ما هو الصواب بين القائلين بأن الأشاعرة معطلة والقائلين بأن الحنابلة مجسمة[١]

قبساتٌ من فوائد الفقيه الشيخ العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

سئل حفظه الله كيف نوفق بين القائلين بأن الأشاعرة معطلة والقائلين بأن الحنابلة مجسمة وكلٌّ يَدَّعِى الصواب فأجاب قائلًا

يُطْلَقُ التعطيل فى اصطلاح المتكلمين على ثلاثة معانٍ رئيسة هى

١- إنكار الصانع قال العلامة تقِى الدين السبكِى لأنَّ المعطل هو المنكر للصانع اهـ

٢- ادعاءُ إنكار حلول الحوادث فى ذات الله تعالى قال الإمام أبو المظفر الأسفراينِىُّ أثناء حديثه عن الكرامية ومما ابتدعوه من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم أحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم بأن معبودهم محل الحوادث تحدث فى ذاته أقواله وإراداته وإدراكه للمسموعات والمبصرات وسموا ذلك سمعًا وبصرًا اهـ وقال العلامة الكوثرِىّ قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادِىّ فى كتاب الأسماء والصفات إن الأشعرِىّ وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرًا أو أدّت إلى كفر كمن زعم أن لمعبوده صورة أو أن له حدًّا ونهاية أو أنَّه يجوز عليه الحركة والسكون ولا إشكال لذِى لب فى تكفير الكرامية مجسمة خراسان فى قولهم إنَّه تعالى جسم له حدٌّ ونهاية من تحته وأنَّه مماسٌّ لعرشه وأنه محل الحوادث وأنه يحل فيه قوله وإرادته اهـ

٣- النَّفْىُ المحض للصفات قال إمام الحرمين من انتهض لطلب مدبره فإن اطمأن إلى موجود انتهَى إليه فكره فهو مشبِّهٌ وإن اطمأنَّ إلى النفِى المحض فهو معطِّل وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحِّد وهو معنَى قول الصديق رضِى الله عنه إذ قال العجز عن درك الإدراك إدراك فإن قيل فغايتكم إذن حَيْرَةٌ ودهشةٌ قلنا العقول حائرةٌ فى درك الحقيقة قاطعة بالوجود المنزَّه عن صفات الافتقار اهـ

ومِنْ نافلة الحديث القول بأن إنكار الصانع جلَّ وعزَّ ليس قولًا لإسلامِىّ مطلقًا متسننًا كان أم مبتدعًا وإنما هو مذهب الدهرية ومن نحا نحوهم من ملحدة الأمصار أما إنكار حلول الحوادث بذات الله تعالى فهو قول عامة أهل الإسلام ما خلا الكرّامية ومن نحا نحوهم من أهل التجسيم ومعنى حلول الحوادث بذات الله تعالى أنها محل للحوادث من حركة وسكون وانتقال كما سبق بيانه ولذا قال الإمام الأسفراينِى سالف الذكر فلزمهم أن يجوزوا حلول الألم واللذة والشهوة والموت والعجز والمرض عليه فإنَّ مَنْ كان محلًا للحوادث لم يَسْتَحِلْ عليه هذه الحوادث كالأجسام اهـ وقال العلامة الكوثرِىّ اتفقت فرق المسلمين سوَى الكرامية وصنوف المجسمة على أنَّ الله سبحانه منزه عن أن تقوم به الحوادث وأن تحلَّ به الحوادث وأنْ يَحِلَّ فى شىء من الحوادث بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة اهـ

وأما إنكار الصفات فقد علم كل ذِى بصيرة أنَّ الأشعريةَ رأسُ الصفاتية وأئمةُ المُثْبِتَةِ وهم الذين أفحموا منكرِى الصفات من المعتزلة وألقموهم الحجر وألجؤوهم إلى الجُحْر فانقمعوا وانخذلوا وهم المتكلمون مِنَ أهلِ الإثبات كما ذكر الإمام ابن عساكر والموسومون بالصفاتية كما ذكر الشهرستانِىُّ وقد مرَّ بك أيضًا أنهم أثبتوا لله تفصيلًا عشرين صفة وإجمالًا ما لا نهاية له من الكمالات فكيف يُقال والحال هذه إن الأشعرية معطلة!! هذا خُلْفٌ وزورٌ وبهتانٌ.

نعم للأشعرية القِدْحُ المُعَلَّى والمعنى المُجَلَّى فِى نَفْىِ التشبيهِ عن الله عز وجل ولهم القدم الراسخ والعلم الشامخ فى تنزيه الله عزَّ وجلَّ عما لا يليق به من النقائص وقوفًا عند قوله تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) ولذلك رماهم بعض من لا خَلاق له بالتعطيل قال إمام الحرمين وهو يتحدث عن تَوَسُّطِ الأشعرية بين المعطلة والمشبهة وعلى هذا الأصل يجب تَقَدُّسُ صانع العالم عن الاختصاص ببعض الجهات فإنَّ العقل قاض بجواز الكون فى جهة دون أمثالها كما يَقْضِى بجواز التصوّر والتقدر.  ثم لزم انتفاء الاختصاص بالأقدار عن ذاته من حيث كانت جائزة والتخصص بالجهات والأقطار فى قضية الجواز كالاختصاص بالأقدار. وهذا مزلّة الأقدام ومثار ضلال الأنام وعندها افترق جماهير الخلق فريقين وإيضاح ما استحث أهل الحقّ على الثبات واجتناب الشتات،  فذهبت طوائف إلى وصف الرب بما تقدس فى جلاله عنه من التحيز بالجهة حتى انتهَى غلاةٌ إلى التشبيه أو التمثيل تعالى الله عن قول الزائغين والذِى دعاهم إلى ذلك طلبهم ربهم من المحسوسات وما يتشكل فى الأوهام ويتقدر فى مجارِى الوساوس وخواطر الهواجس وهذا حَيْدٌ بالكلية عن صفات الإلهية وأى فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يدركوا بهذا المسلك الروح وهو خلق الله تعالى لم يجدوا إليه سبيلًا فإنه معقولٌ غير محسوس. وقد قال تبارك وتعالى فى محكم كتابه الذِى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

