شَدُّ الوَطأة على من أجاز مصافحة المرأة[١]

قبسات من فوائد محدث الديار المغربية
عبد العزيز بن محمد بن الصديق الغمارِىّ
المتوفَى سنة ١٤١٨هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وبعد فقد سألنِى فضيلة الأخ العلامة المؤرخ الباحث الأستاذ السيد محمد بن الفاطمِى بن الحاج السلمِى الفاسِى الأستاذ بثانوية القرويين تولاه الله تعالى ورعاه عن مصافحة الرجال للمرأة الأجنبية هل تجوز شرعًا مثل جوازها للرجل مع الرجل، قال فإن بعض من يدعِى العلم بفاس زعم أنَّ مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية لا شىء فيها ولا حرج ولا إثم وادَّعَى أنَّ قوله صلى الله عليه وءاله وسلم إنِّى لا أصافح النساء خاص به ولا يشمل أمته كما هو الحال فى سائر خصائصه صلى الله عليه وءاله وسلم وزعم كذلك أنَّ المراد بالمس المذكور فى حديث لأنْ يُطعن أحدُكُم بمِخْيَطٍ فى رأسه خيرٌ له من أن يمسَّ امرأةً لا تحل له هو الجماع ولأجل ذلك لا يُستدل به على تحريم المصافحة باليد للمرأة الأجنبية.

وقد أجبتُ فضيلة العلامة بما يدفع اللبس ويكشف القناع عن فساد قول هذا المُدَّعِى مشافهةَ وأتيتُ له بالأدلة الكافية فى ذلك ولكنه طلب رعاه الله تعالى مع ذلك أن يكون الجواب عن السؤال كتابةً فأجبت طلبه ولبيت رغبته رغم العوائق والموانع التى تشغل البال عن التفرغ لتحرير الجواب كتابة فاختلست جلسة من يوم الأربعاء الثانِى والعشرين من ذى الحجة الحرام سنة ست وأربعمائة وألف وحررت فيها ورقاتٍ فِى الجواب عن السؤال الذِى أرجو أن يكون مع اختصاره مفيدًا لأهل العلم كافيًا لأهل الحيرة فى رفع ما قد علق بذهنهم من خطإٍ وفساد ما سمعوه من جواز مصافحة المرأة الأجنبية وسميتها شِدَّ الوَطْأة على من أجاز مصافحة المرأة والله تعالى أسأل القبول والنفع والعون وهو حسبِى ونعم الوكيل.

فصل

اعلم أيها الأخ الأَجَلّ أن مصافحة المرأة الأجنبية حرام لا يجوز للمسلم أن يقع فيه، وجريمة فى شريعتنا يقبح بالمؤمن اقترافها، والقول بغير هذا منكرٌ وزورٌ وخروج عن أحكام الشريعة المطهرة وأصولها.

وقد حرّم الله تعالى أمورًا لكونها من الذرائع إلى الفساد منها مَنْعُ النساء من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا فى نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجل صوت الخلخال فيثير ذلك دواعِى الشهوة منهم إليهنَّ، ومنها أنَّه حرم الخلوة بالأجنبية ولو فى إقراءِ القرءان والسَّفرِ بها ولو فِى الحجِ وزيارةِ الوالدين سدًّا لذريعةِ ما يُحَاذَرُ من الفتنة وغلبات الطباع، ومنها أنَّ الله تعالى أمر بغض البصر وإن كان إنّما يقع على محاسن الخِلْقَةِ والتفكر فى صنع الله تعالى سدًا لذريعة الإرادة والشهوة المُفضية إلى المحظور، ومنها أنَّه نهَى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا وذلك لأنَّه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، وما ذلك إلا لأنَّ المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى الحرام ومنها أنَّه أمر أن يفرق بين الأولاد فى المضاجع لأنَّ ذلك قد يكون ذريعة إلى نسجِ الشيطان المُواصَلَةَ المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول، ومنها أنَّه نهَى المرأة أن تسافر بغير محرم وما ذلك إلا أنَّ سفرها بغير مَحْرَم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها.

