بخيت رحمه اللهوكان مرجع القضاة والعلماء فى أقطار الأرض فى حل مشكلاتهم فأىّ قاض أو فقيه إذا راجعه فى مشكلة كان يجد الجواب بما يحل مشكلته على مذهبه حاضرًا واصلًا إليه فيُمضِى القاضِى القضاءَ ويعملُ المستفتِى بالفُتيا لأنَّهرحمه الله إذا نقضَ أوجعَ وإذا أبرمَ أقنعَ لسعة دائرة بحثه فِى فقه المذاهب وطول ممارسته للمُدارسة والقضاء و الإفتاء و مقدار ذلك العالم العالمِىّ كان عندهم عظيمًا.

وإنِّى أعرف من أفاضل القضاة من كان يراجعه فيما يستشكله من المسائل مع كونه ممن له غوص فى الفقه ليتأكد مما فهمه من كتب الفقه فيجد الجواب عن مسألته يصل إليه فى مدة يسيرة. وبعد وفاته رحمه الله راجع ذلك القاضِى مصرَ على ما تَعَوَّدَ فى عهد الشيخ بخيت رحمه الله فانتظر شهرًا وشهرين وثلاثة أشهر إلى ستة أشهر بدون أن يصل إليه جوابٌ عن مسألته وكان يُرْجِئُ القضية إلى ورود الجواب إليه فى قطر سوى قطر مصر. بل رأينا إفتاءً صادرًا من مصدر حَقُّهُ أن يكون مُلِمًا بوجوه الاختلاف فى المسألة وبأدلة الجمهور فيها وبِوَجْهِ سقوطِ تشغيبِ من شذَّ فيها يَنْسُبُ فى ذلك الإفتاءِ القولَ بخلاف ما عليه الجمهور إلى كثيرٍ من الصحابة والتابعين وفقهاء السلف اغترارًا بالفتاوَى المذكورةِ وتساهلًا فى النَّقْلِ مع أن ذلك القول لا يثبت عن صحابِىٍّ واحدٍ ولا تابعِىّ واحد ولا فقيهٍ واحد من فقهاءِ السلف فضلًا عن أن يثبت عن جمع منهم وجميعُ ما فى الأمر أن ابن حزم حَوَّلَ فى القرن الخامس قضاء علِىّ كرم الله وجهه بسبب الإكراه والاضطهاد إلى صورةِ الِحنْثِ بدون إكراهٍ بقلة ورع كما عمل مثلَ ذلك فيما يرويه عن طاووس خيانةً فى النقل وكما حَرَّفَ الكلم عن مواضعه فى قضاء شريح مع أنَّ نَصَّ الرواية (فلم يره حدثًا) يدلُّ على أنه كان يحكم بالوقوع لِوَعْدِ ما فعلَهُ المُعَلِّقُ حدثًا.

ففتيا ابن عمر وقضاء علِىّ وهو يقول (اضطهدتموه) وقول ابن مسعود وعمل أبِى ذرّ وعمل الزبير رضِى الله عنهم من غير أن يصحَّ عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك والإجماع المنقول عن فقهاء التابعين وتابعيهم بالنظر إلى فتاويهم المدونة فى مصنف عبد الرزاق ومصنف وكيع ومصنف ابن أبِى شيبة وسنن سعيد بن منصور وسنن البيهقِىّ وتمهيد ابن عبد البر واستذكاره وغيرها كلُّ ذلك يقضِى على تقولات الشُذَّاذ من الظاهرية وأذنابهم فى المسألة، ولا ينبغِى لعالم أن يتكلم فى مثل هذه المسألة بدون اطلاع على أمثال تلك الكتب.  

وقد فضح أبو الحسن التقِىُّ السبكِىُّ فى الدرة المضية خيانةَ صاحب الفتاوَى المذكورة فى نُقُولِهِ من تلك الكتب، وفى مطالعة الدرة المضية فوائد ومتعة.   ومصدرُ أقوال الصحابة والتابعين إنما هو أمثال تلك الكتب فمن عزا شيئًا إلى الصحابة والتابعين بدون أن يطلع على تلك الكتب يضعُ نفسه فى موقف الخَجَلِ عند أهل العلم والسقوطِ من نظرهم وما يجر ذلك من الويلات ظاهرٌ مكشوفٌ.

فإذا تحداه أحد من أهل العلم وقال إنما السؤال عن الحكم الشرعِىّ فى المسألة على ما يراه الأئمة المجتهدون المعترف بإمامتهم عند الأمة لا عن القانون رقم كذا ولا النظام تاريخ كذا، وإن كان من الضرورِىّ ذكر الصحابة والتابعين فى المسألة فَأَثْبِتْ عن صحابِىٍّ واحدٍ أو تابعِىٍّ واحدٍ روايةً صحيحةً صريحةً توافق الرأىَ الشاذَّ من أحد كتب السنة وقد أعفاك الله عن إثباتِ الروايةِ عن جمع من الأصحاب أو التابعين أو الفقهاء من بعدهم حتى تُعْذَرَ بعضَ عذرٍ عند الناسِ  لا عند الله فى تأييد ما يخالف الإجماعَ المنقولَ فى كتاب ابن المنذر وغيره، فيا ترَى ماذا يكون جوابه سوَى أن يعترف بالحق ويرجع عن فتياه أو يغالط فيزداد سقوطًا أو ماذا كان يصنع.