وذهبتْ طائفة إلى التعطيل من حيث تَقَاعَسَتْ عقولهم فظنوا أنَّ ما لا يحويه الفكر منتفٍ ولو وُفِّقُوا لَعَلِمُوا أنه لا تبعد معرفة موجود مع العجز عن دَرْك حقيقته. والذِى ضربناه من الروح مثلًا يُعَارَضُ به هؤلاء فليس لوجود الروح خفاءٌ وليس إلى درك حقيقته سبيل ولا طريق إلى جحد وجوده للعجز عن دَرْك حقيقته والأكْمَه يعلم بالتسامع والاستفاضة الألوان ولا يدرك حقيقتها.

فهذا سبب زيغ المعطلة وهم على مناقضة المشبهة.

وأما فئة الحق فَهُدُوا إلى سواء الطريق وسلكوا جادة الطريق وعلموا أن الجائزات تفتقر إلى صانع لا يتصف بالصفات الدالّة على الافتقار وعلموا أنه لو اتصف بها لكان شبيهًا لمصنوعاته ثم لم يَمِيلوا إلى النَّفْىِ مِن حيث لم يُدركوا حقيقةَ الإله ولم يَتَعَدَّوْا موجودًا يجب القطع بكونه مع العجز عن دَرْك حقيقته إذ وجدوا فى أنفسهم مخلوقًا لم يَستريبوا فى وجوده ولم يدركوا حقيقته اهـ وذَكَرَ ابن عساكر عَمَّنْ حَرَّرَ مذهب الأشعرِىّ فقال فإنَّه نظر فى كتب المعتزلة والجمهية والرافضة وأنَّهم عطلوا وأبطلوا فقالوا لا علم لله ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا بقاء ولا إرادة وقالت الحشوية والمجسمة والمكيفة المحددة إن لله علمًا كالعلوم وقدرةً كالقدرة وسمعًا كالأسماع وبصرًا كالأبصار فسلك رضِى الله عنه طريقة بينهما فقال إن لله علمًا لا كالعلوم اهـ

وها قد وضح بما شرحناه وأوردناه أن الأشعرية مثبتة لا معطلة كما يزعم من لم يمعن النظر فِى هذه الأمور.

أما وقوع بعض أئمة الحنابلة وليس كل الحنابلة فى التجسيم فأمر واضحٌ وضوح الشمس فى رابعة النهار وقد أقَرَّ بذلك إمام المذهب فى زمانه وقيم الحنابلة فى أوانه أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزِىّ فقال ورأيتُ من أصحابنا مَنْ تكلم فِى الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف ثلاثةٌ أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضِى وابن الزاغونِىّّ فصنفوا كتبًا شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضَى الحس فسمعوا أن الله خلق ءادم على صورته.  فأثبتوا له صورة ووجهًا زائدًا على الذات وعينين وفمًا ولَهَواتٍ وأضراسًا وأضواء لوجهه هى السبحات ويدين وأصابع وكفًّا وخنصرًا وإبهامًا وصدرًا وفخذًا وساقين ورجلين وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس، وقالوا يجوز أن يَمَسَّ ويُمَسَّ ويُدْنِى العبد من ذاته. وقال بعضهم ويتنفس  ثم يُرْضُونَ العوامَّ بقولهم لا كما يُعقل.  وقد أخذوا بالظاهر فى الأسماء والصفات فسمَّوها بالصفات تسمية مبتدعةً لا دليل لهم فى ذلك من النقل ولا من العقل ولم يَلتفتوا إلى النصوص الصارفة  عن الظواهر إلى المعانِى الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهرُ من سمات الحدوث. ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات. ثم لَمَّا أثبتوا أنَّها صفاتُ ذاتٍ قالوا لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة ومجِىء وإتيان على معنى بر ولطف وساق على شِدَّةٍ بل قالوا نحملها على ظواهرها والظاهر المعهود من نعوت الآدميين.  والشىء إنما يُحمل على حقيقته إذا أمكن وه يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة. وكلامهم صريح فى التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام. وقد نصحتُ التابع والمتبوع وقلت لهم يا أصحابنا أنتم أصحاب نَقْلٍ واتّباع وإمامُكُمُ الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط كيف أقول ما لم يقل فإياكم أن تبتدعوا فى مذهبه ما ليس فيه ثم قلتم فى الأحاديث تحمل على ظاهرها وظاهر القدم الجارحة. فإنَّه لما قيل قى عيسى روح الله. اعتقدَتِ النصارَى أن لله صفة هى روح ولَجتْ فِى مريم ومَن قال استوَى بذاته فقد أجراه مجرَى الِحسِّيَّاتِ. وينبغِى أن لا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل فإنه به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقِدَم. فلو أنكم قُلْتُمْ نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر عليكم أحد إنّما حَمْلُكُ إياها على الظاهر قبيحٌ فلا تُدْخِلُوا فى مذهب هذا الرجل الصالح ما ليس فيه ولقد كسيتم هذا المذهب شينًا قبيحًا حتى لا يقال عن حنبلِىٍّ إلا مجسم اهـ وقال القاضِى عياضٌ فى ترجمة الشيخ أبِى الحسن الأشعرِىِّ فى معرض ذِكْرِ مَنْ شنع عليه ومن قوم أيضًا ينتسبون إلى مذهب أحمد بن حنبل غلَوْا فى ترك التأويل حتى وقعوا فى التشبيه وأكثرهم ليس من العلم بسبيل ولكنهم لانتسابهم إلى السنة والحديث قَبِلَتِ العامَّةُ أقوالَهُمْ ولم تنفر منهم نفورها من أولئك الآخرين فقرروا عند العامة أنه أى الأشعرِىَّ مبتدع وأضافوا إليه من المقالات ما أفنَى عمره فى تكذيب قائلها وتضليله اهـ

