ما هو التفويض عند الأشاعرة والحنابلة[١]

قبساتٌ من فوائد الفقيه الشيخ العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.  سئل حفظه الله ما هو التفويض عند الأشاعرة والحنابلة فأجاب

التفويض عند الأشعرية هو الإيمان بالمتشابه كالمحكم سواءً وعدمُ الخوض فِى شرح الألفاظ الموهمة وتفويض معناها إلى الله والقطع بأن الظاهر الموهم للتشبيه من تلك الألفاظ غير مراد.

وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبِىّ فِى تلخيص مذهب السلف ومن حذا حذوَهم من صالحِى الخلف فِى هذه المسألة (فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح وما سواه فهو فاسد ... ثم لمَّا خُصَّ الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضًا عُلِمَ أن الراسخين لا يتبعونه فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم أن أمكن حملها على المحكم بمقتضَى القواعد فهذا المتشابه الإضافِىّ لا الحقيقِىّ وليس فِى الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين فليُرْجَعْ عندهم إلى المحكم الذِى هو أم الكتاب، وإن لم يتأولوه بناء على أنه متشابه حقيقِى فيقابلونه بالتسليم وقولهم (ءامنا به كل من عند ربنا) وهولاء هم أولوا الألباب)[٢] اهـ

أما الحنابلة فهم فريقان

أما الفريق الأول فيفهم التفويض على ما سبق بيانه وعلى رأس هذا الفريق إمام المذهب أبو عبد الله أحمد ابن حنبل رضِى الله عنه فقد نقل عنه القاضِى أبو يعلَى فِى الأحاديث التِى تروى (إن الله ينزل) و(الله يرى) و (أنه يضع قدمه) وما أشبه ذلك قال (نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى[٣])[٤]!! وقال ابن الجوزِى وكان الإمام أحمد يقول أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى هذا كبار أصحابه كإبراهيم الحربِىّ وأبِى داود الأثرم. ومن كبار أصحابنا أبو الحسن التميمِىّ وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وأبو الوفاء ابن عقيل اهـ

وأما الفريق الثانِى فهم مضطربون فِى أمر التفويض ولذلك تراهم يخلِطون بين القول بترك الألفاظ على ظاهرها والقول بنفِى الكيفية مع الإصرار على ترك التأويل جملة وتفصيلًا واعتباره من كل ناحية تعطيلًا وقد علم كل ذِى عقل أن إجراء الألفاظ على ظاهرها تشبيه محض وكيف يكون للمتشابه ظاهر يترك عليه إذ لو كان ثمة ظاهر لارتفع الإشكال وزال الخلاف.  وقد عجب ابن الجوزِىّ من هذا المسلك فقال شارحًا أسباب غلط من غلط فِى أمر الصفات الثانِى أنهم قالوا إن هذه الأحاديث من المتشابه الذِى لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا نحملها على ظواهرها فواعجبًا ما لا يعلمه إلا الله أىُّ ظاهر له؟! فهل ظاهر الاستواء إلا القعود وظاهر النزول إلا الانتقال) وقال المحقق الشاطبِىّ بعد كلام فِى تفاوت البدع فِى الخطورة (الثانِى بدعة الظاهرية فإنها تجارت  بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) قاعد! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ولم يبلغ بقوم ءاخرين ذلك المقدار كداود بن علِىّ فِى الفروع وأشباهه اهـ

وأما ابن تيمية فقال إن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد اهـ

وقال محمد بن حمد الحمود النجدِىّ بعد نقل كلام لابن تيمية يتهم فيه جماعات كثيرة من العلماء بعدم المعرفة (فالحاصل من كلام شيخ الإسلام أنه مما يؤخذ على القاضى يقصد أبا يعلى أنه يظن فِى بعض الأحيان صحة بعض الأصول العقلية لنفاة الصفات ويقول فِى بعض نصوص الصفات إنها تُجرَى على ظاهرها وتُحمل على ظاهرها ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله أى يفوض علم معناها إلى الله فيتناقض حيث يثبت لها تأويلًا يخالف الظاهر ويقول مع هذا إنها تحمل على ظاهرها وتفويض علم المعنى ليس هو طريقة السلف وإنما طريقتهم تفويض الكيفية فقط.  وهذا ما أنكره ابن عقيل على القاضِى فِى كتابه هذا[٥]) اهـ

قال العلامة الكوثرِىّ وأما المشبهة فتراهم يقولون لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها. وهم فى قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ فى الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله فى الخلق تشبيهٌ صريحٌ، وحمله على معنًى سواه تأويل.
على أن الأخبار المحتج بها فى الصفات إنما هى الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات، مع أنهم يسوقون جميعها فى مساق واحد فى كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنة أو العلو أو نحوها. ومن الأدلة القاطعة على رد مزاعم الحشوية فى دعوى التمسك بالظاهر فى اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ) وقوله تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقوله تعال (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وقوله تعالى (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) وقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) إلى غير ذلك مما لا يحصى فى الكتاب والسنة المشهورة، مما ينافى الجلوس على العرش. وأهل السنة يرونها أدلة على تنزيه الله سبحانه عن المكان كما هو الحق.
فلا يبقى للحشوية أن يعملوا شيئًا إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة، أو العدول عن القول بالاستقرار المكانِى. فأين التمسك بالظاهر فى هاتين الحالتين؟ وهكذا سائر مزاعمهم. على أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء، وأقر بكون آيات الصفات وأخبارها من المتشابه، كيف يَتصور فى هذا المقام ظاهرًا يحمل المتشابه عليه، وإنما حقه أن يحمل المتشابه فى الصفات على محكم قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) بالتأويل الإجمالِى[٦] اهـ

