ذكرى المولد النبوِىّ الشريف[١]

قَبَساتٌ من أنوار عالم مكة وشيخها
السيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩١هـ رحمه الله تعالى

ولد الهدى فالكائنات ضياء             وفـــم الزمـــــان تـبـــــسـم وثــنــــاء

يقف التاريخ شاخصًا إلى الماضِى البعيد في إجلالٍ وتوقيرٍ مُلتمسًا من نُبُلِ الذكرى المحمَّدية وجمالها عبرة للحاضر وذخيرة للمستقبل.

أىُّ ذكرى عظيمة تلك التي يحملها شهر ربيع الأول فإنَّ غُرَّتَهُ[٢] لا تكاد تنبثق في أفق الدنيا حتى تستشعر النفوس في أعماقها خشوعًا وهيبةً وتحس القلوب في قراراتها إجلالًا ورهبةُ فتغمرها نفحات قدسية من سمو العقيدة وطهارة الدين وقبس الإيمان.

أىُّ ذكرَى تلك التي تُطَهِر الخلق وتعصم النفس من زيغ الهوى وفتنة الشيطان وتحصِّن الروح بأفضل العبر وأجمل المواعظ.

 إنها ذكرَى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم مُحَرِّرِ الفكر ومنقذِ الإنسانية من ظلمات الجهل والشرك والظلم والإباحية، فهو أمين الله على وحيه، وهو حكيم العلماء، وسيد السادة، ومعلم القُوَّاد، والمجاهد في سبيل ربه وإعلاء دينه بنفسه وماله، ثابتًا صابرًا محتسبًا.

لقد تأذَّن الله للنور الجديد أن يشرق على الأرواح فيستلَ الأضغان ويُحكِم وشائج الأُلفة وأواصر التآخِى حتى كان المؤمنون أخوة وصار المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.

وودعت الدنيا عصرَ الجاهلية والفوضَى والفساد واستقبلت عهدًا نبويًايغمره نور الهداية وتشرق عليه روح التسامِى فانقشعت الغمة وزالت الظلمة وانهزم جيش الباطل وجاء الحقُّ وتنسمت الإنسانية فيه نسيم الهدَى واستنشقت عبير الإيمان.

وجاء النبِىّ الكريم فنشأ نشأة صلاح ووقار، لا يعرف اللهو ولا يألف المنكر، يتأمل في خلق الله الذي أحسن كل شىء خلقه، ويتفكر في ءاثار القدرة وجمال الصنعة، يُرضِى ربَّه فتطمئن نفسه للإيمان.

ومع ذلك كله فقد كان سمح الخُلُق ظاهر النفس عظيم العفة قدسِىَّ العاطفة حتى لقبوه بالأمين وكيف لا وقد نشأ من مهد الطفولة سليمًا من شوائب الغل ونوازع الحسد وبوادر الغضب فحمل الرسالة الربانية متحصنًا بالأمانة مدرعًا بالصبر محاطًا بالرعاية الإلهية.

ربَّاه ربُّهُ فأحسنَ تأديبه فهو ذو الخُلُق العظيم ما ينطق عن الهوَى إن هو إلا وحي يوحى. قام بأعباء الرسالة خيرَ مقام، مضى في دعوته لا يخلد إلى راحة ولا يطمئن إلى استقرار. دعاهم إلى الحقّ وسُموِ الإيمان ولقِى من المشركين كل أذًى. حاربه القريب وعاداه، وءَاذَاه البعيد وأفحش في الإيذاء، ولكن هل يُضْعِفَ الحقَّ تعذيبٌ أو يَغُضُّ من جمالِهِ اضطهاد. هذه الدعوة الصادقة المجلجلة جمعت تحت لوائها أشتاتًا متنافرة ونفوسًا متناكِرَةً حتى أحسَّ الجميع أنهم أُسرَةٌ واحدةٌ وجاءتهم الدُّنيا خاضعة تضع بين أيديهم ملك كسرى بما حوى وصَوْلجان قيصرَ بما جمع.

أليس نجاح الدعوة الإسلامية وظهورها مَدِينًا لما أُوتِىَ الرسول صلى الله عليه وسلم من قوة جبارة وعزيمة صادقة وإخلاص ويقين.

دعا أولًا عشيرته الأقربين باللطف والسياسة وكان موفقًا في دعوته، يصيب موضع الإقناع ويؤثر أقوى تأثير، فمنهم من استجاب لدعوته ومنهم من أَبَى وأنكر وكفر وجحد. ودعا ثانيًا الناس كافة فاستنكروا دعوته وفزعوا لسلطان ءَالِهَتِهم الباطلة، وحاولت ردَّه والوقوف في وجهه، ولكنهم فشلوا في صدِّهم لأنَّ الحقَّ لا يخضع لقرابة ولا يتأثر لرحم، فللباطل جولة ويزول، وللحق وقفة ويَصُول، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

تمالؤوا على قتله وجلسوا عند بابه وأجمعوا أمرهم على محاصرته ولكنه سلم مهاجرًا الى الله، وءَامَنَهُ اللهُ من كَيدهم وعصمه من مكرهم وتمت هجرته الشريفة وأحاطت به عناية الله ودخل مكة فاتحًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فإذا هو يفيض رحمةً وحبًا للذين ءَاذَوْهُ وأخرجوه. نفسٌ عالية تفيض عفوًا وإصلاحًا لا تحمل حقدًا ولا تريد انتقامًا ولا تطلب ثأرًا، ولكنها تُعْلِى دين الله وتقول (اذهبوا فأنتم الطلقاء). ما أجلها كلمة مدوية ترن في مسمع الدهر وتسمو في اعتبارات التفكير.

فنحن معشر المسلمين اليوم في مقام الذكرى النبوية الخالدة نمجد في شخصية الرسول عليه السلام البطولة النادرة كما نمتلئ إعجابًا وإجلالًا لتعاليمه المحمَّدية وإرشاداته السامية التي غزت القلوب فخالطت منها اللحم والدم، ثم سرت في الدنيا إلى الشباب والشِيْب والنجود والوهاد فملأتها نورًا وضياءً. إن هذه لذكرى لمن كان له قلب وبلاغ لمن اعتبر وتدبر، وهي تدعونا للوئام والالتئام وتحذرنا من مغبة التنازع والفشل، وتخوفنا سوء المنقلب إن حِدنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فالخير كلُّهُ في الاتباع والشر كله في الابتداع والسر كله في الإخلاص.

يا قومنا أجيبوا داعِىَ الله وءامنوا برسوله وجاهدوا لإعلاء دينه والفوز برضوانه واقتدوا بأخلاق نبينا فإنها منهاج الرشد وعنوان الفلاح وسبيل الخير.

إلهنا وخالقنا ومولانا أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقِينَ والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقًا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءالِهِ وصحبه وسلم.


[١]المرجع كتاب نفحات الإسلام من محاضرات البلد الحرام للسيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ رحمه الله.
[٢] قوله (غُرَّتَه) أى أوله.