وقال القاضِى أبو بكر ابن العربِىّ وهذه الطائفة الآخذة بالظاهر فى العقائد هِى فى طرف التشبيه كالأُولَى فى التعطيل يقولون إن الله تعالى أعلم بنفسه وصفاته وبمخلوقاته منًّا وهو مُعْلِمُنَا فإذا أخبرَنَا بأمره ءَامَنَّا كما أخبر واعتقدناه كما أمر وقالوا حين سمعوا (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا) أنه يتحرك وينتقل ويَجِىُء ويذهب مِنْ موضع إلى موضع ولما سمعوا قوله (الرحمن على العرش استوَى) قالوا إنه جالس عليه متصل به وأنه أكبر بأربع أصابع إذ لا يصح أن يكون أصغر منه لأنه أعظم ولا يكون مثله لأنه (ليس كمثله شىء) فهو أكبر من العرش بأربع أصابع وقالوا إنه يتكلم بحرف وصوت وعزَوه إلى أحمد بن حنبل وتعدَّى بهم الباطل إلى أن يقولوا إن الحروف قديمة وقالوا إنه ذو يد وأصابع وساعد وذراع وخاصرة وساق ورجل يطأ بها حيث شاء وإنه يضحك ويمشِى ويهرول وأخبرنِى من أثق به من مشيختِى أن أبا يعلَى محمد ابن الحسين الفراء رئيس الحنابلة ببغداد كان يقول إذا ذكر الله تعالى وما ورد من هذه الظواهر فى صفاته يقول أَلْزِمُونِى ما شِئْتُمْ فإنِى ألتزمُهُ إلا اللحية والعورة، وانتهَى بهم القول إلى أن يقولوا إن أراد أحد أن يعلم الله فلينظر إلى نفسه فإنَّه الله بنفسه إلا أن الله منزه عن الآفات قديمٌ لا أولَ له دائمٌ لا يفنَى لقول النبِىِّ إن الله خلق ءادم على صورته اهـ وفى رواية على صورة الرحمن وهِى صحيحة فلله الوجه بعينه لا ننفيه ولا نتأوله إلى محالات لا يرضَى بها ذو نُهَى اهـ !!!!!        

وقد صَرَّحَ بالتجسيم أقوامٌ منهم ولَوَّحَ به ءَاخَرُونَ قال أبو الحسين ابنُ أبِى يعلَى الفراء فيما نقله عن الإمام أحمد من طريق الإصطخرِىّ والله عز وجل على العرش والكرسِىّ موضع قدميه اهـ وقال ابن تيمية والمقصود أنَّ القولَ بوجودِ موجودٍ لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل أحد من العقلاء إنه معلوم بالضرورة وكذلك سائر لوازم هذا القول مثل كونه ليس بجسم ولا متحيز ونحو ذلك لم يقل أحد من العقلاء إن هذا النفِى معلوم بالضرورة بل عامة ما يُدَّعَى فى ذلك أنَّه من العلوم النظرية اهـ وقال ِمَن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم تنطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمامٌ من أئمة المسلمين اهـ وقال أيضًا ليس فى كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا فَنَفْىُ المعانِى الثابتة بالشرع بنفِى ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال اهـ وقال أيضًا إذا نظرنا فى ذات الله فإن لها حدًّا ويجب أن يكون لها حدّ أى نهاية فى كل جهة من الجهات يتوقف عنده امتدادها وهذا الحد هو حدود ذات الله التِى ينتهِى إليها حجمه اهـ وقال أيضًا قلتم هو ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا فى جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شىء عن شىء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهَى فكيف ساغ لكم هذا النَّفْىُ بلا كتاب ولا سنة اهـ

وفِى كتاب السنة المنسوب إلى نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن خارجة الضبعِى أنه قال وهل يكون الاستواء إلا بجلوس اهـ ونقل عن خالد بن معدان أنه قال إن الله لم يمس بيده إلا ءادم خلقه بيده اهـ ونقل أيضًا أن الله خلق الملائكة من نور الذراعين والصدر اهـ وقال فيما نسب إلى النبِىّ صلى الله عليه وسلم وإنه ليقعد عليه جل وعز أى على كرسيه فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع  وإن له أطيطًا كأطيط الرحل إذا ركت اهـ وقال عثمان بن سعيد الدارمِىُّ لو لم يكن لله يدان بهما خلق ءادم ومسه بهما مسيسًا كما ادعيتُ لم يجز أن يقال بيدك الخير اهـ وقال الدرامِىُّ أيضًا لو قد شاء لاستقرَّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف بعرش عظيم اهـ وقال أبو يَعْلَى الحنبلِىّ إن الله لما فرغ من خلقه استوَى على عرشه واستلقَى ووضع إحدَى رجليه على الأخرَى وقال إنها لا تصلح لبشر اهـ وقال أيضًا وليس فى قوله شاب وأمرد وجعد وقطط إثبات تشبيه لأننا نثبت ذلك كما جاء فى الخبر اهـ

وهذه كما تَرَى أقوال صريحة فى التجسيم جريئة فى التشبيه لا يغنِى معها نَفْىُ الكيفية، ولها فى الكتب المذكروة نظائر ضربنا عنها صفحًا خشية الإطالة.

