زواج المسلمة بغير المسلم فى ضوء الكتاب والسنة [١]

قبسات من فوائد عالم فاس

الشيخ الفقيه الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل

المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

وبعد تعرف الساحة الإسلامية فى هذه الأيام جدلًا حادًا وخلافًا شديدًا حول زواج المسلمة بغير المسلم من أهل الكتاب وصدرت فتاوى تلو أخرى تبيحه وتستحسنه وتعددت فيها التبريرات والمسوغات وهى مبرراتٌ واهيةٌ لا تصلح أن تكون حججًا وأدلة بالمعنى الصحيح والدقيق للدليل الشرعىّ الذى يُبنى عليه حكمٌ شرعىٌّ تطمئن إليه النفس وتثق به وتسمح للمسلم بالإفتاء به ونشره والدفاع عنه وتتجاهل ما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة من حرمة زواج المسلمة بغير المسلم ابتداءً ودوامًا قولًا وعملًا واعتقاًدا وسلوكًا منذ نزول قوله تعالى (فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) حتى الآن إلى أن ظهرت هذه البدعة وكثر المبشرون بها.

وخوفًا مما يمكنه أن تحدثه هذه الفتاوى مِنَ البلبلة فِى المجتمع نناقش الادعاء بأنّه ليس فِى الكتاب ولا فِى السنة كلمة واحدة تمنع زواج المسلمة بالكتابِىّ.

فِى البداية نُذَكِّرُ الجميع وهذا المُدَّعِى أن مصادر التشريع الإسلامى ليست محصورة فى الكتاب والسنة كما يعلم الجميع ذلك ونؤكد بعد هذا أن الكتاب والسنة فيهما ءَايَاتٌ عدةٌ وأحاديثُ كثيرةٌ تدل على تحريم زواج المسلمة بالكتابى لمن يفهم لغة العرب وخطاب القرءان ومقاصد الشريعة الإسلامية وروحها.

أما الكتاب فهناك خمس ءايات كلّها تدل على منع زواج المسلمة من الكافر يهوديًا كان أو نصرانيًا أو غيرهما من الكفار على اختلاف مِلَلِهِمْ ونِحَلِهِمْ منعًا مطلقًا ابتداءً ودوامًا إنشاءً واستمرارًا فِى بلاد المهجر فِى حالة الحرب والسلم وفِى حالة الضرورة والاختيار كانت تأمل إسلامه أو تيأس منه حتى لو أسلم بعد زواجها به وهو كافر فإنه يفرق بينهما.

الآية الأولى قوله تعالى فى سورة البقرة (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) هذه الآية تدل على منع زواج المسلمة من اليهودىّ والنصرانىّ وغيرهما من الكفار من وجهين تدل على ذلك بنصها ولفظها وتدل على ذلك بروحها وتعليلها.   أما وجه الدلالة على ذلك بنصها ولفظها ففى قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركين) فإن هذا نهىٌ والنَّهىُ يدل على تحريم المنهىِّ عنه والمنع من الإقدام عليه كما يدل على فساده وعدم الاعتداد به وفسخه إذا وقع.

ولفظ المشركين فى الآية جمع معرف بأل وهو يدل على العموم كما يقول الأصوليون يتناول بعمومه اليهود والنصارى فإنهم مشركون يدخلون فى عموم المشركين الممنوع الزواج منهم. ويدل على شركهم

  1. قوله تعالى فى سورة التوبة (وقالت اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)
  2. قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إنَّ اللهَ ثالث ثلاثة)
  3. قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمِنُوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة)

ففى هذه الآيات تصريح بشركهم وبيانٌ شاف لأسباب شركهم يفضح كل مفتر يحاول تبرئتهم من الشرك وإخراجَهُمْ من عموم المشركين المَنْهِىِّ عن تزويجهم المسلمات فى قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركين) وهذا ما فهمه الصحابة وعلماء الأمة وهم أعرف الناس بلغة العرب وأعلم بخطاب الشرع ومقاصده فإن لفظ المشركين يشمل اليهود والنصارى فلا يجوز تزويجهم المسلمات بنص هذه الآية (ولا تنكحوا المشركين) إلا أنه بالرغم من هذه الأدلة وهذا الإيضاح فإنَّ هناك من لا يفهم ويدعى أن هذه الآية ولا تنكحوا المشركين لا تشمل اليهود والنصارى لأنهم غير مشركين ويستدل على ذلك بقوله تعالى:

