رسالة السيد أحمد الرفاعِىّ إلى الخليفة[١]

قبسات من فوائد السيد أحمد بن علىّ الرفاعِىّ الكبير
إمام عصره لاثِمُ كفِّ النبِىّ صلى الله عليه وسلم
المتوفى سنة ٥٧٨هـ رحمه الله تعالى

قال المؤرخ المشهور علىّ بن أنجبَ المشهورِ بابنِ السَّاعِى فى كتاب تاريخ الخلفاء العباسيين ومن أخبار المستنجِدِ وصلاحه أنه كتب كتابًا للسيد أحمد الرفاعىّ نقله ابن المهذب فى كتابه عجائب واسط وسيَّرَهُ له مع حاجبِهِ نصرِ بنِ عمادٍ قال فيه

بسم الله الرحمن الرحيم

من أمير المؤمنين إلى السيد العارف الزاهد الشريف الدالّ على الله بِهَدْىِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم أحمدَ بنِ الشريفِ أبى الحسنِ البطائحىّ العلوىّ نفع الله به المسلمين، أما بعدُ فإنّى أسألك بالله أن تُكثر لِى النصيحةَ بجوابك فإنّى فى حاجة لنصيحتك وأىُّ حاجة، ولا ريبَ عندِى بحصول بركةِ نُصحك لِى إن شاء الله فأجبنِى بما يفتح الله به عليك مكثرًا فإنك مهبط الفتح اليوم وأسألك الدُّعاء لِى وللمسلمين وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه أجمعين اﻫ وطَوَى الكتابَ.

فبعد أن قرأه السيد أحمد قال ماذا أقولُ إن قلتُ لا أقدر على النصيحة خفتُ الرياء وإن قلتُ أقدر خفتُ الفضيحة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم، ثم إنه أمر بدَوَاةٍ وقِرْطاسٍ وأمر الكاتب أن يكتب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدِ خَلْقِهِ محمدٍ عبده وحبيبه ومصطفاه. أما بعد من الفقير إلى الله أحمدَ بنِ علىّ أبى الحسن كان الله له إلى الخليفةِ المُطاعِ أميرِ المؤمنين أحمدَ بنِ أبى أحمدَ المستنجدِ بالله العباسىّ الهاشمىّ أيَّدَهُ اللهُ بما أيَّدَ به عبادَهُ الصالحينَ ءامين. وصلنا كتابُك الآمرُ بالنصيحةِ والحديثُ الشريفُ "الدّينُ النَّصيحةُ الدينُ النصيحةُ الدينُ النصيحةُ" ولولا هذا الحديثُ لما تصدَّيْتُ لنُصحِكَ لأنّ نصيحةَ مثلِكَ بارك الله فيك لها شرطان[٢] الإخلاصُ من الناصح والقبولُ بشرط العمل بالنصيحة من أخيه أيَّدَكَ الله بتوفيقه.

يا أمير المؤمنين إن أنتَ أنفذتَ أحكامَ كتابِ اللهِ تعالى وتقدَّسَ فى نفسِكَ نَفَذَتْ أحكامُ كتبِكَ فى مِلكه وإن عظَّمتَ أمرَ اللهِ تعالى باتباعِ رسوله عليه الصلاة والسلام واحتفلتَ بشأنه الكريم عظَّمَ الناسُ عُمَّالَكَ وولاةَ الأمور من قِبَلِكَ، ولا تنظرْ يا أمير المؤمنين ما عليه القياصرةُ وملوكُ المجوسِ من القوة فى ملكهم مع انسلاخهم وبُعدهم عن كلّ ما ذكرتُهُ لك فإنهم جهلوا الحقَّ فأبعدهم اللهُ عنه وقرَّبَهم من الدنيا وقربها منهم وولاهم أمرَ مَنْ شاء من خلقه، فإن ساسوهم بما تسكن إليه أفئدتُهم وتطمئنّ له طباعُهم دام أمرُهم فى حجابِ دنياهم إلى أن تنقطع حبال ءاجالهم، وإن لم يسوسوهم بالرفق والمداراة وأوقعوا فيهم ما يَثْقُلُ عليهم سلَّطَهمُ الله عليهم فسلب دنيا قومٍ بقومٍ، والنارُ مأوى الكافرين. وأما أنت يا أمير المؤمنين فحافظُ ثغورٍ وحارسُ دماءٍ وأموالٍ هُزت بكل مفازتها سيوفُ الإسلام لا عِلمًا بقدومك بعد حينٍ ولا تمهيدًا لك لتفعل برأيك إنما كان ذلك طاعةً لله ولرسوله فافزع فى كلّ أمورك إلى الله وعظّم فى كلّ شؤونك أمرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنت حينئذٍ فى أمانِ اللهِ وظلّ نبيّه نافذُ الأمرِ ثابتُ السلطانِ مؤيَّدًا بجُند الله وكلماته ولا تبديلَ لكلماتِ اللهِ.