نعم، مُعظم من انتمَى إلى هذا الفريق من الحنابلة لا يصرحون بالتجسيم ولكنه لازم لهم لا ينفكون عنه فالحال إذن كما قال العلامة السبكِىّ فى رده على ابن القيم فى نونيته مقصوده بالمعطل الجماعة الأشعرية وبالموحد نفسه وطائفته والمُشَبِّهُ لا وجود له عنده. ومقصودُ غرمائه بالمُشَبِّهِ هو وطائفتهٌ وبالموحد أنفسهم والمعطل لا وجود له الآن عندهم لأن المعطل هو المنكر للصانع والمشبه هو الذِى شبه بخلقه وهذا على ظاهره لا يوجد من يقول به لكن بما يلزم عنه ولا شك أن لزوم التشبيه له أظهر من لزوم التعطيل لغرمائه وإذا امتحن الإنسان نفسه قطع بأن الأشعرِىّ ليس بمعطل وأن هذا النجسَ مُشَبِّهٌ ولا ينجيه إنكاره باللسان وقد اعترف بأنَّ من شبه الله بخلقه كفر اهـ

وقال العلامة ابن خلدون ولنبين لك تفصيل هذا المجمل وذلك أنَّ القرءان ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل فى ءَاىٍ كثيرة وهِى سُلُوبٌ كلها وصريحةٌ فى بابها فوجب الإيمان بها. ووقع فى كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها ثم وردت فى القرءان ءَاىٌ أخرى قليلة تُوهِمُ التشبيهَ مرةً فى الذات وأخرى فى الصفات فأما السلف فَغَلَّبُوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعملوا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل وهذا معنَى قول الكثير منهم اقرأوها كما جاءَتْ أىْ ءَامِنُوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاءً فيجب الوقف والإذعان له وشذ بعضهم فى الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملًا بظواهر وردتْ بذلك فوقعوا فى التجسيم الصريح ومخالفة ءاى التنزيه المطلق التِى هِى أكثر  موارد وأوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضِى النقص والافتقار وتغليب ءَايَاتِ السُّلُوبِ فى التنزيه المطلق التِى هِى أكثرُ مواردَ وأوضحُ دلالةً أولَى مِنَ التعلق بظواهر هذه الآيات التِى لنا عنها غُنْيَةٌ وجمع بين الدليلين بتأويلهم ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام وليس ذلك بدافعٍ عنهم لأنه قولٌ متناقضٌ وجمع بين نَفْىِ وإثباتٍ إن كان لمعقولية واحدة من الجسم وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا فى التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسمًا من أسمائه ويتوقف مثله على الإذن اهـ

وقال العلامة الشهرستانِىُّ وأما ما ورد فى التنزيل مِنَ الاستواء والوجه واليدين والجَنْبِ والمَجِىءِ والإتيان والفوقية وغير ذلك فَأَجْرَوْها على ظاهرها أعنِى ما يُفهم عند الإطلاق على الأجسام وكذلك ما ورد فى الأخبار[٢] من الصورة وغيرها فى قوله عليه الصلاة والسلام خلق ءَادَمَ على صورة الرحمن وقوله حتى يضع الجبار قدمه فى النار وقوله قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله خمر طينة ءادم بيده أربعين صباحًا وقوله وضع يده أو كفه على كتفِى وقوله حتى وجدتُ برد أنامله على كتفِى إلى غير ذلك أجرَوها على ما يتعارف فى صفات الأجسام وزادوا فى الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبِى عليه الصلاة والسلام وأكثرها مقتبسة من اليهود فإنَّ التشبيه فيهم طباع حتى قالوا اشتكت عيناه فعادَتْهُ الملائكة وبكَى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وإن العرش لتئط من تحته كأطيط الرَّحْلِ الجديد وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع وروَى المشبهة عن النبِىّ عليه الصلاة والسلام أنه قال لَقِيَنِى ربِى فصافحنِى وكافحنِى ووضع يده بين كتفِى حتى وجدت برد أنامله اهـ

وقد رد على أهل التشبيه جماعات لا تحصَى من العلماء وممن أطال النفس فى بيان فساد مذهب أهل التجسيم الشيخ أبو محمد بن أبِى جمرة فقال ثم نرجع الآن إلى البحث معهم فى بيان اعتقاداتهم الفاسدة فإشارة الناظر فيها بالتناصف تكفيه فنقول ادعاؤهم الجسمانية والحلول تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا لا يخلو إما أن يدَّعوا ذلك من طريق المشاهدة أو من طريق الإخبار أو من طريق القياس بالنظر العقلِىّ ولا رابع.  فإن ادعوا المشاهدة فذلك باطل بالإجماع ولا يخالف فيه بَرٌّ ولا فاجر، وإن ادعوا الإخبار وتعلقوا بقوله عز وجل (الرحمن على العرش استوى) فباطل أيضًا لأن هذا اللفظ محتمل لأربعة معان وتأويلهم الفاسد خامس لها فكيف تقوم لهم حجة بلفظ محتمل لخمسة معان والحجة لا تكون إلا بدليل قطعِىّ.  ولنذكر الآن تلك الوجوه وما يشهد لها من طريق العقل والنقل.

الوجه الأول قيل فى معناه عَمَدَ إلى خلق العرش كما قال عز وجل (ثم استوى إلى السماء وهِى دخان) أى عَمَدَ إلى خلقها والحروف فى اللسان العربِىّ سائغ إبدال بعضها من بعض يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام فى حديث الإسراء فأتينا على السماء السادسة اهـ يريد إلى السماء السادسة وسنذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.

الوجه الثانِى قيل فى معناه السمو والرفعة كما يقال علا القوم زيد أى ارتفع وكذلك قولنا علت الشمس فى كبد السماء أى ارتفعت بلا استقرار يشهد على ذلك قوله تعالى (والشمس تجرِى لمستقر لها) على قراءة من قرأها بالنفِى.

الوجه الثالث قيل فى معناه الحكم والقهر كقولنا استوى زيد على أرض كذا أى ملكهم وقهرهم.