وقال القرافِىّ فى كتاب الفروق ويُحْكَى عن المذهب المالكِىّ اختصاصه بسدّ الذرائع وليس كذلك بل منها ما أجمع عليه اهـ كلامه.  وقال بعد أن أشار إلى بعض الآيات الدالة على سدّ الذرائع ما نصه فإنها تدل على اعتبار الشرع سدّ الذرائع فى الجملة وهو مجمع عليه اهـ

إذا علمت هذا فاعلم أنَّ مصافحة المرأة الأجنبية لا سيما الشابَّة من أعظيم الوسائل وأقرب الطرق إلى الوقوع فى جريمة الزنا.  فلأجل ذلك حرَّمها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وءاله وسلم فروى الطبرانِىُّ فى الكبير والبيهقِىُّ فى الشعب عن معقل بن يسار رضِى الله تعالى عنه مرفوعًا لأن يطعن أحدكم بِمِخْيَطٍ من حديد خيرٌ من أن يمسَّ امرأة لا تحل له اهـ  قال الحافظ المنذرِىّ فى الترغيب رجال الطبرانِىّ ثقاتٌ رجالُ الصحيح اهـ وقال الحافظ الهيثمِىُّ فى مجمع الزوائد رواه الطبرانِىّ ورجاله رجال الصحيح اهـ وفى روايةٍ عند البيهقِىّ فى الشعب (لأن يكون فى رأسِ رجل مشطٌ من حديد حتى يبلغ العظمَ خير له من أن تمسه امرأة ليست له بمحرم) قال المناوِىّ فى فيض القدير فى شرح هذا الحديث وإذا كان هذا فى تحريم المس الصادق بما إذا كان بغير شهوة فما بالك بما فوقه من القُبلة اهـ

وذكر محمد بن نصر السمرقندِىّ وهو من أئمة التفسير وله تفسير جيد فى كتاب التنبيه ١٣٤ فى تفسير قوله تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن يعنِى ما كبر وهو الزنا وما بطن يعنِى القُبلة واللمس كله زنا كما جاء فى الخبر اليدان تزنيان والعينان تزنيان فسمَى الله تعالى القُبلة واللمس فواحش وهِى ما قبح من الذنوب والمعاصِى اهـ ويشهد لهذا التفسير ويؤيده ما ثبت فى الصحيح والسنن من إطلاق الزنا على مس اليد للأجنبية ومباشرتها ففِى الصحيحين والسنن وغيرها من حديث أبِى هريرة عن النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم قال كُتب على ابن ءادم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة العينان تزنيان وزناهما النظر والأُذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش أى المسُّ والرِّجل زناها الخُطا والقلب يهوَى ويتمنَى ويصدق ذلك الفرجُ أو يكذبه اهـ وروَى أحمد بسند صحيح والبزار وأبو يعلَى عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزنِى اهـ

قال النووِى رضِى الله تعالى عنه فى شرح صحيح مسلم فى كلامه على حديث أبِى هريرة المتقدم ما نصه معنَى الحديث أنَّ ابن ءادم قُدِر عليه نصيبه من الزنا فمنهم من يكون حقيقيًا بإدخال الفرج فى الفرج الحرام ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله أو بالمس باليد بأن يمسَّ أجنبية بيده أو يقبلها أو بالمَشْىِ بالرِجل إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك أو بالفكر بالقلب فكل هذه أنواعٌ من الزنا المجازِى إلخ كلامه.

فظهر من هذا الذِى ذكرناه أن مصافحة المرأة الأجنبية من الأمور المحرمة فى الشريعة المنكرة فى ديننا لأنها وسيلة إلى الزنا وذريعة إلى الفجور وطريق إلى الجريمة ولأجل ذلك سماه النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم زنًا تنفيرًا منه وتحذيرًا من الوقوع فيه وتنبيهًا على أنَّه من وسائل الفاحشة وطريق إليها وما كان وسيلة إلى حرام فهو حرام كما هو معلوم ولهذا جزم فقهاء المذاهب الأربعة بأنَّ مصافحة المرأة الأجنبية حرام.  بل قالوا إنَّه فوق النظر المحرم وأشدُّ منه فى الإثم ولهذا قال محمد بن مهران سُئل الإمام أحمد عن الرجل يصافح المرأة قال وشدَّد فى ذلك جدًا اهـ