ثم زِنْ يا أميرَ المؤمنينَ كُلَّ ما يصلُ إلى خويصة نفسك فى هذه الدار من طعامٍ تأكلُهُ وشرابٍ تشربُهُ ورداءٍ ترتديه وظلّ تستظلُّهُ واجعلِ الشَّرَهَ على الدنيا بقدرِ ذلك وإياكَ وظلمَ العبادِ، وإذا استفزَّكَ الشيطانُ ورام نزغَكَ إلى الظلم فَسَلْ نفسَكَ أنْ لو كنتَ مسجونًا أو مظلومًا أو مقهورًا أو مكذوبًا عليك ما الذى تريده لنفسك من سُلطانك وعامِلِ الناسَ بما تريدُهُ لنفسِكَ فإنك إن فعلتَ ذلك وَفَيْتَ العدلَ والآدميةَ حقَّهما، واعلمْ أنّ ما أنتَ فيه من الملكِ والدولةِ شىءٌ يسيرٌ من ملك الله تعالى وأنت جزءٌ صغيرٌ منه، فإنْ رأيتَ لكَ شيئًا ونسِيتَهُ وقُمْتَ تفعلُ فِعْلَ مَنْ يزعُمُ مشاركتَهُ فى مِلْكِهِ فأهملتَ حقَّه وغدرتَ خلقَهُ يصرف عنك عَوْنَهُ ونصرَهُ ولك فى مَنْ بادَ عبرةٌ. ولا تنظرْ يا أميرَ المؤمنينَ إلى من صرفهم الله عن مَشْغَلَةِ الدنيا من أحبابه المقربين لديه كبعض الصحابة الذين نازعهم الناسُ وانتزعوا أزِمَّةَ الدنيا من أيديهم لأن أولئك قومٌ اجتذبهم إليه وولَّى على الناس من يشاكلهم فى أعمالهم وكلٌّ عن عمله مسئولٌ ولا يظلم ربُّك أحدًا.

يا أمير المؤمنين ظِلُّك ما أظلَّكَ، ورداؤك ما سترك، وطعامك ما أشبعك، مالك وما لك منه شىء، وليس لك من الأمر شىء، إنّ ربّى على ما يشاء قدير، نعم أنتَ خاتمٌ من خواتيمِ القَدَر يَطْبَعُ على ألواحِ الصُّوَر فيَرفعُ اللهُ به ويضعُ ويصلُ به ويقطعُ، فإنْ أنتَ لزمتَ الأدبَ مع الفعّالِ المطلقِ[٣] برعايةِ حقّ شرعِهِ الذى شَرَعَهُ لعبادِهِ أثابك وأدارَ محورَ الوَهْبِ بك وبأهلِكَ بعدَكَ وإن أهملتَ أمرَهُ وهَتَكْتَ ستْرَ خلقِهِ دخلتَ فى عِدادِ الظالمين وما للظالمين من أنصارٍ.