الوجه الرابع قيل إنه اسم من أسماء الله تعالى ولم يصح اسمه بذلك حتى تم خلق العرش فَسُمِّىَ بهذه الجملة كما سَمَّوُا الرجل ببعلبك ومعدِى كرب فلم يصح هذا الاسم إلا بعد تمام الخلق ومعنى لم يصح أى لم يصح فهمه عندنا كما هو من أسمائه عز وجل مغاير لما غايره ولم يصح اسمه به إلا بعد ظهور الخلق.

الوجه الخامس ما ذهبوا إليه بتأويلهم الفاسد من أن الموضع يقتضِى الحلول والاستقرار فانظر إلى هذا النظر الفاسد كيف يصح مع هذه الوجوه الظاهرة وكيف يصحُّ مع مقتضَى لسان العربية الذى يقتضِى الحقيقة والمجاز فجعلوا هذا حقيقة ومجازًا فجعلوا هذا حقيقيًا لا يَقتضِى المجاز ولم ينظروا إلى دليلٍ يخصص أحدَ الوجهين الحقيقة أو المجاز. فضعف مركب على ضعف!! وكيف يسوغ اعتقاد هذا الوجه المرجوح مع عموم قوله عز وجل (ليس كمثله شىء) كفى بعموم هذه الآية دليلًا على أنَّ ما تأولوه ليس بحقيقِىّ فأبطلوا نصًّا لا يحتمل التأويل وعمومًا لا يحتمل التخصيص وهو قوله عز وجل ليس كمثله شىء بأحد خمس محتملات على ما تقدم هو مرجوحها.  وأما ما احتج به بعضهم لمذهبهم الفاسد بما روِىَ عن الإمام مالك رحمه الله لما أن سئل عن حقيقة الاستواء ما هو وكان من بعض جوابه هذا مشكل فليس لهم فى ذلك حجة لأنه سئل عن تحقيق شىء محتمل لأربعة أوجه صحيحة وهِى ما ذكرناه أولًا فأجاب بأن قال هذا مشكل لأن تخصيص أحد تلك المحتملات الأربعة وكل واحد منها صحيح بترجيح أحدها على الثلاثة بغير دليل هو المشكل، فكان تأويلهم على الإمام فاسدًا بغير ما ذهب إليه كما تأولوا ذلك فى الكتاب فاسدًا.

 وأما ما احتجوا به لمذهبهم الفاسد بقول ابن أبِى زيد رحمه الله فى العقيدة التِى ابتدأ بها بقوله وأنه فوق عرشه المجيد بذاته اهـ فلا حجة لهم فيه أيضًا لأنهم خفضوا المجيد وجعلوه صفة للعرش وافترَوْا على الإمام ذلك والوجهُ فيه رفع المجيد لأنه قد تقدم الكلام بقوله فوق عرشه والمجيد بذاته كلام مستأنَفٌ وهو من غاية التنزيه لأن مجد الله عز وجل بذاته لا مكتسبًا ومجد عباده مكتسب فاقترَوا على الإمام هنا كما افتروا على الآخر هناك.  وكيف يجوز من طريق الدين أو العقل لمن له عقل أن يقول فى لفظٍ محتمل الوجهين مِن طريق العربية أن يقول عن أحدهما وهو الفاسد هذا أرادَهُ القائلُ وهو ممنوعٌ شرعًا لأن المؤمن لا يُحْمَلُ عليه السوء بالاحتمال وإنما يحمل الأمر على أصلحه وهو اللائق بالإيمان وأو يحمل على ظاهره وهو الاحتمال للوجهين معًا وهو أقل المراتب.

وأما البحث معهم من طريق العقل والنظر فلا يخلو أن يَدَّعُوا أن لهم على ذلك دليلًا من طريق العقل والنظر أم لا فإن ادعوا ذلك فهو منهم افتراء لأن أهل العقل قد أجمعوا على أنَّ موجد الوجود غير محتاج لما أوجده لأنه لو كان محتاجًا لِما أوجده كاحتياج من أوجده إليه لاستويا ولم يكن للمُوجِدِ تفرد بالكمال دون من أوجده وذلك محال. 

ثم لا يخلو على زعمهم فى الانتقال والاستقرار أن يدعوا أنه عز وجل كان قبل خلق العرش على شىء ءَاخَرَ غيرِهِ أو كان على غيرِ شَىْءٍ فإنٍ ادَّعَوْا أنه كان على شَىْءٍ لزمهم أن يكون قبل ذلك الشَّىْءِ شَىْءٌ وقبلَ ذلك الشَّىْءِ شىْءٌ إلى ما لا نهاية له وهذا باطلٌ بالإجماع والعقل. 

ثم لا يخلو أن يدّعوا أنه لم يَزَلْ على شَىْءٍ أو أنه كان على غيرِ شَىْءٍ وبعد ذلك انتقل إلى تلك الأشياء من بعضها إلى بعض فإن ادَّعَوْا أنه لم يزل على شَىْءٍ لزمهم من ذلك سَبْقُ المخلوق للخالق وذلك مستحيل إجماعًا وعقلًا ونقلًا وشرعًا.

وإن ادّعوا أنه كان أولًا على غير شىء ثم انتقل إلى تلك الأشياء بعضها بعد بعض فلا يخلو أن يَدَّعُوا أن يكون انتقالُهُ إليها احتياجًا أو لغير احتياج فإن ادّعوا أن ذلك كان لاحتياج فقد سقط البحث معهم لأنهم نفَوا ما يليق بصفة الربوبية من الجلال والكمال ورجع محتاجًا كسائر المخلوقات وذلك محال بالإجماع من كل الطوائف من المتكلمين وأهل العقل والنظر فى حق البارِى جل جلاله وإن ادَّعَوْا أن ذلك كان لغير احتياجٍ لزمهم مِنْ ذلك أنهم وصفوه عز وجل بصفة النقص لأن ما يُفْعَلُ من نحو ذلك لغير احتياج كان عبثًا وهذه صفة النقص وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

فإن ادَّعَوْا أن ذلك لغير احتياج ولا عبث وإنما كان بوجه ما من الحكمة كما خلق الخلق وهو غير محتاج إليه وليس خلقهم عبثًا قيل لهم الحكمة فى الخلق قد بانت وهِى ما أراد الله عز وجل من تبيين أهل الشقاء وضدهم وإظهار أوصاف القدرة التِى ليس للعبيد اتصال إليها ولا معرفة بها إلا بالاستدلال بما ظهر من ءاثارها وما يدعونه فليس للحكمة هناك دليل على ما ادّعَوه بل الحكمة تقتضِى ضد ذلك، لأن من ليس كمثله شىء ينبغِى بدليل الحكمة أن لا يحُلَّ فى شىء ولا يحل فيه شىء ولا يخالطه شىء لعدم التناسب فقد بان بطلان ما ذهبوا إليه فى الثلاثة الوجوه ولا رابع.