قال النووِىُّ فى شرح حديث ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم يد امرأة قطّ غير أنّه يبايعهن بالكلام من شرحه على صحيح مسلم وفيه أنَّ بيعة الأجنبية بالكلام من غير أخذ كفٍّ وفيه أنَّ كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة وأن صوتها ليس بعورة وأنَّه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطيبٍ وفصد وحجامة وقلع ضرس وكحل عين ونحوها تفعله جاز للرجل فعله للضرورة اهـ

وقال الحافظ فى الفتح فى شرح هذا الحديث أيضًا وفى الحديث أن كلام الأجنبية مُباح سماعه وأنَّ صوتها ليس بعورة ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك اهـ

وقال أبو بكر ابن العربِى فى شرح الترمذِى فى الكلام على حديث أميمة بنت رقيقة فى بيعة النساء ما نصه التاسعة كان النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم يُصافح الرجال فى البيعة باليد تأكيدًا لِشدة العقدة بالقول والفعل فسأل النساء ذلك فقال لهن قولِى لامرأة واحدة كقولِى لمائة امرأة ولم يصافحهُنَّ لما اوعز إلينا فى الشريعة من تحريم المباشرة إلا مَن يحل له ذلك منهُنَّ اهـ

وقال الحافظ فى الفتح فى باب المصافحة بعد أن ذكر استحبابها ووجوب استعمالها ما نصه ويُستثنَى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية اهـ

وقال صلى الله عليه وءاله وسلم (لَأَنْ يزحم رجلٌ خنزيرًا متلطخًا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له) رواه الطبرانِىّ فى الكبير من حديث أبِى أُمامة رضِى الله تعالى عنه وفى سنده ضعف ورواه عبد الرزاق فى المصنف والطبرانِىُّ فى الكبير موقوفًا عن عبد الله بن مسعود رضِى الله عنه وسنده صحيحٌ وهو شاهدٌ قوِىٌّ لحديث أبِى أُمامة المرفوع ولفظه (لأنْ أزاحم جملًا قد هُنِىءَ[٢] قطرانًا أحبُ إلِىَّ من أن أزاحم امرأةٌ متعطرةٌ) ولفظ الطبرانِىّ (لأن يزاحمنِى بعيرٌ مُطْلًى بقطران أحب إلِىَّ من أن تزاحمنِى امرأةٌ عطرةٌ) فإذا كان هذا حكم مزاحمة الرجل بمنكبه منكب امرأة لا تحل له وهى ليست مثل المسّ فى التعلق والارتباط ووقوع الفتنة وشغل البال بالمرأة الأجنبية فكيف بالمصافحة والمسِّ باليد ومباشرة الجسم للجسم.

فمن أجاز بعد هذا مصافحة المرأة الأجنبية وأباحها ولم يَرَ بها بأسًا ولا حرجًا ولا إثمًا فقد أبان عن ضعف فى الإيمان وظلم فى القلب وخالف أصول الشريعة وقواعدها العظيمة فى سدّ الذرائع ومنع ما يكون وسيلة للحرام والمنكر وأَظْهَرَ مع ذلك جهلًا بالنصوص الواردة فى ذلك وهِى كثيرة ولولا ضيق الوقت وشغل البال ببعض الأعمال لذكرت الكثير منها ولهذا لا تجد عالمًا من علماء المذاهب التِى يدور عليها العمل فى البلاد الإسلامية اليوم أجاز مسّ المرأة الأجنبية ومباشرة شىء من جسدها وإن كان بلا شهوة.

وإذا كان الخلاف وقع بين العلماء فى مجرد السلام على النساء لأنَّه لا يُؤمن معه الفتنة مع أنَّه ورد فى السنة ما يشهد لجوازه كما هو معلوم فكيف بالمصافحة والمباشرة بالكفّ لكف المرأة التِى ورد الوعيد والتهديد لمرتكبها كما تقدم ذكرُ بعضِ ذلك.

