مبدأ تعدد الزوجات[١]

قبسات من فوائد شيخ الإسلام فى الدولة العثمانية
الشيخ مصطفى صبرِى
المتوفى سنة ١٣٧٣هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.

معلوم أن مسئلة المرأة لا زالت من أعظم المسائل الإجتماعية فى الأعصر الحديثة وأكبرَ ما تفترق به الحضارة الغربية عن حضارة الإسلام ولا زال تعددُ الزوجات أولَ ما يُنتَقَدُ به الإسلام وأشهرَ نواحِى الضعف الذِى يلتاث فى نظر الغربيين ومَنْ ينظرون الأمور بمنظارهم من المنتسبين للإسلام حتى إذا عَنَّ لبعضهم الاعتذار عن حكم دينهم فيه كانت غاية ما يتمسك به أن تعدد الزوجات ليس بضرورِىّ فى الإسلام وأن جوازَه محاط بشروط تجعله مستحيلَ الوقوع ويفوته أن الاعتراف بجواز تعدد الزوجات مبدئيًا ضرورِىٌّ للمسلم وأن شروطه لا تجعله مستحيلًا وإلا كان تشريعُه عبثًا ولغوًا وكان فـِعْلُ الصحابة العاملين به معدودًا من طلب المستحيل.  وقد كنت أشبعت الكلام عن هذه المسئلة فى كتابِى الذِى ألفته قبل ثلاث عشرة سنة باللغة التركية ولما كان البحث والنظر فيها من بعض الكاتبين مستأنَفًا فى الأيام الأخيرة على صفحات بعض الجرائد أردت أن أقول قولِى فيه:

إن ما يرمِى إليه الإسلام فى معاملة النكاح والزواج هو النسل وقضاء الحاجة البشرية إلى المناسبات الجنسية بشكل مشروع. ولا تبتعد جميعُ الأديان وأغلب قوانين الحضارة فى مرماها عن هاتين الغايتين فيُفهَم أن الدين والعقل مجمعان على مراجعة الشكل المشروع فى المناسبات بدلًا من غير المشروع

ومتى دعت حاجةُ أىّ رجل إلى الاقتران بأىّ امرأة فلا سبيل إليه عند العقل والنقل إلا سبيله المشروع أىّ الزواج وما دام فى الدنيا رجل لا يكتفِى بما عنده من زوجة وحيدة ويبحث بعينه ورجله عمن عداها فالاعتراف بمبدأ تعدد الزوجات ضرورىٌّ إلا لمن يشذ عن طريق العقل والنقل ويبيح الزنا أو لمن يغضُ بصرَه عن الحقائق وينكر وجود الزناة فى الدنيا بين الرجال المتزوجين أو لمن يتقاصر حِجاه عن إدراك التلازم بين منع تعدد الزوجات وإباحة الزنا لبعض الرجال.

فهذا القدر من الكلام يكفِى فِى تغليب حجة القائلين بمبدأ تعدد الزوجات وإدحاض حجج المعارضين من دون حاجة إلى إطالة النقاش  وإنِىّ لا أبرح على طول طريق المناظرة أتعلق بالمقارنة بين النكاح والسفاح وأكتفِى بترجيح تعدد الزوجات للذين تسوقهم شهواتـهم إلى الاستمتاع بأىّ امرأة لا يحِلُ لهم ذلك فى نظر الشرع سواء كان استمتاعهم بوقاعها أو بتقبيلها أو مخاصرتها أو النظر إليها.

وأخصُّ هؤلاء اللصوص لصوص الأعراض بوضعهم موضع الخلاف بين أنصار تعدد الزوجات وأعدائه. فالإسلام عفيف لا يبيح استمتاع الرجال بغير نسائهم اللاتِى يوجد بينهم وبينهن عقد شرعِى فإذا شعروا بحاجة إلى ذلك يجب عليهم أن يأتوه من بابه ويتوسلوا إليه بعقود ثابتة فيعلم الشرع ويعلم الناس أن هذه المرأة زوجة ثانية لهذا الرجل ولا يرضَى الإسلام أن يدع علاقات الرجال بالنساء سرقات ويدعهن صيدًا لمن قنص أو ملعبة للفساق

زوجة ثانية. نعم، هذا الاسم يثقُلُ على ألسنة المفتونين المستبدلين بعقلياتهم وءادابهم الاجتماعية عقليات الغربيين وءادابهم المشترين الضلالة بالهدَى. وليت شعرِى كيف يجدونه عند المقارنة باسم المزنِى بها التِى يعبّرون عنها بالخليلة سترًا لمعابتها وتخفيفـًا لفضاحتها ولا يعترف الشرع ولا القانون بهذه الخلة ولا يُجهَر بها فى المجتمع وإنما يتهامس بها الأخلاء أى الزناة فيما بينهم.