ومما يزيد ذلك بيانًا قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما قضَى الله الخلق كتب فى كتابٍ فهو عنده فوق العرش إن رحمتِى غلبت غضبِى اهـ فيؤخذ من قوله إن الكتاب الذى كُتب فيه هو فوق العرش أن حكمته جل جلاله اقتضت أن يكون العرش حاملًا ومستودعًا لما شاء من ءاثار حكمته وقُدْرَتِهِ وغامضِ غيبه ليستأثر هو جل جلاله بذلك من طريق العلم والإحاطة عن جميع العالم كله فيكون ذلك من أبكر الأدلة على انفراده بعلم الغيوب الذى لا يعلم مفاتيحه إلا هو وقد يكون هذا الحديث تفسيرًا لقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) أى أن ما شاء من أثر قدرته وحكمته وكتابه هو الذى استقر على العرش لا ذاته الجليلة ولو أراد ذلك لأكَّدَهُ بالمصدر كما فعل فى كلامه حيث قال (وكلم الله موسى تكليما) فأكده بالمصدر لأن العرب تقول جاء زيد يعنون خبره أو كتابه أو رسوله فإذا أرادوه بذاته قالوا جاء زيد نفسه فأثبتوا بذلك الحقيقة حقًّا فذهب ما زعموه بنظرهم الفاسد والحمد لله.

وأما ما ادعَوْه من التجسيم وتعلقوا فيه بظواهرِ ءَاىٍ وأحاديثَ فليس لهم فيه حدة بدليل ما ينفصل به إن شاء الله فمن جملة ما تعلقوا بظاهره بحسب نظرهم الفاسد قوله عليه الصلاة والسلام حتى يضع الجبار فيها قدمه اهـ وفى رواية ساقه.  قال علماء أهل السنة فى هذا اللفظ عشرة وجوه ونحن نذكر بعضها كى يتبين فساد ما ذهبوا إليه بها وقد ذكرها أبو البقاء فى كتابه وغيره من الفقهاء فمن جملة ما قالوا فيه وهو أظهرها وأرجحها أنهم نقلوا عن أهل اللغة أن الكافر عندهم يسمَى قدمًا فإذا كانت هذه اللغةَ فكيف يعرجون عنها بغيرها كفى بهذا الوجه ردًّا عليهم.  ومنهم من قال إنه كما سمِى الحجر الأسود عين الله وهو حجر مَرْئِىٌّ مشاهَدٌ لاخفاء فيه لكن لمّا أن كان من لمس الحجر رحم وشهد يوم القيامة للامسه على ما جاء به الخبر سُمِّىَ عين الله لكونه رحمة فكذلك لمّا أن كان موضع الغضب سمِى قدمًا فلو لم يكن نقل اللغة وكان الموضع يحتمل عشرة أوجه مثل هذا الذِى ذكرناه ما أشبهه وتأويلهم الفاسد أحدها على زعمهم، كيف يسوغ أن يجزم بواحد دون التسعة مع أنه هو أضعهفا؟ لأنه ينافِى التنزيه ويخصص عموم قوله عز وجل ليس كمثله شىء وكيث يخصص نص بمحتمل، كفى بهذا أدلّ دليل فى الرد عليهم فكيف واللغة لا تُحْوِجُ إلى ذلك، ثم مع ذلك يرد عليهم قوله عز وجل عن المؤمنين (أن لهم قدم صدق عند ربهم) وقد وقع الإجماع من أهل العقل والنقل أن ذلك بالمعنى لا على ظاهره فإن هم تأولوه كما تأول الكافة لزمهم أن يتأولوا الآخر ويعتقدوه كما فعل الكافة وإن هملوه على ظاهره وقالوا بأن الصدق جسد مجسد وقدمه عند الحق سبحانه وباقيه عند المؤمنين فقائلُ هذا لا خفاء فى حمقه فالبحث معه قد سقط والكلام معهم على رواية الساق مثله لأن الساق  يطلق فى اللغة على أشياء غير واحدة لأنهم يقولون ساق من جراد وساق من قوم ويقولون الساق ويريدون به الجارحة.  والأظهر فى هذا الموضع واللائق به أن يكون المراد بالساق عددًا من الكفار فإذاكملوا فيها تقول قطٍ قط.  فبان فساد ما ذهبوا إليه بما ذكرناه وفيه كفاية هذا البحث معهم من طريق النقل.

وأما البحث معهم من طريق العقل فلو كان ما زعموا حقًّا لما صح تعذيب أهل النار ولا حُجِبُوا عن الله وقد حصل لهم العذاب والحجاب لأنه لو كان ذلك حقًّا على زعمهم لكان أهل النار فى النعيم حين وضع القدم ولشاهدوا الذات الجليلة كما شاهدها أهل الجنة لأن مشاهدة الحق لا يكون معها عذابٌ وقد أخبر عز وجل أنهم محجوبون لأن الروية مع العذاب لا تمكن فبان بطلان ما زعوا بدليل النقل والعقل.