ورسولُ الله صلى الله عليه وءاله وسلم المعصوم الذِى كان من خصائصه جواز الخلوة بالأجنبية والمحادثة معها امتنع عن مصافحة النساء تشريعًا لأُمته وترهيبًا لهم من الوقوع فى ذلك لأنَّ الشيطان يجرِى من ابن ءادم مجرَى الدم لأنّه إذا وقعت مصافحة الرجال للمرأة الأجنبية وباشر كفُهُ كفَها ومسَّ جِسمُهُ جسمها وغمزها بيده وغمزته بيدها فلا تسألْ ساعتئذ عما يحدث عن ذلك من فساد وينتج من كيد وتلاعب من إبليس اللعين بهما جميعًا فالكل منهما يطلب الآخر والشيطان رسول بينهما ودليل حريص لغوايتهما.

فصل

وقول ذلك العالم المدعِى أنّ قوله صلى الله عليه وءاله وسلم إنِّى لا أُصافح النساء خاصٌ به صلوات الله عليه وحكمه لا يتعداه ولا يتناول غيره مِنْ أَبْطَلِ ما يُسمع وأبطلِ ما يَنْطِقُ به من له مُسْكَةٌ من العقل، وبيانُ فساده من أمرين أولهما أن أفعاله صلى الله وءاله وسلم محمولة على عدم الاختصاص به إلا ما دلّ الدليل على اختصاصه بشىءٍ منها وقوله إنِّى لا أصافح النساء لم يأتِ دليل على اختصاصه بهذا الحكم كما هو معلوم، وقد قال تعالى (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) فذهب جماعة إلى وجوب الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وءاله وسلم لدخوله فى عموم الأمر بقوله تعالى (وما ءاتاكم الرسول فخذوه) وبقوله تعالى (فاتبعوه) فيجب اتباعه فى فعله كما يجب فى قوله حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية وقال بعضهم يحتمل الوجوب والندب والإباحة فيحتاج إلى القرينة ولكن الجمهور أنَّ الاقتداء به مندوب إذا ظهر وجه القربة وقال ءاخرون مندوب ولو لم يظهر وجه القُربة. والمسألة معروفة ولأهل الأصول فيها كلام مُفصَّلٌ يرجع إليه فى كتبهم ولكن الذِى يظهر من سيرة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من رجال السلف الصالح أن الاقتداء به مندوب ولو فيما لم يظهر وجه القربة فيه. وقد عقد البخارِىّ رضِى الله عنه فى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه بابًا فى الاقتداء بأفعال النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم وذكر فيه حديث ابن عمر قال اتَّخَذَ النبِىّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب فقال النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم إنِىّ اتخذت خاتمًا من ذهب فَنَبَذَهُ وقال إنِى لن ألبسَهُ أبدًا فَنَبَذَ الناس خواتمهم اهـ والاقتداء به صلى الله عليه وءاله وسلم فى عدم مصافحة النساء مِن أوجب الواجبات من غير شكّ لأنّه قربة إلى الله تعالى وطاعة له فيما حثَّ عليه من البعد عن الأجنبيات.

ولم يذكر أحد ممن ألَّف فى خصائصه أو أشار إليها فى كتاب أو تأليف خاص أن ذلك مخصوص به وإذا كان الحال كذلك فنحن أولى بالعمل بهذا الحكم والاقتداء به فيه لوجود الفرق الواضح الظاهر والبون الشاسع فى ذلك بيننا وبينه صلى الله عليه وءاله وسلم وهو أنّه صلى الله عليه وءاله وسلم معصومٌ من الفتنة ونحن لا حظَّ لنا فى هذه الصفة بل الشيطان يجرِى منا مَجرَى الدم لا سيما وقد أخبر صلى الله عليه وءاله وسلم أنَّ النساء حبائل الشيطان وأن اليد تزنِى وزناها اللمس أو المس  فإباحةُ مصافحة المرأة الأجنبية تعرض بل اقتحام لعذاب الله تعالى على علم وبينة نعوذ بالله تعالى من ذلك.

ثانيهما أن الأئمة من الحفاظ والفقهاء نَصُّوا على أن هذا الأمر ليس من خصوصية النبِىّ صلى الله عليه وءَالِهِ وسلم كما زعم هذا المدعِى الجاهل القائل فى دين الله تعالى بغير علم فضَلَّ بذلك وأضلَّ. 