يا أميرَ المؤمنينَ أهلُ الفَهْمِ السليمِ والذوقِ الصالحِ تجتمعُ هيئتُهُمْ إلى الحقّ ويَتَرَعْرَعُونَ فى بُحبوحةِ العدلِ والإحسانِ فكبيرُهُمْ وصغيرُهُمْ أميرُهُمْ ومأمورُهُمْ حُرُّهُمْ وعبدُهُمْ فى [كمالِ] الدّينِ سواءٌ ولكلٍ منهم مقامٌ معلومٌ لا تَشُبُّ فيهم نارُ الشّقاقِ ولا يتحكمُ فيهم سلطانُ سوءِ الأخلاقِ يحكمونَ بما أنزلَ اللهُ ولا يزالون فى أمانِ اللهِ، ولو احتالوا فى الحُكْمِ فجعلوا له وجهًا فى الظاهرِ وأبطنوا الباطلَ يقولُ لهم الحَكَمُ العَدْلُ ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾[٤] فإذا أظهروا الباطلَ وهيَّأُوا له سبيلاً شرعيًّا أدخلَتْهُ غَلَبَتُهُمْ وشوكتُهُمْ فى الحُكم قال الحقُّ تعالى لَهُمْ ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾[٥] فإذا أظهروا الباطلَ وانتحلُوا له سبيلاً مِنَ الرَّأْىِ استصغارًا لحكمةِ الشرعِ أو تعززًا بالأمر فحكموا به قال لهم المنتقمُ الجبارُ ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾[٦].

يا أمير المؤمنين أَرْوِقَةُ الأعمالِ لا تعمر بأيدِى الخيالِ، ولا يُصانُ حىٌّ إلا بمادةٍ جامعةٍ تُلْصِقُ القلوبَ ببعضها وتدفعُ النزاعَ والتفرقةَ وما هىَ واللهِ إلا الشرع العادل والسُّنَّة المحمديّة الصالحةَ، وكلُّ ذلكَ أمرُ اللهِ الذى طبعَ الطِبَاعَ وعَلِمَ ما تطيبُ له وبه يرتاحُ الضعيف لطلب حقّه من خصمه القوىّ، وأنت تدرِى يا أمير المؤمنين أنّ ابن عمّك إمام المسلمين عليًّا أمير المؤمنين كرَّمَ الله وجهه ورضِىَ عنه حدَّثَ عن ابن عمه سيد المخلوقين أنه قال "لن تُقَدَّسَ أمةٌ لا يُؤْخَذُ للضعيف فيها حقُّهُ من القوىّ غيرَ مُتَعْتَعٍ" والأمرُ واللهِ كذلكَ. وعلمتَ يا أمير المؤمنين من سيرة عمر بن الخطاب الفاروق الجليل رضى الله عنه أنه لم يُرْهِبْ فارسَ والرومَ والمغرب والصين والهند والبربر بفُرُشِ الديباج وبُسُطِ الحرير وكؤوسِ الجوهر والخيولِ المُسَوَّمة والبيوتِ الشاهقةِ والأقواسِ المذهَّبَةِ إنما أرهبَهُمْ بالعدلِ المحضِ وأفحمَ شُوسَ رجالِهم بالحكمةِ البالغةِ ألا وهى شريعةُ نبيّك سيد الحكماء وبرهان العقلاء وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ولْتَعْلَمْ أمطرَ اللهُ على قلبك سحابَ الإلهامِ المباركِ والتوفيق وأحكَمَ أمْرَكَ بالأعوان الصالحين أهلِ الحكمةِ والنجدةِ أنَّ الحقَّ كمينٌ تحت ضلوعِ [أغلبِ] الخاصةِ والعامةِ المُحِقّ منهم والمُبْطِل فربما أعانك عبدُك على باطلِك بيدِهِ ولسانِهِ انقيادًا لوقتِك وأنكَرَ عليكَ بِسِرّه وأضمرَ قلبُهُ لك بعدها السُّوء فلا يَزْكو ذكرُكَ لديه ولو جعلتَهُ حُرًّا ثم أكْبَرْتَهُ ثم استوزَرْتَهُ بلْ ولو كانَ أشدَّ منك باطلاً وهذا سرُّ الله المُضْمَرُ فى الحقّ.