وأما ما زعموا من اليد وتعلقوا فى ذلك بقوله عز وجل (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا) إلى غير ذلك من الآىِ والأحاديث التى جاءت بالنص فى هذا المعنى.  فليس لهم فيه حجة أيضًا لأن اليد عند العرب تطلق على أشياء غير واحدة فمنها الجارحة ومنها النعمة لأنهم يقولون لفلان على فلان يد يريدون به النعمة.  ومنها القوة لقولهم لفلان فى هذا الأمر يد يريدون به معرفة به وقوة عليه وكذلك ما أشبه هذه الأوجه وهى عديدة فكيف يحققون أحد محتملات فى اللغة ويجزمون به مع أنه مناف لقوله عز وجل (ليس كمثله شىء) فبان بطلان ما ذهبوا إليه بدليل ما ذكرناه من النقل. 

وأما البحث معهم من طريق العقل فلأن الملوك فى الدنيا لا يفعلون بأيديهم شيئًا، والذين يفعلون بأيديهم إنما هم رِعاع الناس فهذا منافٍ للعظمة والجلال فبان بطلان ما ذهبوا إليه من طريق العقل أيضًا.

وأما ما زعموا من الوجه وتعلقوا فى ذلك بغير ما ءَايةٍ وغير ما حديث فليس لهم فيه حجة أيضًا لأنه يحتمل فى اللغة معانِى عديدة فمنها الجارحة ومنها الذات كقولهم وجه الطريق يريدون ذاته ومنها الحقيقة كقولهم وجه الأمر أى حقيقته وما أشبه هذا المعنى وهِى عديدة فكيف يأتون بشىء محتمل لأوجه عديدة فى اللغة فيأخذون بأحد المحتملات ويجزمون به؟! ذلك باطل لا خفاء فيه.

وبعد بطلان ما ذهبوا إليه بما ذكرناه يردّ عليهم قوله عز وجل (فأينما تولوا فثم وجه الله) فإن حملوه على ظاهره وهِى الجارحة فيكون الوجه قد أحاط بجميع الجهات فلم يبق للذات محل وهذا باطل بإجماع أهل النقل والعقل وإن هم تأولوه لزمهم التأويل فى الآخر. وكذلك أيضًا يرد عليهم قوله عز وجل (كل شىء هالك إلا وجهه) فإن هم وقفوا أيضًا فى هذه الآية مع ظاهرها فقط سقط البحث معهم مرة واحدة لأ، الذات الجليلة بالإجماع لات تفنَى ولا تتجدد وإن هم خرجوا عن الظاهر وحادوا إلى التأويل لزمهم نقض ما ذهبوا إليه فى الوجه الآخر ولزمهم الرجوع إلى التأويل فيه الحقيقِى الذى يليق به عز وجل وهو أنه يعود على الذات الجليلة لا على الجارحة.

والاعتراضات واردة عليهم كثيرة وفيما أبديناه كفاية مع أن قوله عز وجل (ليس كمثله شىء) ينفِى ذلك كله ويبقَى مذهب أهل السنة ولا غير.

وأما ما زعموه من الجسمانية وتعلقوا فى ذلك بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدينا اهـ إلى غير ذلك من الآىِ والأحاديث التِى جاءت فى هذا المعنى فليس لهم فى ذلك حجة أيضًا لأن ذلك فى اللغة محتمل لأوجه عديدة كقولهم جاء زيد يريدون ذاته ويريدون غلامه ويريدون كتابه ويريدون خبره والنزول مثله كقولهم نزل الملك يريدون ذاته ويريدون أمره ويريدون كتابه ويريدون نائبه فإذا أرادوا أن يخصصوا الذات قالوا نفسه فيؤكدونه بالمصدر وحينئذٍ ترتفع تلك الاحتمالات ولذلك قال جلَّ وعزَّ فى كتابه (وكلم الله موسى تكليما) فأكده بالمصدر رفعًا للمجاز فلو قال الشارع عليه السلام هنا ينزل ربنا نفسه أو ذاته أو أكده بالمصدر لكان الأمر ما ذهبوا إليه ولكن لما ترك اللفظ على عمومه ولم يؤكده بالمصدر دلّ على أنه لم يرد الذات وإنما أراد نزول رحمة ومِنَّةٍ وفضلٍ وطَوْلٍ على عباده. وشبه هذا معروف عن الناس لأنهم يقولون تنازل الملك لفلان وهم يريدون كثرة إحسانه إليه وإفضاله إليه لا أنه نزل إليه بذاته وتقرب إليه بجسده فهذا مشاهد فى البشر فكيف بمَنْ (ليس كمثله شىء) لقد أعظموا الفرية.

وأما ما زعموا من الأصابع وتعلقوا فى ذلك بما روِى فى الحديث أن السماء يوم القيامة تكون على أصبع واحد والأرض على أصبع واحد الحديثَ بكماله فليس لهم فيه حجة أيضًا لأنه محتمل فى اللغة لأوجهٍ عديدة ثم بعد ذلك يرد عليهم قوله عليه السلام ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن اهـ ومعناه عند أهل السنة بين أمرين من أمر الرحمن فإن هم تأولوه كما تأوله أهل السنة  لزمهم التأويل فى الآخر وإن هم حملوه على ظاهره لزمهم أن يقولوا بأن أصابع الرحمن عدد الخلق مرتين لأن ما من عبد إلا وهو بين أصبعين وأن الذات الجليلة تخالط ذوات العبيد بأجمعهم ومُعْتَقِدُ هذا لا خفاء فِى حُمْقِهِ ولا شك فيه والبحث معه قد سقط فانظر إلى هذا الغباء الكُلِّىِّ الذِى مرقوا به من الدين كيف منعوا به قائدة ما احتوى عليه قوله عز وجل (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقال عز وجل في خلق هذا كله (وما مسنا من لغوب) أى من تعب. وفائدة مدلول هذا والإخبار به إنما هو أن يعلم أن هذا الخلق كله بعظمه وكثرة ما فيه من المخلوقات فِى هذا القدر من الزمان لا يكون بجارحة ولا ءالة.  هذا ما هو من طريق النقل[٣].  انتهى كلام ابن أبِى جمرة.