  • هل تفضل أن ترى زوجَها يتزوج من امرأة أخرى أو يخادنها فقط

ولقد دُهِشتُ عندما قرأت قول أحد الكاتبين بهذا الصدد (لو سألنا أىَّ امرأة هل تفضل أن ترَى زوجَها يتزوج من امرأة أخرَى أو يخادنها فقط لقالت بل أفضّل أن يخادن ألف امرأة غيرِى لأنه قد يعود إلى صوابه فيعود إلىَّ وحدِى).

وأنا أقول ماذا عسَى أن يكون قدْرُ امرأة تفضّل أن تكون زوجة رجل يخادن ألف مرأة على كونها الزوجة الأولى لرجل عفيف وماذا تكون قيمة قول تلك المرأة الساقطة الحس والشعور بهذه الدرجة وقيمة تقديرها الرجال وهِى لا تقدّر العفة وقدْرَها.  أفمثل هذه المرأة ينصّبها الكاتبُ حَكَمًا ويجعل قولها الفصلَ فى مسئلة اجتماعية هامة كهذه. وهل يمكن أن يقول أحدٌ من الرجال لا أمنع امرأتِى أن تخادن ألف رجل فحسبِى أنها قد تعود إلى صوابها وتعود إلىَّ.

وإنىّ قد كنت قبل خمس وعشرين سنة أنشأتُ قصيدة بالتركية موضوعها تحاورُ امرأتين ونشرتـها فى صحف الأستانة تحديًا لمقلدِى الغرب المستهجنين لمبدأ تعدد الزوجات فشبهت فيها بلسان إحدى المتحاورتين المرأةَ التِى يشق عليها أن يتزوجَ بعلُها بامرأة ثانية فلا ترضاه ولا يشق عليها أن يخادن النساء فترضاه بامرأة ذات قرنين.  ولو سألتُ الكاتبَ الذى يصف فى أول مقالته أعداء تعدد الزوجات بأنهم حاملو لواء المدنية هل فيهم هذه المرأة التى يُحكى عنها أن تبيح لزوجها أن يخادن ألف امرأة فتحمل ألف قرن.  ومنشأ استسهال الكاتب تقويلَ أىّ امرأة بذاك القول تفشِى الفسق بين الرجال حتى عمت بليته فهان على النساء اختيار أزواجهن من الفساق وهان على الرجال أن يحبّذوا هذا الاختيار

والكاتب يعدُّ الرجلَ الذي يُعْقـِبُ أولادًا من زوجتين ءاثمًا فكأن أولادَ الزوجة الثانية أعداءً يدخـِلهم الرجلُ فى الأسرة ولا يعده ءاثمًا إذا أدخل فيها وَلدَ زِ نـيةٍ، ولعله يتغاضَى عنه كما تتغاضَى الزوجة عن خليلة زوجها [وما ولدت منه] أو يعتبرهما فى حكم العدم كما اعتبرت هِى لأنهما مجهولان عندها وعند الناس ومعدومان. ولقد دقَ نظرُ الإسلام حيث رأى في الزنا قتلَ نفسٍ وإعدامَها وجازاه بمثله.

  • مضار الزنا أعظم من تبعات الزواج بأكثر من واحدة
  • المرأة والرجل بالنسبة إلى مسئلة التعدد

أما ما ذكره من معاداة بنِى العلات[٢] بعضهم بعضًا فمنشؤه نقصانُ التربية الدينية الواجبِ تداركـهوماذا يقول الكاتب فيمن يحاذيهم من بنِى الأخياف[٣] فى المعاداة الممكنة الوقوع فيما بينهم. فهل يتصور سَنَّ قانون يمنع زواجَ امرأة مات عنها زوجُها أو طلقها بزوج ءاخر لئلا تلد منه أولادًا يعادون مَن ولدَتْهم من الزوج الأول كما يُتصوّر سَنَّ قانون يمنع تعدد الزوجات.  بل هل يَتصوّر سَنَّ قانون يمنع الرجال بعد موت زوجاتهم أو مفارقتهن بالطلاق أن يتزوجوا مرة ثانية لئلا يلدوا بني العلات فتحصل بينهم المعاداة

فقد ظهر أن أعداء تعدد الزوجات الذين لا زالوا يتعقبون ما فيه من المحاذير الاجتماعية ويتتبّعونها يمكن معارضتهم فى كل خطوة بالزنا وما فيه من المضار والويلات ثم لا يمكن عند العقل السليم تفضيل الزنا عليه وتفضيل ويلاته على تبعاته.