  1. (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)
  2. ٢.(إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا)
  3. وقوله (لتجدن أشد الناس عدواة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا)

وغير ذلك من الآيات التى فيها الجمع بين أهل الكتاب والمشركين وعطف بعضهم على بعض بحرف العطف الذِى يقتضِى المغايرة كما يقول النحاة وغيرهم. وهو رأىٌ ضعيف يردُّهُ

  1. أنَّ ءاية التوبة تدل على شركهم بالنص الصريح والبيان الواضح (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) وكذلك ءايةُ (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وءايةُ (ولا تقولوا ثلاثة).  وأما دلالة العطف فى آيةِ (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) فهى دلالةٌ ظاهرةٌ فقط والمنطوقُ الصريحُ مقدَّمٌ على الظاهر المحتمل.
  2. احتمال أن يكون العطف فى هذه الآية ونظائرها من عطف العام على الخاص وهو أسلوبٌ مألوفٌ ونوعٌ مِن أنواع العطف والمغايرة فيه بين المعطوف والمعطوف عليه بالخصوص والعموم كافيةٌ ولا تُشْتَرَطُ المباينةُ التامةُ لصحةِ العطفِ وهو فى القرءان الكريم كثير ومنه (ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) فإن عطف المؤمنين على الرسول من عطف العام على الخاص فإنه أصدق المؤمنين وأولهم. هذا عن الدلالة اللفظية لآية (ولا تنكحوا المشركين) على منع زواج المسلمة بالكتابي.

وأما الدلالة على المنع من جهة التعليل فيتجَلَّى فى قوله تعالى (أؤلئك يدعون إلى النار) فإن فيه إشارة قوية ودلالة واضحة على أن علة تحريم نكاح أهل الشرك أنهم يدعون إلى النار وهذا المعنى موجود فى أهل الكتاب وفى غيرهم من الكفار الكل يدعو إلى النار بفعله وسلوكه وقوله ولسانه ويفرض ذلك بسلطته ونفوذه فكيف إذا انضم إلى ذلك سلطة النكاح التى يمارسها الأزواج على الزوجات. قيل وفى هذا التعليل الإلهى والتعبير القرءاني(أؤلئك يدعون إلى النار) تحذير شديد للأولياء من أن تقودهم هذه الزيجة والمصاهرة إلى خسارة دينهم وآخرتهم.

وهو تعليل يحمل فى طياته وبين ثناياه وأسراره ردا مفحمًا وجوابًا شافيًا عما يحتج به بعض المغرورين من أن تزويج المسلمة من كتابى قد يؤثر إيجابًا على الزوج غير المسلم فيدخل فى الإسلام هو وأسرته ومن حوله وهو فتحٌ مبيٌن كما سماه!! ونَسِىَ أن أحلام الليل سرعان ما تتبخر عند الصباح وأن العكس هو الكثير والغالب أن تفقد المسلمة دينها كليًّا أو جزئيًّا وأنَّ أولادها لا أمل فِى إسلامهم كما أنه ليس من دين الإسلام ولا من مبادئه استخدام بناته وأعراض نسائه فى استقطاب الآخرين ودعوتهم للإسلام ولا يجوز ارتكاب محرمٍ لتحقيق مندوبٍ ولا جلبِ مصلحةٍ بفعلِ معصيةٍ ولا الدعوةُ للإسلامِ بانتهاكِ شريعتِهِ أو التنازلِ عن مبادئِهِ والتفريطِ فى ثَوَابته والتساهل فى أحكامه وخرق ما أجمعت عليه الأمة.

والآية بنصها وتعليلها تَعُمُّ الحربيين والمُعَاهدين وتشمل المسلمات فى بلاد الإسلام وفى بلاد المهجر لقاعدة أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع وقاعدة أنه يلزم من وجود العلة وجود الحكم. 

الآية الثانية قوله تعالى فى سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) هذه الآية تدل على منع زواج المسلمة باليهودى والنصرانى من وجوه عدة نصًا وتعليلًا وتفريعًا

أولًا تدل على ذلك نصًّا فى قوله تعالى( فلا ترجعوهن إلى الكفار) فإنّ هذا نهىٌ والنهىُ يدلُّ على التحريم والفساد وفِى تحريم رد الزوجة والمسلمة إلى زوجها الكافر دلالة واضحة على انقطاع الذِى كان بينهما من الزواج فإنه لو كانت الزوجية باقية قائمةً كما كانت قبل إسلامها لما نهى الله عن رد المهاجرات المسلمات ولأَمَرَ بردِّهِنَّ إلى أزواجهن، يؤكّدُ هذا قول الزهرى لم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينهما اهـ وإذا مَنَعَ مِن استمرار العصمة الموجودة فإنه يمنع إنشاؤها ابتداءً من باب أولى وأحرى لما علم من أنه يغتفر فى الدوام ما لا يغتفر فِى الابتداء وإذا لم يرخص فيما كان موجودًا فإنه لا يرخص فى إنشاء ما كان مفقودًا من باب أولى وأحرى.

