سرّ تعدّد الزوجات فِى الإسلام (١)[١]

قبسات من فوائد عالم المالكية فى مصر
الشيخ يوسف الدَجْوِى
المتوفى سنة ١٣٦٥ هـ رحمه الله تعالى

يحسن بنا فِى هذا الظرف أن نعرض لهذا الموضوع وقد لاكته الألسن كثيرًا وكأن فِى نفوس بعض الناس شيئًا مما جاء فِى التشريع الإسلامِىّ أو ميلًا إلى ما فى النصرانية الأوروبية التِى قلدناها فى كل شىء على غير هدًى ولا بصيرة فنقول

لسنا نذهب فى تعليل ذلك إلى ما قاله المسيو (دولست) من أن الرجل من الشرقيين أكثر قوة وأعظم شبقًا من الغربِىّ وكذلك قال بعض المشتغلين بعلم طبائع الأمم إن تعدد الزوجات أمرٌ من ضروريات الأمم الشرقية لما فيهم من القوة العظيمة أى فيجب فى الشريعة العامة التى جاءت للأمم كلها أن تراعَى ما يناسب طبائع الجميع.  ولهذا قال (الكُنت هنرى كسترى) أنه ليصعب جدًا على الغربيين أن يقدروا شريعة القرءان فى تعدد الزوجات حق قدرها لما بينهم وبين الشرقيين من الاختلاف الكلِىّ، كما لست أُعلل ذلك بما يعلل به بعضهم من أن العرب كانوا يتزوجون كثيرًا بلا حدّ فلو جاء الإسلام يقرهم على واحدة كان ذلك صعبًا على قريش وغيرهم من قبائل العرب الذين اعتادوا الكثرة كغيلان الذِى أسلم على عشرة نسوة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبقِىَ أربعًا ويفارق سائرهن كما في الحديث الصحيح. وممن علل بذلك (الكنت هنري) حيث يقول إن ذلك ربما أدَى إلى تزعزع عقيدتهم فى الدين الجديد فلهذا أباح لهم تزوج الأربعة تخفيفًا للشر وتأليفًا لقلوبهم ببعض ما ألفوه فهو لم يفعل ذلك إلا لمصلحة الإسلام كما تقتضيه الحكمة البالغة.

ولست أقول فى ذلك أيضًا ما يقوله (المسيو ريفيل) أننا لو رجعنا إلى زمن النبِىّ صلى الله عليه وسلم ومكان ظهوره لما وجدنا عملًا يفيد النساء أكثر مما أتاه عليه السلام فهن مدينات لنبيهن بأمور كثيرة. لسنا نعلل بشىء من ذلك كله وإن كان له من النظر قسط ومن الحق وجه ولكننا نعمد بك إلى ما هو أقرب من هذا وأولى بالاعتماد عليه.

إنك تعلم أن الرجال معرضون لأخطار الحروب الآكلة ومخاوف الأسفار فى البر والبحر التِى تحدث كثيرًا لركاب البواخر من الغرق وغيره خصوصًا فى هذا الزمن (زمن الغواصات) التِى نعرف خطرها وفى كل يوم نسمع خبرها فضلًا عن غيرها مثل حوادث الترام. ومخاطر الطيران ومهاوِى الجنايات منهم على غيرهم ومن غيرهم عليهم ومعاناة الأشغال التى تكون لاستخراج المعادن من مكانها أو اللآلىء من مستقرها ومما عسَى أن يكون من خطر البراكين وغيرها وما التحق بذلك وما يكون من بعض الطبقات الدنيا من الفظائع التِى كثيرًا ما تودِى بحيتهم أو حياة غيرهم.       وإن شئت ضممت إلى هذا ما تسمعه من حوادث الانتحار أو رمِى الكثير بنفوسهم فِى البحر تخلصًا من مضايق الحياة ومتاعب العيش كما يقع ذلك كثيرًا بانجلترا وغيرها مما يتناقص به الرجال تناقصًا كثيرًا.

ثم ألق ببصرك إلى ما ليس بالبعيد مما فعلته الحروب الطاحنة مثل الحرب الروسية اليابانية أو الترنسفالية الإنجليزية أو العثمانية البلقانية وأفظع من ذلك كله تلك الحروب الكبرى التِى لا تزال ماثلة في الأذهان بويلاتها ومصائبها ولا يدرِى ما تأتِى به هذه الحرب القائمة الآن إلا الله تعالى ولو نظرت في التاريخ لوجدته يفيض أنهارًا من الدماء من ينابيع الشقاء قديمًا وحديثًا.        

وأظنك لا تشك فِى أن غالب هذا كله لا يكاد يوجد فى النساء حتَى حوادث الانتحار الفردية إلا على سبيل الشذوذ فى ندور من الأحوال. ثم نقول بعد ذلك كله قد دلت الإحصائيات الرسمية على أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال وأصبح ذلك مما لا شك فيه.

فقل لى إذا حصلت هذه الحوادث وكان الرجل مقصورًا على زوجة واحدة فماذا تصنع تلك النساء ومن ذا يقوم بإعفافهن إذا كان لا يجوز للرجل أن يتزوج إلا واحدة ومن يُعينُهُنَّ فى مسيرة الحياة.

ولئن فرضنا أن فى تلك الأمة من ذوِى الإحساس والهمة من يقوم بشئونهن على ما يجب كما يردن وتريد الإنسانية وهو فرضٌ لا يكون ولئن كان فلن يدوم أفلا يَلْحَقُهُنَّ من المنة أو العار ما ينغص عيشهن ويكدر صفوهن بتلك الصدقات التِى هِى عنوان المذلة وبرهان المهانة ومجلبة العار والشنار لهن ولأقاربهن.

وأما إذا تزوجن كانت نفقتهن واجبة على الزوج فلا يمكنه أن يفرط فيها ولا أن يدع أمرها يومًا من الأيام لغيره بعدما أخذ عليه من يوم ذلك الزواج أن يذود عنها عوادِى الدهر وغوائل الحياة لمكان ذلك من نفوس الأزواج وما يكون بين الزوجين من أواصر المحبة إلى غير ذلك من الروابط التِى لا يستهان بها فى نظر العقل والدين والعرف وبهذا تتم السعادة والهناءة لهن ماديًا وأدبيًا وفى الشريعة الإسلامية من واجباتهن على الزوج ما يضمن لهن إذا تحققت الراحة من توتر النفس وتعبها.

ولنقف هنا خشية الإملال.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع مجلة الإسلام السنة الثامنة سنة ١٣٥٨ه