قال الحافظ ولِى الدين العراقِىّ رحمه الله تعالى فى طرح التثريب فى شرح حديث عائشة رضِى الله تعالى عنها وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم يد امرأة قط إلا امرأة يملكها ما نصه وفيه أنَّه عليه الصلاة والسلام لم تمس يده قطُّ امرأة غير زوجاته وما ملكت يمينه لا فى مبايعة ولا فى غيرها وإذا لم يفعل هو ذلك مع عصمته وانتفاء الرِيبَةِ فى حقه فغيره أولَى بذلك. والظاهر أنَّه كان يمتنع من ذلك لتحريمه عليه فإنَّه لم يُعَدَّ جَوَازُهُ من خصائصه وقد قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أنَّه يحرم مسُّ الأجنبية ولو فى غير عورتها كالوجه اهـ كلامه فقول الحافظ العراقِىّ نصّ قاطع فى ردّ دعوَى اختصاصه صلى الله عليه وءاله وسلم بذلك الحكم وأنَّه لا يشمل أمته فى العمل ولاقتداء به كما زعم هذا الجاهل المدعِى.

فصل

ومن جهل هذا المدعِى قوله إنَّ المراد بالمسّ فى قوله صلى الله عليه وءاله وسلم (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له مِنْ أنْ يَمَسَّ امرأةً لا تحل له) هو الجماعُ دون المسّ والمصافحة باليد فإنَّ هذا القول أتى به من كيسِهِ المفلسِ وحَمَلَهُ عليه هواه وما أفتاه به إبليس اللعين لتبديل دين الله تعالى ومُساعدته على نشر الفجور والفسوق زيادة على ما فيه الناس اليوم لا سيما فيما يتعلق بالمحافظة على العرض والتمسك بالفضيلة والعفة والبعد عن ملابسة ما يدعو إلى الزنا وهتك العرض.

وبيان فساد قوله هذا أنَّ الأصل فى المس واللمس يقع على ما دون الجماع ولا يُطلق على الجماع إلا بقرينة. قال النووِى رحمه الله تعالى فى المجموع قال أهل اللغة اللمس يكون باليد وبغيرها وقد يكون بالجماع قال ابن دريد اللمس أصله باليد وأنشد الشافعِىّ وأهل اللغة فى هذا قول الشاعر

وأَلْمَسْتُ كَفِى كَفَهُ طلبَ الغِنَى     ولم أَدْرِ أنَّ الجودَ من كَفِهِ يُعدِى

وقال الإمام الشافعِىّ رضِى الله تعالى عنه فى الأمِّ اللمس بالكف ألا ترَى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم نهى عن الملامسة ثم ذكر قول الشاعر السابق اهـ وقال ابن العربِىّ رحمه الله تعالى فى الأحكام حقيقة اللمس الصادق الجارحة بالشىء وهو عرفًا فى اليد لأنّها ءالته الغالبة وقد يستعمل كناية عن الجماع اهـ كلامه.  وقال ميارة رحمة الله تعالى فى الشرح الكبير على ابن عاشر اعلم أنّ مطلق التقاء الجسمين يُسمَى مسًّا فإن كان بالجسد سُمِىَ مباشرة وإن كان باليد سُمِىَّ لمسًا ومثله فى الشرح الصغير.  وقال العلامة ابن الحاج رحمه الله تعالى فى حاشيته على الصغير وقال الفارابِىّ وابن الأعرابِىّ اللمْسُ المَسُّ فهما مترادفان اهـ وقال فى المصباح لَمَسَهُ لَمْسًا أفضَى إليه باليد هكذا فسروه ولمس امرأته كناية عن الجماع ولامسه ملامسة ولماسًا قال ابن دريد أصل اللمس لعيرف مسُّ الشىء ثم كثر ذلك حتى صار اللمس لكل طالب قال ولمست مسست وكل ماسّ لامس وقال اللمس المس اهـ وفى التهذيب عن ابن الأعرابِىّ اللمس يكون مسّ الشىء وقال فى باب الميم المسّ مسك الشىء بيدك اهـ وقال الجوهرِىّ اللمس المسّ باليد اهـ وقال فى المصباح أيضًا مسسته افضيت إليه بيدِى من غير حائل هكذا قيدوه ومسّ امرأته مسًا ومسيسًا كناية عن الجماع اهـ وقال القاض عياض رحمه الله تعالى فى مشارق الأنوار بعد كلام والملامسة المسّ باليد وقد يعبر بها عن الجماع ولمست صدرِى أي مسسته وكذلك لمست قدميه وهو ساجد ونُهِى عن بيع الملامسة وكان من بيوع الجاهلية وهو أن يبتاع الثوب لا يُقَلِّبُهُ إلا أن يلمسه بيده اهـ كلامه.