ثانيًا فى تعبيره سبحانه عن أزواجهن لفظ الكفار (فلا ترجعوهن إلى الكفار) وهى إشارة قوية إلى انقطاع النكاح بينهم وأنهم الآن بعد الهجرة والإسلام مجرد كفار لا أزواج.

ثالثًا فى قوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وهو فى قوة التعليل لحرمة ردهن إلى أزواجهن بِنَفْىِ الحِلِّ عن الجانبين فالمسلمة لا تحل للكافر والكافر لا يحل للمسلمة (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وهو تأكيد لمنعِ رَدِّهِنّ وتأكيدٌ لِنَفْىِ حل المسلمة للكافر ودوام حرمتها عليه وحرمته عليها حيث جاء التعبير عن ذلك بصيغة الجملة الاسمية المفيدة للدوام والتأكيد، وجاء النَّفْىُ بصيغة لا المفيدة لدوام النَّفْىِ، ونَفْىُ الحل يَقتضِى منعَ الزواج ابتداء للقاعدة الأصولية أن العقد الذِى لا يحقق المقصودَ منه لا يجوز شرعه لأنه مجرد عبثٍ وأنها إذا كانت لا تحل له ولا يحل لها فأىُّ فائدةٍ فِى الزواجِ بينهما.

رابعًا فى قوله (وءاتوهم ما أنفقوا) فإنَّ هذا الأمرَ بإعطاء أزواجهن ما أنفقوا عليهن مِن الصَّداق دليلٌ ءاخرُ على انفساخ النكاح السابق فإنّه لو كان باقيًا ثابتًا لما أمر الله بذلك ولما كان هناك مبرر لدفع صدقاتهن لأزواجهن والزوجيةُ قائمةٌ لأنه لا يجوز الجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه.

خامسًا فى إباحة تزوجهن فى قوله (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهن أجورهن) فإن فى هذا دليلًا ءاخر على انفساخ النكاح السابق لأنه لو كان باقيًا قائمًا لما أباح نكاحهن لأنهن زوجاتٌ وقد حرم الله نكاح الزوجات فى قوله (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) والآية عامةٌ فِى الكفار (فلا ترجعوهن إلى الكفار) فتشمل اليهود والنصارى والمشركين وغيرَهُمْ والجميعٌ كفارٌ بدليل قوله تعالى (لُعِنَ الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) وقولِهِ تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) وقوله (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) وقوله (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم)

فهذه الآيات وغيرُها كثيرٌ تدلُّ صراحةً على كفر اليهود النصارى فيدخلون فى عموم قوله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار) خلافَ ما يُرَوِّجُ له البعضُ من أن اليهود والنصارى ليسوا كفارًا فلا تشملهم هذه الآية فإن هذا كلام باطلٌ عارٍ عن الصحة لا يُعْبَأُ به تردُّهُ الآياتُ السابقة التى وصفت أهل الكتاب بالكفر وهم أهل له وأحق به وأجدر.

والآية وإن كانت نزلت فيمن أسلم من المشركات وهاجر كما قال تعالى( يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) إلا أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون ولأن العلة فى منع ردهن هى إسلامُهُنَّ وكفرُ أزواجهن وهى موجودة فى الكتابي.

وهذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالح من هذه الأية وهم كما قلنا أعرف بلغة العرب ومقاصد الشريعة الإسلامية. روى الطحاوىُّ بسند صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما فى اليهودية والنصرانية تكون تحت اليهودىّ أو النصرانىّ فتسلم قال (يفرِّقُ بينهما الإسلام يعلو ولا يعلى)

وروى سعيد بن جبير عن عكرمة عن ابن عباس قال (لا يعلُو مسلمةً مشركٌ فإن الإسلام يظهر ولا يظهر عليه)

وروى سعيد بن منصور فى سننه عن ابن عباس أيضًا فى نصرانىٍّ تحته نصرانية فأسلمت قال (يفرق بينهما لا يملكُ نساءَنا غيرُنا نحن على الناس والناس ليسوا علينا)

وعن علىّ بن أبِى طالب رضى الله عنه قال (لا ينكح اليهودىُّ المسلمةَ والنصرانىُّ المسلمةَ)

وسئل جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال (تزوجناهن زمن فتح الكوفة مع سعد بن أبى وقاص ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا فلما رجعنا طلقناهن) وقال جابر (نساؤهم لنا حلال ونساؤنا عليهم حرام)

وروى سعيد بن منصور بسنده أن امرأة من بَنِى تَغْلِب كانت تحت رجل مِن بَنِى تغلب فأسلمت فقال عمر لزوجها (إما أن تسلم وإما أن ننزعها عنك) فقال لا تحدث العرب أنى أسلمت لبُضْعِ امرأتِى فنزعها منه، وبنو تغلب كانوا من نصارى العرب واتنزاع المرأة التى أسلمت من زوجها النصرانى الذِى أبَى أن يسلم معها دليل على منع زواج المسلمة بالنصرانى ابتداءً من باب أولى وأحرى.

وفى سنن سعيد أيضًا أن هانِئ بن قَبِيصة أسلمت امرأته قبله فَخَشِىَ أن يُفَّرَقَ بينهما فسأل أبا سفيان أن يكلم عمر رضى الله عنه فى ذلك فاعتذر له بأنه يخاف من عمر وأن عمر لا يُكَلَّمُ فِى ذاتِ اللهِ.

وروى البخارىُّ عن ابن عباس رضى الله عنهما (إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعةٍ حرمت عليه)

وهو ما أجمع عليه علماء الأمة قال ابن عبد البر الإجماعُ على أنَّ المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر. وقال أيضًا أجمع العلماء أن الكافرة إذا أسلمت ثم انقضت عدتها أنه لا سبيل لزوجها إليها إذا كان لم يسلم فى عدتها إلا شىء روى عن إبراهيم النخعىّ شذ فيه عن جماعة العلماء ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء إلا بعض أهل الظاهر. أى أنهما ترجع إليه ولو أسلم بعد مضِىّ العدة وليس كل ما يُرْوَى على كل حالٍ ثابتًا.

الآية الثالثة قوله تعالى (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وهى آية تدل أيضًا على منع زواج المسلمة باليهود و النصارى وغيرهما من الكفار وتحريمه ابتداء وتحريم الاستمرار عليه إذا أسلمت دونه لأنه يؤدى إلى ظهور غير الإسلام على الإسلام وعلو الكفر على الإيمان وهو خلاف نص القرءان ليظهره على الدين كله.

وبهذه الآية استدل ابن عباس رضى الله عنهما على وجوب التفريق بين النصرانية و زوجها النصرانىّ إذا أسلمت دونه وعلى تحريم نساء المسلمين على غير المسلمين. رَوَى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله عنهما فى نصرانى تحته نصرانية فأسلمت قال يفرق بينهما لا يملك نساءنا غيرنا نحن على الناس والناس ليسوا علينا وذلك لأن الله عز وجل يقول (ليظهره على الدين كله) ولعل فى استدلال ابن عباس رضى الله عنهما بهذه الآية على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم ما يَشْفَى ويُغْنِى فِى الرد على مَن ينكر دلالتها على ذلك ويتذرع بخفاء الدلالة وغموضها أو بُعْدِها من السياق فابن عباس ترجمان القرءان دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفقهه فى الدين ويعلمه التأويل وهو أعرف الناس بلغة العرب ومقاصد الشرع فإذا استدل بهذه الآية على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم من اليهود والنصارى لم يبق لأحد وخاصة الذين لا نصيب لهم فى اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية والمتطفلين عليها والحريصين على التشويش عليها والتشكيك فيها وتشويه صورتها.

 الآية الرابعة قوله (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وهى آية عامة فى الكافرين تشمل كل كافر كان يهوديًا او نصرانيًا او غيرها لقاعدة ان الجمع المعرف بأل للعموم.

وهى أيضا عامة فى كل مؤمن ومؤمنة لقاعدةِ أنَّ الجمع المعرف بأل للعموم وقاعدة أنَّ جمعَ المذكر السالم يتناول بعمومه النساء ولأنَّ النساء شقائق الرجال فِى الأحكام فكما لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا فلا يجعل لهم على المؤمنات سبيلًا.