لذا قال مظهر عثمان بك  الطبيب التركي الكبير الأخصائِىّ الشهير فى الأمراض العقلية والعصبية فى كتابه المسمى الطب الروحاني (الاكتفاء بالزوجة الواحدة    ( (monogamieعلى ما يُرَى فى أوروبا إنما هو مظهر (etiquette)كاذب بعيد عن الحقيقة فقد تبين أنه لا يمنع الفسق فالأولى أن نحترم تعدد الزوجات المشروع فى ديننا بدلاً من أن نكترث بهذا التوسع الضرورِىّ فى الفسق والفجور).

وتكلم الكاتب المعارض فى عدد الرجال بالنسبة إلى النساء وقال (إن قامت حرب ومات فيها عدد كبير من الرجال أمكننا حينئذ أن نرجع إلى ديننا وإلى تطبيقه بحسب اختلاف الزمان) وإنِى أوصيه بالرجوع إلى دينه من غير تريث.

وقد قلت فى كتابِى المذكور (بناء على كون عدد النساء أكثر من الرجال أو تقليل الحروب عددهم أو عدم رغبة بعض الرجال فى الزواج أو رغبة بعض النساء الحرائر فى اختيارهن فى الزواج ببعضٍ معين من الرجال المتأهلين بناء على أىّ سبب من الأسباب، فقد توجد امرأة يمكن أن تكون زوجة ثانية لأىّ رجل حتى يتحقق تعدد الزوجات فى ساحة الوقوع وحسبك هذه المرأة زائدة فى المقارنة بين عدد الرجال والنساء فإن لم توجد تلك المرأة فلا محل حينئذ لتعدد الزوجات ولا لشكاية الشاكين منها. ثم إن دفاعِى عن تعدد الزوجات لما كان بالنسبة إلى الزنا والسفاح ففِى استطاعتِى إثباتَ زيادة النساء على الرجال بوجود نساءٍ فى كل بلدة يعِشن ببيع أعراضهن من غير حاجة إلى سَوق المسئلة إلى أودية بعيدة.

ولا علِىَّ أن أثبت كون هؤلاء النساء زائدات فى المقارنة بين نفوس الذكور والإناث بكل بلدة يوجَدن فيها فها هنّ ظاهرات فيها بمظهر الزيادة فعلى الرجال الذين لا مندوحة لهم عن الاقتران بهن أن يتزوجوهن سواء كانوا متزوجين قبل ذلك أو عزابًا ويجعلوا ما يعطونهن ثمن العفة نفقة الأهل

إني ألزمهم ذلك، ولا يرضاه المعارضون لأنهم يحاولون أن يبقَى الرجال دومًا بموقفٍ يسهل عليهم تبديلهن غيرهن وبه يظهر أن المعارضين لا يرضون التحديد الذِى يتضمنه تعدد الزوجات بالرغم من أنهم يشـكُون التعدد ولذا قال أحد أدباء أوروبا (إن للمسلمين أن يفترشوا من النساء إلى أربع وللغربيين ـ الذين يعدون أنفسهم أرقَى مدنية منهم أن يفترشوهن إلى ما شاؤوا من العدد).

(وكأنِى بالمعارضين يتعجبون من قولِى ويقولون كيف يتزوج كل رجل من التِى أراد أن يزنِى بها. وربما تكون من المومسات وتسكن بيتًا من بيوت الدعارة الجهرية أو السرية وتعرض نفسها على من طرق بابها فكيف تتفق الكرامة وهذا الزواج. ولكنِى أعود فأزيد فى تعجبهم قائلًا إن الزواج منها لا يُخـِلُ بالكرامة الإنسانية قدر ما يخل الزنا بها وإن الرجل مهما بلغ من الكرامة فهو يسقط فى درك امرأة يريد أن يزنِى بها لكن الزواج لا يحط من كرامة الرجل وإنما يُعلِى المرأة وينجيها من سقطتها).

أما قول الكاتب (ومن حق المرأة أن تستأثر بزوجها وأن تستأثر بحبه وأن تقول له فى علانية إنْ أنت ضممت إلى صدرك امرأة أخرى فلسوف أضم إلى صدري رجلًا آخر فإن العين بالعين والسن بالسن) وكان هو قد حكى عن أى امرأة فرضنا أنْ سألناها أنها تفضل أن يخادن زوجُها ألفَ امرأة غيرها على أن يتزوج من امرأة ثانية كما سبق نقله منا مع التعليق عليه.