فالأصل فى المس وكذلك اللمس وهما شىء واحدٌ كما علمت من كلام أهل اللغة السابق هو مسُّ الشىء باليد فإذا ورد أحدهما فى نصّ فلا يُحمل إلا على حقيقته وأصلِهِ فِى اللغة ولا يُصرف عن ذلك إلا بقرينةٍ كما هِى القاعدة فى صرف اللفظ عن حقيقته إلى الكناية.       

وما دام المسّ أو اللمس حقيقة فى المباشرة باليد مجاز فى الجماع فلا يجوز إخراج أحدهما عن حقيقته اللغوية فى نصٍّ من النصوص الشرعية إلا بدليل وهو غير موجود فى المسّ المذكور فى الحديث فيجب أن يُحمل على حقيقته التِى هى المسّ والمباشرة باليد.

وما دلتْ عليه اللغةُ فى ذلك دلت عليه كذلك النصوص فى القرءان والسنة أما القراءن فقد فرق الله تعالى بين الجماع واللمس مما يدل على أن اللمس لا يطلق على الجماع إلا بقرينة تصرفه عن ذلك كما هو معلوم.  قال ابن العربِىّ فى الأحكام فى الكلام على توجيه القرءاتين فى قوله تعالى (أو لامستم أو لمستم) بعد كلام ما نصه ويوضحه أن قوله ولا جُنبًا أفاد الجماع وأن قوله أو جاء أحدكم من الغائط أفاد الحَدَثَ وأن قوله أو لمستم أفاد اللمس والقُبل فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام وهذا العلم والإعلام، ولو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارًا وكلام الحكيم يتنزه عنه والله تعالى أعلم اهـ كلامه.          وهذا توجيهٌ جيدٌ من ابن عربِىّ وأصله للإمام الشافعِىّ فى الأمّ غير أنَّ ابن العربِىّ فَصَّلَ الكلام وأجاد فى البيان وهو ظاهرٌ فيما قلناه وأنَّ الأصل فى اللمس هو ما دلت عليه اللغة وهو مجرد اللمس باليد دون الجماع ولا يصرف عن هذا الأصل إلا بقرينة.

وأما دلالة السنة على أنَّ المسَّ واللمس ما دون الجماع فورد ذلك فى أحاديث كثيرة منها حديث زنا اليد المسّ والبطش اهـ ومنها قوله صلى الله عليه وءاله وسلم لِماعِز لعلك قبلت أو لمست ومنها حديث من مسَّ ذكره فليتوضأ اهـ ومنها حديث الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإن وجده فليتق الله وليمسسه بشرته اهـ ومنها النَّهْىُ عن بيع الملامسة وهو لمس الثوب باليد اهـ ومنها قول عائشة ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم يد امرأة لا يملكها اهـ ومنها قولها أيضًا قلَّ يومًا أو ما كان من يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم يطوف علينا جميعًا فيقبل ويلمس ما دون الوقاع اهـ فى أحاديثَ كثيرةٍ يطولُ ذكرُها وكلُّها نصٌّ صريحٌ فى أنَّ المسَّ إذا أطلقه الشارع فالمراد به حقيقته اللغوية وهِى الجسّ والمباشرة باليد ولا يخرج عن ذلك إلا بدليل كما تقرر عند أهل العلم.

قال الحاكم فى المستدرك قد اتفق البخارِىّ ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة فى المسندين الصحيحين يستدل بها على أنَّ اللمس ما دون الجماع منها حديث أبِى هريرة فاليد زناها اللمس وحديث ابن عباس لعلك مسست وحديث ابن مسعود أقم طرفَىْ النهار وقد بقِىَ عليها أحاديث صحيحة فى التفسير وغيره اهـ كلامه.