وقال وحمل التأويل على معنى التفسير فى باب المتشابهات تحريف للكلم عن مواضعه وملاحظةُ ظاهر للمتشابه جهل يأباه كثير من العامة فضلا عن الخاصة قد رضى الناظم لنفسه بهذا الجهل وأنى يتصور ظاهر فى متشابه؟ فالظاهر فى اللغة يقابل الخفى فلا يتصور حيث لا يكون المدلول عليه واضحا فلا يعقل أن يلاحظ هذا المعنى فى المتشابه الذى هو غاية فى الخفاء، وأما فى أصول الفقه فهو بمعنى الراجح من الاحتمالين بالوضع أو بالدليل وهو من أقسام الوضوح المقابل للخفاء الذى من أقسامه المتشابه فلا يتصور اجتماعهما فى لفظ[٧] اهـ

هذا وقد رأيت أن أختم هذا الفصل لما له من الأهمية بغرر من الفوائد ودرر من الفرائد للعلامة السنوسِىّ فى شرحه لقول العلامة أحمد بن عبد الله الزواوِىّ الجزائرِىّ فِى كفاية المريد

وكلُّ مـــــــــا أوهم القرءانُ من شبهٍ            أو الحديث فأوِّلْ كلَّ محتمـــــــــــــــــــل

أو خذ بمعناه واترك لفظ ظاهره            منزِّهًا مثــــــــــل رأى السادة الأول

كالاستواء حكوا من قول سيدنـــــــــا            إمامنــــــــــــــــــــــا مالك بالنهِىّ لا تســـــل

      بعضــــــــــــــــــــهم رجَّح التـــــــــــــــــأويل فيه على          أصلِ القواعد فاسلك نهجها تصِلِ

تقدم أن الاعتماد فى أصول العقائد على مجرد ظاهر الكتاب والسنة من غير تفصيل بين ما يستحيل ظاهره منها وما لا يستحيل هو أصل من أصول الكفر فإذًا لا بدَّ من أخذ العقائد وتعلمها أولًا من البراهين العقلية اليقينية المشار إليها فِى كثير من الآيات المحكمة التِى هِى أم الكتاب كسورة الإخلاص ونحوها  ثم إذ وُجِدَ من الآيات أو الحديث ما يخالف ظاهره ما علمناه من الآيات المحكمات الواضحة وشهدت بصحته الأدلة العقلية اليقينية وجب أن نعتقد فيه أن ظاهره المستحيل ليس مرادا لله تعالى ولا لرسوله قطعًا ثم إن كان له تأويل واحد تعيّن إجماعًا كقوله تعالى (وهو معكم أين ما كنتم) إذ الكينونة (بالذات مع الخلق مستحيلة قطعًا ثم ليس له بعد هذا التأويل واحد وهو الكينونة) معهم بالإحاطة بهم علمًا وقدرةً وسمعًا وبصرًا وإن احتمل أكثر من تأويل فهذا محل الخلاف. وقد اختلف فِى ذلك على ثلاثة أقوال

الأول أنه يصح التعرض للتأويل أى يصح أن يعين لذلك اللفظ معنى صحيح لائق به جل وعلا عقلًا وشرعًا على وجه يصح استعماله ذلك اللفظ فِى ذلك فيُحْمَلُ بعد تعذّر استعماله فِى الحقيقة على أقرب مجاز يَصِحُّ وهذا مذهب إما الحرمين وجماعة.

الثانى عدم التعرض للتأويل والاكتفاء بمجرد التنزيه عن الظاهر المستحيل وهذا مذهب جمهور السلف وغيرهم.

الثالث حمل تلك الظواهر على إثبات صفات لائقة به جل وعلا عقلًا وشرعًا باعتبار ما فِى نفس الأمر وإن لم نكن نعرف حقائق تلك الصفات ولهذا يسميها صفات سمعية، أى دل عليها السمع لا العقل وهى عنده زائدة على الصفات المعلومة لنا التِى شهدت بها العوالم عقلًا فيحمل الاستواء من قوله تعالى (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) على إثبات صفة لمولانا جل وعلا زائدة على الصفات التى نعلمها من دلالة العوالم، سمّى سبحانه وتعالى تلك الصفة استواء وهو أعلم بحقيقتها. وكذا يقول فى الوجه من قوله تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) وكذا اليد من قوله تعالى (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وهذا مذهب الأشعرِىّ رضى الله عنه والقولان الأولان يُنبيان على أن المطلوب فِى تأويل الظواهر المتعلقة بالعقائد هل هو اليقين فِى المعنى تُحمل عليه لا الظن وحصول اليقين فِى المدعَى من اللفظ متعذر فيجب الوقف بعد التنزيه عن ظاهر المستحيل وهذا وجهُ قولِ السلف أو المطلوب صرف اللفظ عن مُقامِك الإهمال الذِى يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له والخطاب بمثله للخلق بعيد وهذا وجه قول إمام الحرمين ومن قال بقوله وهذا القول أقرب والله تعالى أعلم.