كما أنّها عامة فى السبيل لأنه نكرة فى سياق النفى تشمل كل سبيل من السبل والنكاح واحدٌ منها لغةً وشرعًا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلًا حين قال صلى الله عليه وسلم لمن لاعن زوجته لا سبيلَ لك عليها ولأنَّ الزوجَ قوام على زوجته بنص القرءان (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) ولأنّ الزوج سيد بنص القرءان (وألفيا سيدها لدى الباب) ولا يجوز لكافر أن يسود مسلمة.

وبهذه الآية استدل ابن عبد البر فى التمهيد وابن حزم فى المحلى أيضًا وهى عامة تشمل ابتداء النكاح واستمراره إذا أسلمت دونه.

كل ذلك لا يجوز للقاعدة السابقة أنَّ عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ولقاعدةِ أنَّ ترتيبَ الحكم على المشتق يؤذن بِعِلِّيَّةِ ما منه الاشتقاقُ وقاعدةِ أنَّ العلة يلزم من وجودها وجود الحكم والعلةُ هنا هى الكفر المستنبطةُ مِنْ ترتيبِ الحكم على وصف الكفر فى قوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) فكلما وُجِدَ الكفرُ وُجِدَ الحكمُ ومُنِعَ الكافرُ مِنَ التسلط على المسلمة وتمكينه منها بنكاح أو غيره.

الآية الخامسة قوله تعالى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هذه الآية فيها إشارة إلى منع زواج المسلمة باليهودِىّ والنصرنِىّ لأن الله تعالى حين تحدث عن الطعام جعل الحل مشتركًا بيننا وبين أهل الكتاب، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم وحين تحدث عن النساء جعل نساءهم حلًا لنا وسكت عن حل نساءنا لهم وفى ذلك إشارة دقيقة إلى عدم حلهن لهم فإنَّه لو كان حلالًا لأهل الكتاب التزوج بنسائنا لَذَكَرَ ذلك كما ذكر حل طعامنا لهم ليتم التعايش والتعاشر بيننا وبينهم فى الطعام والنساء دون فارق ولكنه سبحانه حين أحل لنا نساءهم وسكت عن حِلّ نسائنا لهم دَلَّ ذلك على تحريم نساء المسلمين على أهل الكتاب عملًا بقاعدة الأصل فى الفروج الحرمة فلا تُستباح إلا بدليل.

والسِرُّ فى إباحة زواج المسلم بالكتابية ومنع المسلمة من الزواج بالكتابِىّ هو

أ‌-    أن القوامة بيد الزوج فى الزواج فزواج المسلمة بالكتابِىّ يُؤَدِّى إلى سيادته عليها وهو لا يجوز لقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وقوله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه).

ب‌-      أن الأولاد يتبعون الأب فى الدين والنسب ففى تزويج المسلمة بالكتابِىّ تعريض أولادها للكفر وتكثير سواد الكفار.

ج- أن المسلم يؤمن بموسى وعيسى عليهما وعلى نبينا السلام فإذا تزوجت اليهودية والنصرانية بالمسلم فإنها تكون فى حضن زوج يحترم نبيها والمسلمة إذا تزوجت اليهودى أو النصرانى تعيش فى عصمة زوج لا يؤمن بنبيها ولا يحترم دينها وشعائرها ولا يقيم وزنًا لمبادئها ومشاعرها وهو أمر من شأنه تهديد استقرار الأسرة والإخلال بالمودة والرحمة التِى يقوم عليهما الزواج فى الإسلام فكان من الحكمة منع هذا الزواج ابتداء.

أدلة السنة على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم

وأما السنة فهناك عدة أحاديث تدل على منع زواج المسلمة بغير المسلم من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار وتؤكد ما جاء به القرءان الكريم من تحريم ذلك تحريمًا تامًّا وعامًّا لا استثناء فِى ذلك ولا رخصة ولا خصوصية وهِى

الحديث الأول حديث جابر بن عبد الله رفعه قال (لا نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا إلا أن يرث الرجل عبده أوأمته ويحل لنا نساؤهم ولا يحل لهم نساؤنا)

وهو نصٌّ صريح فى منع زواج المسلمة بأهل الكتاب يهودًا أو نصارى وتحريمها عليهم بصفة دائمة بالنكاح أو ملك اليمين وهو عام فى كل زمان وفى كل مكان وفى كل الظروف والأحوال لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بالكتابِىّ وإذا تزوجته يجب التفريق بينهما.