فصل

وإلى هذا ذهب السلف وأئمة التابعين فى لفظ المسّ واللمس وبما ذكرته فسَّروا ما ورد فى النصوص من لفظ اللمس والمس وعلى المعنى اللغوِى فى ذلك حملوا النصوص الشرعية الوارد فيها ذكر المس واللمس فقال عمر رضِى الله تعالى عنه إنَّ القبلة من اللَّمس فتوضؤُوا منها رواه البيهقِىّ فى سننه اهـ وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أو لامستم النساء ما دون الجماع اهـ  وفى رواية القُبلة من اللمس وفيها الوضوء، واللمسُ ما دون الجماع اهـ رواه البيهقِىّ والدارقطنِىّ، ورواه الطبرانِىُّ فى الكبير بلفظ يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ومن القبلة إذا قَبَّلَ امرأته وكان يقول فى هذه الآية أو لامستم النساء هو الغمز ورواه عبد الرزاق فى المصنف ورواه سحنون فى المدونة مختصرًا، ورواه الطبرانِىّ فى الكبير عنه بلفظ الملامسة ما دون الجماع إنَّ مسَّ الرجل جسد امرأته بشهوة ففيه الوضوء اهـ انظر مجمع الزوائد.  وقال ابن عمر وقد سُئِلَ عن القُبلة قال منها الوضوء وهِى من اللمس اهـ رواه عبد الرزاق عنه بلفظٍ القُبلةُ من اللمس وفى لفظ كان يرَى القُبلة من اللمس وفى الموطإ وسنن البيهقِىّ عن عبد الله بن عمر أنَّه كان يقول قُبلة الرجل امرأته وجسُّ وجهها بيده من الملامسة فمن قَّبل امرأته أو جسَّها بيده فعليه الوضوء اهـ

وهذا قول أئمة التابعين فى التفسير والفقه كابن سيرين وسعيد بن المسيب وعطاء وإبراهيم النخعِىّ وغيرهم اهـ

فصل

فقد بان لك أيها الأخ الجليل بما قررناه وذكرناه أنَّ المسَّ المذكور فى الحديث هو المباشرة باليد كالمصافحة وغيرها خلاف ما زعمه المدعِى الجاهل من أنَّ المراد به الجماع مع أنَّ هذا القول يرده ويبطله لفظ الحديث عند البيهقِىّ فى الشعب حيث قال رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم خير من أن تمسه امرأةٌ لا تحل له اهـ فأضاف المسَّ إلى المرأة ولم يجر فى العرف لا شرعًا ولا عادة أن يضاف الجماع إلى المرأة مما يدل على أنَّ المراد بالمسّ فى الحديث هو معناه اللغوِىّ وهو المباشرة باليد ويزيد وُضوحًا لهذا ودلالة عليه وُرُودُ الحديث من طرق أُخرَى بلفظ يرفع النزاع ويدفع تقوُّل المدعِى بغير علم ويُثبت أنّ المراد بالمس فى الحديث ما دون الجماع وذلك فيما رواه سعيد بن منصور فى سننه عن عبد الله بن أبِى ذكرياء الخُزاعِىّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم لأن يقرع الرجل فرعًا يخلص إلى عظم رأسه خير له من أن تضع امرأة يدها على ساعده لا تحل له اهـ وهذا مرسلٌ صحيح الإسناد وهو يدل كما قلنا على أنَّ المراد بالمس المذكور فى حديث معقل بن يسار هو المباشرة باليد دون الجماع خلافًا لما زعمه الجاهل المُدّعِى.

وحديث رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم يفسر بعضه بعضًا بل أفضل ما يفسر به النصّ الشرعِى ما ورد عن النبِىّ صلى الله عليه وءاله وسلم ولهذا قال الحُفاظ إننا لا نفهم معنى الحديث حتى نرويه من كذا وكذا وجهًا.