واعلم أىْ سيدِى أنّ جيشَ الملوك العدلُ وحُرَّاسهُم أعمالُهُمْ، ودفاترُ أحوالهم عُمَّالُهُم وأصحابُهُم، وهذه الدفاترُ فى أيدِى العامةِ فأصلِحْ دفترَ أحوالك وأحكمْ حراستَكَ وأيّدْ جيشَكَ، وعليكَ بأهلِ العقلِ والدّينِ، وإياكَ وأربابَ القسوةِ والغدرِ والضلالةِ فهم أعداؤُك، وصُنْ أمرَك من أن تلعبَ به النساءُ والأحداثُ والذين لا نخوةَ لهم فإنهم من دواعِى الخرابِ والاضمحلالِ، وإذا أحببتَ فحَكّمِ الإنصافَ فى عملِكَ حتى لا تقدّمَ غيرَ محقّ أو ترفعَ بغيرِ الحقّ، وإذا كرهتَ فاذكرِ اللهَ ونزّهْ طبعَكَ من جَوْرِ الغدر فإنَّ مكانك مكان الآمن حتى يدور صاحبُهُ مع الحقّ لا مع الغرض، وإذا غضبتَ فاجنحْ للعَفْوِ فإن أخطأتَ أخطأتَ فيه فهو خيرٌ من أن تُخطئ فى العقوبة واجعلْ بَذْلَكَ ونَوَالَكَ لأهل الدّين والحكمة والغَيرة للإسلام واختَرْ منهم أشرفَهُم طبعًا وأكبرَهُم عقلاً وأوجزَهُم رأيًا ونطقًا وأثبتَهُم حجةً وأعلمَهُم بالله ورسوله وساوِ الناسَ بَرًّا وفاجرًا ومؤمنًا وكافرًا فى بابِ عدلِكَ، واحفظْ حُرْمَةَ الدّينِ وأهلِهِ، واعملْ عملاً تَحْسُنُ به عاقبتك إذا لقيتَ ربَّك، والله ولىُّ التوفيق إنا لله وإنا إليه راجعون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى الكتاب.

قال الشيخ ابن الطرىّ قُدّس سرّه[٧] ثم أخذ سيدنا السيد أحمد الكتاب بيده وأعطاه للحاجب وقال "هذا ما عندنا والخير كلُّهُ بيد الله" فأخذ الحاجب الكتاب ومضى إلى بغداد وأعطَى الكتاب الأحمدِىّ إلى الخليفة رحمه الله ونوّر ضريحه واستأذنه بعد أيامٍ قلائلَ بالعود إلى أم عبيدة لأخذ بيعة الطريقة من الإمام السيد أحمد الرفاعىّ رضى الله عنه فأذن له وأرسل معه الهدايا والتحف والأموال الكثيرة لتوزّع على فقراء الرواق وأقسم بالله أنّ كلَّ ما أرسله من إرثٍ حلالٍ فلما وصل أمَّ عبيدة بهدايا الخليفة وذكر يمين الخليفة أمَرَهُ السيد أحمد الكبير رضى الله عنه ففرَّق الهدايا والأموال على الفقراء ثم إنه أخذ العهد على يديه وصار من خواصّ محبّيه رضى الله عنه اﻫ

قال ابنُ الطرىّ قد سألتُ الحاجب نصر بن عماد عن شأن الخليفة بعد أن قرأ الكتاب الأحمدىّ فقال دخلتُ عليه خلوتَهُ ففتح الكتابَ وقرأَهُ وبكى ثم قرأه وبكى ثم قرأه وبكى حتّى اخضَلَّتْ لحيتُهُ بالدموع وتأوَّهَ تأوُّهَ الثَكْلَى ثم لما هدأ روعُهُ وسكن حاله التفت إلىَّ وقال يا نصرُ واللهِ إنّ فى لسان السيد أحمد نغمةً[٨] من لسان جدّه عليه الصلاةُ والسلامُ ولا ريبَ فهذا الرجلُ بركة بلاد الله اليوم، وظلَّ يسألنِى عن قيامِهِ وقعودِهِ ولباسِهِ وأكلِهِ وشربِهِ وكلامِهِ وما هو عليه فكُلَّما ذكرتُ له شيئًا أكثر من البكاء حتى رَحِمْتُهُ وأمسكتُ عن الكلام اﻫ

والله تعالى يوفقنا وييسّر لنا الخير.


[١]المرجع  كتاب تاريخ الخلفاء العباسيين للمؤرخ علىّ بن أنجبَ المشهورِ بابنِ السَّاعِى رحمه الله.

[٢] أى لحصول المقصود منها.

[٣]أى الخالق لكلّ شىء.

[٤] (المائدة/٤٧).

[٥] (المائدة/٤٥).

[٦] (المائدة/٤٤).

[٧]هو الشيخ علىّ بن الطرىّ خادم الشيخ أحمد الرفاعىّ رضى الله عنه.

[٨] النغمة حسن الصوت بالقراءة والمراد هنا جمال العبارة وحسنها وقوة وقعها.