وكذلك فعل العلامة أبو الثناء محمود بن زيد اللامشىُّ الحنفِى الماتريدِىُّ حينما قال (ثم إن صانع العالم لا يشبه العالم ولا يشبه جزءًا من أجزاء العالم لقوله تعالى (ليس كمثله شىء) ولِما مر أن العالم أعراض وجواهر وأجسام والله تعالى ليس بعرض ولا جوهر ولا جسم فلا تقع المشابهة بينهما لأن المشابهة بين الشيئين لا تقع لكونهما شيئين ولا لكونهما موجودين ولا لكونهما عرضين أو جوهرين حتى لا تقع المشابهة بين السواد والبياض لكونهما شيئين موجودين عرضين وإنما تقع المشابهة بين الشيئين لكونهما متماثلين متجانسين يسد كل واحد مسد صاحبه والله تعالى لا يجانس العالم ولا جزءًا من أجزاء العالم لما ذكرنا أنه ليس بعرض ولا جوهر ولا جسم. وكذلك لا مساواة بينه وبين العالم ولا بينه وبين شَىْءٍ من أجزاء العالم لأن شيئًا من أجزاء العالم لا ينوب منابه ولا يُسُدُّ مَسَدَّهُ فلا تقع المشابهة بينهما لأن التشبيه بين الشيئين بدون المساواة بينهما لا يتحقق اهـ

وقال بعض المجمسة إنه يشبه الآدمِى وليس له من الأعضاء ما للآدمِىّ وقال بعضهم إنه كالسبيكة الصافية وقد أبطلنا ذلك بعون الله تعالى والله الهادِى.

ثم إن الصانع جلَّ وعلا وعزَّ لا يوصف بالمكان لِما مرّ أنه لا مشابهة بينه تعالى وبين شَىْءٍ من أجواء العالم فلو كان متمكنًا بمكان لوقعت المشابهة بينه وبين المكان من حيث المقدار لأن مكان كل متمكن قدرُ ما يتمكن فيه والمشابهة منتفية بين الله تعالى وبين شىء من أجزاء العالم لما ذكرنا من الدليل السمعِىّ والعقلِىّ ولأن فِى القول بالمكان قولًا بقدم المكان أو بحدوث البارِى تعالى وكل ذلك محال لأنه لو كان لم يزل فِى المكان لكان المكان قديمًا أزليًا.  ولو كان ولا مكان ثم خلق المكان وتمكن فيه لتغير عن حاله ولحدثت فيه صفة التمكن بعد أن لم تكن وقبول الحوادث من أمارات الحدث وهو على القدير محال.

وبين لما ذكرنا أنه ليس بذِى جهة من العالم أيضًا لأن فيه قولًا بقدم الجهة أو يكون البارِى تعالى جل وعلا محلًّا لحوادث وكل ذلك ضلال هذا كله مذهب عامة أهل الحق.

وقال كثير من الناس كاليهود والمجسمة والكرامية وغلاة الروافض إن الله تعالى متمكن على العرش وقال بعض المتأخيرن منهم إنه ليس بمتمكن بمكان ولكنه فِى الجهة العليا. والفريق الأول يتمسكون بقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وبقوله تعالى (وفوق كل ذى علم عليم) وبقوله تعالى (ءأمنتم من فِى السماء) وبقوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده) ويتمسكون أيضًا برفع الأيدِى فِى الدعاء إلى السماء.  ويتمسك من أثبت له الجهة ببعض ما تلونا من الآيات وبضرب من المعقول أى بزعمهم وهو أن نفِى الشىء عن الجهات الستِّ إعدامُه ولابد للموجود من جهة والجهة العليا بالتعيين أولى.

وحجة أهل الحق ما بيّنّا والانفصال عن تمسكهم بالمتشابهات بما ذكرنا مع المجسمة أن بعض مشايخنا قالوا بالإيمان بها وبترك الاشتغال بتأويلها وبعضهم قالوا نحمل ذلك على ما لا يؤدِى التناقض فِى حجج الله تعالى ووجه ذلك أن الاستواء قد يذكر ويراد به الاستقرار وقد يُذكر ويراد به الاستيلاء فيحمل على الاستيلاء دفعًا للتناقض وإنما خَصَّ العرش بالذكر تعظيمًا له كما خصه بالذكر فِى قوله تعالى (وهو رب العرش العظيم) وإن كان هو رب كل شىء.

وقوله تعالى (ءأمنتم من فى السماء) أى من ألوهيته فِى السماء لا ذاته كما يقال فلان أمير فِى بخارَى وسمرقند وإن لم تكن ذاته فيهما جميعًا.

وكذا الفَوْق يذكر ويراد به العلوّ من حيث المكان ويذكر ويراد به العلوّ من حيث الرتبة فيحمل على العلوّ من حيث الرتبة دفعًا للتعارض فِى حجج الله تعالى.

ولا حجة لهم فِى رفع الأيدِى إلى السماء عند الدعاء لأن السماء قبلة فِى الدعاء كالكعبة فِى الصلاة والتوجه إليها لكونهما قبلة لا لأن الله تعالى فِآ الكعبة أو فِى السماء.

وحجتنا فِى نفِى الجهة ما ذكرنا والنفِىّ عن الجهات الست إنما يكون إخبارًا عن عدم ما لو كان لكان بجهته وقد ذكرنا ن كون البارِى جلت قدرته بجهته من العالم محال وبالله الهداية عن كل ضلالة.[٤] انتهى كلام اللامشىُّ.

والله تعلم أعلم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.

[٢] قوله (ما ورد فِى الأخبار) لا يخفَى أنه ليس كل هذه الأخبار ثابتة صحيحة. المنتصر بالله.

[٣] انظر بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها.

[٤] انظر التمهيد لقواعد التوحيد.