قوله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى)[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد الباعث الكتانِىّ
حفظه الله تعالى 

الحمد لله رب العالمين له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فقد قال تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)

إن تعجب فعجب قولهم إن فى الآية عتابًا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم على أخذه الفداء من أسرى بدر قبل أن يستحرّ القتل بمقاتلتهم وهو قول عار عن حلية التحقيق وما حملهم عليه إلا تقفصهم بقفص التقليد الردىء ونبطل هذا القول من عدة وجوه.

الوجه الأول أن الآية من صيغ العموم وذلك لأن النكرة فى سياق النفى تفيد العموم وهذا على خلاف قول ربنا (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) وقوله (ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) فلفظ النبى فى الآيتين لا يتعين إلا فى جانب رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم فاللام فيه للعهد.

الوجه الثانى أن الآية قد خرجت مخرج الخبر الذى يفيد التقرير لشرع من قبلنا وقد أعقبه الحق تبارك وتعالى بما يفيد ارتفاعه ونسخه فى شرعنا وعليه تكون الآيات محمولة على مفهوم الامتنان لا على مفهوم العتاب.

الوجه الثالث هو أننا إن سلمنا بأن فى الآية عتابًا فإنه لا يتوجه إلا إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم بدلالة الالتفات من الغيبة إلى المخاطبة فى قول ربنا (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) وهو ما أكده رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم بقوله كما فى حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه لقد عُرض علىّ عذابهم وفى رواية لأحمد عذابكم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبى الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض) إلى قوله (فكلوا مما غنمتم حلالًا طيبًا) فأحل الله الغنيمة لهم. ومن ثم كانت النذارة بالعذاب متوجهة إليهم بدلالة الخطاب فى قول ربنا عز وجل (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).

ومثله قول ربنا جل جلاله (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين) على ما ذكره المولى أبو السعود فى تفسيره حيث قال فيه تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم وذويه إلى الخاطئين لتشديد ما فى لولا التخصيصية من التوبيخ والتشنيع لا بطريقة الإعراض عنهم لجنايتهم لغيرهم على وجه المثابة بل التوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضّض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن صده زجرًا بليغًا. قلت وهذا كثير فى القرءان ولكن يكفى من القلادة ما أحاط بالعنق.

الوجه الرابع أن النبى صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم قد وافق بقبوله الفداء من الأسرى كتابًا من الله سبق بتحليل ما حرم على غيره كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) وهذا أشبهه بحكمه صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم بالباطن فى بعض القضايا التى جمعها الحافظ السيوطى رحمه الله تعالى فى تأليف له صغير أسماه الباهر فى حكمه صلى الله تعالى عليه ءاله وسلم بالباطن والظاهر وقد طبع أكثر من مرة. ونجد تصديق هذا المعنى فى القرءان فى قول ربنا تبارك وتعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)

الوجه الخامس أن النبى صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم قد فعل بقبول الفداء ما هو أوفق بطبعه وأرفق بأمته كما صح عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها قالت ما خير رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

الوجه السادس أن ما اختاره سيدنا عمر رضى الله عنه فى شأن الأسرى لم يكن بأولى مما اختاره سيدنا أبو بكر رضى الله عنه وذلك لأن كلاً منهما قد وافق وجها من وجوه الحق فيما ذهب إليه ومما يؤيد ذلك ويزكيه ما ورد من حديث عبد الله بن مسعود قال لما كان يوم بدر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون فى هؤلاء الأسرى قال فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استَبْقِهِم واسْتَأْنَ بهم لعل الله أن يتوب عليهم قال وقال عمر يا رسول الله أخرجوك وكذبوك قرّبهم فاضرب أعناقهم قال وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارًا قال فقال العباس قطعت رحمك قال فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئًا قال فقال ناس يأخذ بقول أبى بكر وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة قال فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله ليُلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال (فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا) وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال رب (اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) أنتم عالة فلا ينفلتنّ منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق قال عبد الله فقلت يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإنى قد سمعته يذكر الإسلام قال فسكت قال فما رأيتُنى فى يوم أخوف أن تقع علىّ حجارة من السماء فى ذلك اليوم حتى قال إلا سهيل ابن بيضاء قال فأنزل الله عز وجل (ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) إلى قوله (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) أخرجه أحمد واللفظ له والترمذى والطبرانى فى الكبير.

فما اختاره الصديق رضى الله عنه من قبول الفداء قد وافق ما ضرب له النبى صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم مثلاً بإبراهيم وعيسى وهما من أولى العزم من الرسل وما اختاره الفاروق من قتلهم قد وافق ما ضرب له النبى صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم مثلا بموسى ونوح وهما أيضًا من أولى العزم من الرسل مع اعتبار أن النبى صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم قد أقام لهما وجه العذر فيما أشارا به عليه لما شاهده من مراد الله فيما طبعهما عليه من الشدة فى جانب الفاروق واللين فى جانب الصديق مؤكدا ذلك بقوله إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدّ قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ولكل وجهة هو موليها. مع كونه صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم لم يأخذ بأحد الرأيين منفكا عن الآخر وإنما جمع بينهما على التخيير فى قوله أنتم عالة فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق.

وهذا يذكرنا بحكم سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام فى قضية الحرث الذى نفشت فيه غنم القوم والتى أجملها القرءان فى قول ربنا سبحانه (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهّناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) والمتأمل فى الآيتين يرى أن الحق جلت حكمته قد رجّح حكم سليمان على حكم داود عليهما السلام مع كون سليمان وارثا لأبيه (وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إنّ هذا لهو الفضل المبين) ولم يخطئ داود عليه السلام بل قال (وكلًّا ءاتينا حكمًا وعلمًا) وذلك لأن داود عليه السلام قد توخى فى حكمه جانب العدل وسليمان قد توخى ما هو أوفق وأعون للرجلين على حسم أسباب الإحن وقطع الضغائن والدمن رزقنا الله وإياكم كمال الأدب مع أصفيائه من رسله وأوليائه.

الوجه السابع أن الحق جلت حكمته لم تتعلق مشيئته باستئصال شأفة المشركين الذين خرجوا لقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم فى غزوة وذلك لما سبق من علمه سبحانه فيهم وتعلق إرادته بهدايتهم ودخولهم فى الإسلام ولو أراد سبحانه هلكتهم لكلف بذلك ملائكته المنزلين الذين أمد بهم رسوله والمؤمنين وكان عددهم خمسة آلاف والله أعلم بمراده.

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب رد المتشابهات إلى المحكمات فى جانب خاتم النبوات للشيخ محمد بن إبراهيم الكتانِى.