وأما المستفتِى فلا يخلو من أن يكون من أتباع أحد الأئمة المتبوعين عند أهل السنة أو من فريق اللامذهبية فإن كان من أتباع الأئمة المتبوعين فإن كان مالكيًا أو شافعيًا مثلًا فإنَّما يُفتِى بالقول الصحيح المفتَى به في مذهبه قولًا واحدًا بدون ذكر اختلافٍ لأن المعلوم أن بيان الخلاف فى جواب المستفتِى لا يفيد سوَى الحيرة مع أن الإفتاء لأجل التخليص من الحَيْرَةِ لا لأجل الإيقاع فى زيادة الحيرة كما نَصَّ على ذلك علماء المذاهب فى كتب رسم المفتِى وأدب القضاء، فلا يقول له المُفتِى فيه قولان عن الشافعِىّ وفيه قولٌ قديمٌ وقولٌ حديثٌ أو فيه سِتُّ روايات عن مالك بطريق ابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والليثِىّ و عبد الملك بن حبيب والعتبىّ مثلًا أو فيه خمسة أقوال فى مذهب أبي حنيفة ظاهر الرواية وغير ظاهر الرواية وقول أبى يوسف وقول محمد وقول زفر أو فيه عشر روايات عن أحمد فى الرعاية الكبرَى، فإن كان أصحاب هؤلاء الأئمة قد محصوا الصحيح فى مذاهبهم مدَى القرون و عينوا قولًا واحدًا للإفتاء فى كل مذهب فليراجع المُفتِى المقلدُ الكتبَ المعتمدة عندهم وليُفْتِ بالقول الصحيح فى المسألة.   

وأما القول فى (علَىّ الطلاق إن فعلت كذا) مع العرف الجارِى فى عَدِّهِ صريحًا إنَّ فيه قولين فى مذهب الحنفية مثلًا اغترارًا بمثل قول أبى السعود العمادِىّ ومن تابعه من المتأخرين الذين لا تُلْحَقُ أقوالُهُمْ بالمذهب باعتبار طبقتهم فليس من شأن الفقيه الباحث وإن غلط الشيخ بخيت رحمه الله فى تأييدِ هذا القول الذِى ليس فى شىءٍ حتى ألف رسالة فيه لكن قوله هذا كقوله فى التصوير الشمسِىِّ مغمورٌ فى زاخرِ صوابه سامحه الله.

وأىُّ عربِىّ لا يفهم من لفظ (علَىَّ الطلاق) المعروفَ فى إيقاعه طلاقَ امرأةِ المتكلم ولا يَعتبر اللام تغنِى غناء الإضافة النحوية. وهذا على بعده عن الذوق العربِىّ بعيدٌ عن النقل بعيدٌ عن المذهب. وأين هذا فى كتبِ ظاهرِ الروايةِ أو النوادرِ أو النوازلِ التِى أفتَى فيها مشايخُ المذهبِ.  وما عُرِفَ إيقاعُ الطلاق به هو فى حكم الصريح.

وأما إن كان المستفتِى من طائفة اللامذهبية فلهم طوائفُ شَتَّى فى البلد منهم من ينشر الإباحةَ باسم التصوف، ومنهم من يذيع التجسيم باسم السلف، ومنهم من يحاول بعث المذهب الإسماعيلِىّ من قبره باسم الحديث، ومنهم من يتواقح إلى حد أن يحاول مزاحمة النبِىّ صلى الله عليه وسلم فى وَحْيِهِ باسم السنة، وكل هؤلاء اتفقوا على ألا يتفقوا فى شىءٍ إلا فى الخروج على الأئمة ونبذِ التمذهب فلا أظن أن مذاهبهم من المذاهب المعترف بها حتى يُعْتَبَرَ لهم مصدرُ إفتاء خاص بل إذا لم يَسْتَأْصِلْ أهلُ الشأن شَأْفَتَهُمْ قبل أن يكون قَطْرُهُمْ سيلًا و تركوهم و شَأنَهُمْ إلى أن يستفحل أمرهم و يستشرِىَ شرهم فلا شكَّ أنَّ القُطْرَ الآمِنَ يكون عرضةً لما لا تُحمد عقباه إلا إذا قات كبار العلماء بواجبهم من الآن ومنعوا المتطفلين على الإفتاء من الإفتاء وأرجعوا بحكمتهم دعاة تلك النحل الحديثة الممجوجة إلى صوابهم وقطعوا قول القائلين (أما لهذه الفوضَى فى الإفتاء ولهذا التغاضِى عن إحداث نحل جديدة فى الإسلام من ءَاخِر).

ملحوظةٌ. ليس كلامِى فيمن يخدم الأمة عن كفاءة وجدارة من العلماء المخلصين.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثرِىّ لوكيل مشيخة الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثرِىّ رحمه الله تعالى.

[٢]وكذلك حالُ المُدَوَّنات والمواقع الإلكترونية ونحوها. أبو لبابة.