الحديث الثانِى حديث ابن عباس أيضا أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذا خرجت المرأة من دار الشرك قبل زوجها تزوجت من شاءت وإذا خرجت من بعده ردت إليه) وهو دليل أيضًا على انفساخ النكاح بإسلام الزوجة قبل زوجها وخروجها قبله ولذلك جوز لها أن تتزوج من شاءت.

الحديث الثالث حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال (وكان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر قبل أن تنكح ردت إليه)

وهو مثل الذى قبله فى الدلالة على منع زواج المسلمة بغير المسلم حيث أباح لها الزواج إذا طهرت من الحيض قبل مجيء زوجها وإذا لم يَجُزِ التَّمَادِى على النكاح السابق لم يجز نكاح جديد من باب أولى وأحرى.

الحديث الرابع حديث ابن عباس أيضًا قال (أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجت فجاء زوجها إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا نبىّ الله إنى قد أسلمتُ وعلمتْ بإسلامِى فانتزعها رسول الله من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول)

و فى رواية فقال (إنى قد أسلمت معها وعلمت بإسلامِى...) والحجة فى هذا الحديث من وجهين:

الأول فى تزوج المرأة بعد إسلامها ولم تنتظر أن يطلقها زوجها وهو يدل على أن حرمة زواج المسلمة بالكافر وبقاءها فى عصمته كان معروفًا شائعًا بين المسلمين يعرفه الرجال والنساء منهم.

الثانى أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه زوجته إلا لقوله (إنه أسلم معها وعلمت بإسلامه) للقاعدة الأصولية أنّ حُكْمَهُ صلى الله عليه وسلم بعد سماعِ وصفٍ يدل على عِلِّيَّةِ ذلك الوصف وقاعدةِ أنَّ الفاء فِى كلام الراوِى تدل على عِلِّيَّةِ ما قبلَها لما بعدها نحو سها فسجدَ وهذا يعنى أنه لو لم يكن أسلم معها لما ردها إليه.

الحديث الخامس حديث ابن شهاب قال ولم يبلغنا أنَّ امرأةً هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر ومقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا يقدم مهاجرًا قبل أن تَنْقَضِىَ عدتها. وهو وإن كان حديثا مرسلًا إلا أن ابن عبد البر قال فيه هو حديثٌ مشهور معلوم عند أهل السير وابنُ شهاب إمام أهل السير وعالمهم وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده وهو نصٌّ صريح فى انفساخ النكاح بإسلام الزوجة وهجرتها إذا لم يسلم زوجها قبل انقضاء عدتها.

الحديث السادس حديث أنس مالك رضى الله عنه قال (خطب أبو طلحة أم سليم فقالت واللهِ ما مثلك يا أبا طلحة يُرَدُّ ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لى أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مَهْرِى وما أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهره....) وهو نصٌّ صريح فى تحريم المسلمة على الكافر بقطع النظر عن كونه مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا أو غيرهما لقولها (ولكنك رجل كافر) فالعلة هى الكفر والكفر بصفة عامة.

الحديث السابع ما رواه ابن إسحاق من أنَّ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع حين أسره المسلمون فأجاز تأمينها له ودخل عليها وقال لها أىْ بُنَيَّة أكرمى مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له) وهو نص صريح فى تحريم المسلمة على الكافر وعدم حلها له وهو تأكيد لقوله تعالى (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وذلك دليل على انفساخ النكاح القائم بينهما وإلا لما نهاها عن خلوصه إليها.

الحديث الثامن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابنته زينب على أبِى العاص بن الربيع بنكاح جديد رواه الترمذىُّ وقال العمل عليه عند أهل العلم.

وهو دليل أيضا على انفساخ النكاح الذى كان قائمًا بينهما ولذلك ردها إليه بنكاح جديد بعد إسلامه ولم يكتفِ بالنكاح الأول لبطلانه بإسلامها قبله.

فقد وضع لذِى عينين أنَّ الكتاب والسنة متعاضدان ومعهما الإجماع القولِىُّ والفعلِىُّ وأحكام الحكام والقضاة لمدة أربعة عشر قرنًا على أنّه لا يجوز ولا يصح ولا ينعقد زواج المسلمة لغير المسلم.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب شذرات الذهب فى ما جد فى قضايا النكاح والطلاق والنسب للشيخ الفقيه الأصولِىّ محمد التاويل رحمه الله تعالى.