ويزيد هذا وضوحًا ودلالة على بُطلان دعوَى المدعِى وفساد زعمه أن معقل بن يسار نفسه وهو الذِى روَى الحديث حمل المسّ المذكور فيه على ما دون الجماع وذلك فيما رواه ابن أبِى شيبة فى المصنف عنه رضِى الله تعالى عنه قال لأن يعمد أحدكم إلى مخيط فيغرز به فى رأسِى أحب إلىّ من أن تغسل رأسِى امرأة ليست منِى ذات مَحْرَمٍ اهـ فهذا يدل على أنّ معقل بن يسار حمل المسّ على حقيقته وهو المباشرة والجس باليد وسواء كان ذلك فى اليد أو فى أىّ جزء ءاخر من أجزاء البدن لأنَّ الفتنة غير مأمونة فى جميع ذلك.

وتفسيرُ الصحابة للنصوص مقدم على غيرهم لأنهم شهدوا روسل الله صلى الله عليه وءاله وسلم وسمعوا منهم وهم أعلم بمعانِى كلامه ودلالة حديثه وأسباب وروده.

 ويدل أيضًا على أنَّ المسّ المذكور فى الحديث ما دون الجماع ما رواه ابن أبِى شيبة فى المصنف عن ابن عمر قال لأنْ يَحُلَّ فى رأسِى مخيط حتى أخبو يعنِى يُغمَى علِىّ أحبُّ إلِىّ من أن تُقَبل رأسِى امرأة ليست بمحرم اهـ

وبعدَ الصحابة التابعون لهم فقد فسروا المسَّ المذكور دون الجماع كما روَى ابن أبِى شيبة فى المصنف عن إبراهيم النخعِى قال لأن يقمل دماغ رجل خير له من أن تقبله امرأة يحل له نكاحها يعنِى أجنبيةً اهـ قلتُ ولعل المراد بقوله يقمل دماغ رجل أن يكثر قمل رأسه لأنه قال هذا لما رأى رجلًا تُفَلِّى رأسَهُ امرأةٌ والله تعالى أعلم. وروَى ابن أبِى شيبة أيضًا عن الحسن قال لا يحل لامرأة أن تغسل رأس رجل ليس بينها وبينه محرم اهـ

فصل

هذا ما سمح به الوقت من تحرير الجواب وأرجو أن يكون فيه البغية والكفاية فى رفع اللبس عما أتَى به المدعِى من الهراء والتقول فى شريعة الله تعالى والبهتان البيّن فى دينه نسأل الله تعالى الصون والحفظ من كل سوء فى القول والعمل.

وبما أشرنا إليه هنا من شناعة المصافحة للأجنبية ومُلامسة جسمها باليد وقُبح ذلك فى شريعتنا المطهرة وديننا الحنيف تعلم ما وقع فيه كثير من أهل هذا العصر من الإثم وهم راضون مطمئنون ساهون عما يتعرضون له من العقاب والعذاب والوعيد.

بحيث أصبحت اليومَ  مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية أمرًا معتادًا بين أكثر الناس بسبب الاختلاط وولوج المرأة فى الوظائف الحكومية والمعامل الصناعية والمراكز التجارية لا فرق فى ذلك بين كبير وصغير بل بلغ الحال بكثير من أهل هذا الوقت تقليدًا للكفار أنهم يُقَبِّلُونَ يَدَ المرأةِ عند حضورها فى الحفلات والاجتماعات كما يفعل الأوربيون وقد يكون فاعل هذا العمل المُخزِى الموجب للعقوبة رئيسًا للدولة وسيدًا فى قومه مما يجعله قدوة سيئة لغيره فى فعل ذلك وإمامًا فى الشر وارتكاب ما حرَّم الله تعالى عليهم.  فليتَّقِ الله تعالى من بلغه هذا وعلم أنَّ مصافحة المرأة الأجنبية من المحرمات وليكفَّ عن هذا العمل الموجب للعقاب فإن الدين النصيحة وقال جرير بايعت رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم على النُصْحِ لكل مسلم.

نسأل الله تعالى التوفيق والهداية إلى الصراط المستقيم.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب شدة الوطأة على من أجاز مصافحة المرأة للشيخ عبد العزيز بن الصديق الغمارِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] قال فى تاج العروس قال الكسائى هُنِىءَ طُلِيَ.