فقوله تعالى (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) مثلًا لا يصح أن يُعتقد ظاهره من الاستواء بالجلوس والمحاذاة ونحوهما من صفات الأجرام إجماعًا ثم يصح عند إمام الحرمين أن يُحمل اللفظ على أقرب مجاز يصح وهو العلو المعنوِىّ بالتدبير والقهر من غير كلفة ولا معاناة ولا مغالبة ولا واسطة ألبتة لهذا العالم الأعظم وهو العرش وما احتوى عليه من العوالم العظيمة بأن لا يتعدى كل واحد منها حيّزه المقدر له ولا يتجاوز حده الذِى أراده تعالى له ولا يتحرك شىء منه ولا يسكن ولا يتصف بصفة بأى صفة كانت إلا بقدرته جل وعلا وإرادته وعمله. وإذا ثبت هذا فِى العلم الأعظم الذِى العوالم الظاهرة كلها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة فِى فلاة من الأرض كان انقياد غيره من العوالم لقدرته تعالى وإرادته أحْرى والتعبير بالاستواء لإفادة هذا المعنى قريب مألوف فِى لسان العرب إذ يقال استوى فلان على العراق إذا تهيأ له الملك فيها وانقاد له أهلها ولم يكن فيها مناوئٌ ولا منازع فالحمل عند الإمام ومن قال بقوله على هذا المعنى الصحيح القريب أولى من إهماله اللفظ بتركه لا مفهوم له يتلذذ باستحضاره ويستنير الظاهر والباطن بأسراره وأنواره.

وأما السلف فيقولون حظنا من هذه الآية أن نقطع بتنزيه مولانا جل وعلا عن حمل الاستواء فِى حقه تعالى على ظاهره من الجلوس ونحوه من صفات الأجرام التِى تستحيل عليه تعالى عقلًا ونقلًا ثم نفوض بعد هذا المراد منه إلى الله تعالى إذ تعيين المراد من ذلك بحسب استعمال العرب غايته أن يفيد الظن. والمسألة اليست من فروع الشرعية فلا يعوّل فيها على الظن وإلى هذا أشار المؤلف بقوله

كالاستواء حكوا من قول سيدنا    إمامنا مالك بالنهِىِ لا تسَلِ

يعنِى أن العلماء حكوا عن الإمام مالك رضِى الله تعالى عنه أنه يقول فِى هذه المسألة بالنهِى عن التعرض للتأويل قائلًا لمن سأله عن ذلك لا تسأل عن تعيين تأويل لم يعيّنه الشرع ولا اللغة بل الشأن أن يؤمن بمعناه على وفق مراد الله تعالى منه بعد التنزيه عن ظاهره المستحيل وهذا معنى قول المؤلف فيما حكاه عن السلف أو خذ بمعناه واترك لفظ ظاهره، أى تؤمن بمعناه وتصدق به على وفق مراد الله تعالى إذ هو العالم بما أراد من ذلك الكلام ولا شك أن الإيمان بذلك الكلام على وفق مراد الله تعالى به هو تصديق لله تعالى فيما أخبر به واعتراف بصحة الكلام وصحة معناه المراد مع العجز عن الاطلاع على عينه إذ لا يُعرف إلا من جهة الشرع الذِى يبلغ عن الله تعالى والشرع لم يتعرض لتفسير ذلك فوجب أن نفوض معناه إلى الله تعالى بعد أن ننزهه عن الظاهر المستحيل عليه جل وعلا ولا شك أن هذا لا يقع إلا من مؤمن بالله وبرسله وكتبه حَسَنِ الأدب مع كلامه وبالله تعالى التوفيق[٨] اهـ

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.

[٢] انظر الاعتصام ١/٢٢١.

[٣] يعنِى بقوله (ولا معنى) إن صحَّ اللفظ عنه أننا لا نعيّن معنى لها بتأويل تفصيلِىّ. المنتصر بالله.

[٤] انظر إبطال التأويلات.

[٥] قوله (وهذا ما أنكره ابن عقيل على القاضِى) تحريم لكلام ابن عقيل وتلبيس من هذا النجدِىّ وإنما أنكر ابن عقيل على القاضِى الحمل على الظاهر كشأن ابن تيمية وهذا المقر لكلامه، وعبارات ابن عقيل شاهدة وتلميذه ابن الجوزِىّ أعلم بمراد شيخه. المنتصر بالله.

[٦] انظر السيف الصقيل ص ١٠٨.

[٧] المصدر السابق.

[٨] انظر المنهج السديد فِى سرح كفاية المريد لأبِى عبد الله محمد بن يوسف السنوسِى.