فعند الجمع والتوفيق بين هذين القولين تكون النتيجة أن تلك المرأة التِى يخادن زوجُها ألف امرأة سوف تضم إلى صدرها ألف رجل لأن العين بالعين والسن بالسن بالرغم من إباحتها لزوجها تلك المخادنة غير المحدودة فى ضمن تفضيلها على تزوجه من أخرى، ولعل تفضيلها أن يخادن على أن يتزوج ليُمْكِنـها الاقتصاص منه إذ لا يمكنها أن تقول إن هو تزوج بعدِى بثانية وجمَعَها إلىّ فلسوف أتزوج بآخر وأجمع بين الزوجين لأن القانون لا يأذن لها فى ذلك ولا تأذن به فطرتها أيضًا لأن بطنها لا يجمع بين ولدين من رجلين من دون اختلاط الأنساب أما الرجل فيمكنه أن يقترن بعدة نسوة فيحصل منه عدة أولاد من غير وقوع التباسٍ فى أبيهم أو أمهاتهم، وهذا من أبرز ميّزات الرجل التِى يمتاز بها على المرأة

فقد ثبت أن فجور الزوج يستفز الزوجات ويؤدِى إلى فجورهن، أما وجود الفجار من الرجال فأمرٌ لا يمكن إنكاره بالكتمان بل لا يمكن كتمانه أيضًا فالواجب أن نتداركه بتعدد الزوجات الذِى أخذ المسلمين ينسونه منذ أقاموا فى الفسق.  فإن قال قائل كيف نتدارك الفسق الفاشِى فى البلاد بإحياء مبدأ تعدد الزوجات وليس جميعُ الفسقة من المتزوجين حتى نزوجهم ثانية. فالجواب عليه إن الفاسق وبعبارة أولى من رأى نفسه على شرف الوقوع فى الفسق إن كان عزبًا فليتزوج وإن كان متزوجًا فليتزوج ثانية وثالثة ورابعة حتى يحصل له الاستغناء فإن لم يحصل بالرابعة وتاق إلى خامسة فليطلق إحدى نسائه وليجعلِ الخامسةَ رابعةً. فإن عدّ هذه الفعال تلاعبًا بالأهل والعيال قلت إن كل ذلك أفضل من الفسق حنانـيْك بعضُ الشر أهونُ من بعض. وإن سألونِى عن منابع المال اللازم لهذه الزيجات اُرِهم منابعَ المال الذِى ينفق في سبيل الفسق وهو أكثر.

  • الحجاب وتعدد الزوجات وتشريع الطلاق موانع للفسق
  • عدم تصعيب النكاح بتحديد سن الزواج يعين على التعفف
  • إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
  • الإسلام يتوسط فى النكاح والطلاق بين المنع والفوضَى
  • تعدد الزوجات الشرعي والتعدد من غير زواج   
  • إذا ثقل التعدد على إحدى النساء ففيه منفعة لأخرى من جنسها
  • إكثار النسل في الأمم قوة لها

 ثم إن الرجوع إلى ديننا فى تستر النساء وعدم اختلاطهن الاختلاط المحرّم بالرجال يهدّئ الأهواء ويخفف نهمة الشهوات فيتفقان مع تعدد الزوجات فى ممانعة الفسق.

 والدواء الثالث ضد مرض الفسق تسهيلُ الطلاق إلى حد ما كما أشرنا إليه لأن الإسلام شرَعَ الطلاق كما شرع النكاح ولكن العادة الحديثة التِى حلت ببلاد الإسلام وجعلت الطلاق من المحالات حتى إن الرجل المسلم لا ترضيه قرينته فيضطر إلى مرافقتها طول الحياة فإذا خرج من بيته تدور عينه على نساء العالم وتتنفس الصعداء وربما يزنِى ويتحمل الإثم ولا يتحمل عارَ تطليق امرأته. هذه العادة انتقلت إلينا من الغرب وقد رأَى المغرمون منا بتقليد أهله أنهم لا يملكون طلاق زوجاتهم وسمعنا منهم اعتراضًا كثيرًا على الطلاق فى الإسلام فحرّمناه علينا فى حين أن أهل اوروبا وأمريكا بدأوا يسعون فى تسهيله على أنفسهم فأخذوا منا التوسعة وأخذنا منهم التضييق فلو أنّ من سئم من قرينته حتى احتاج إلى تجديدها بالسفاح استفاد مما بيده من استبدال زوج مكان زوج لوجد فى الإسلام منجاةً من الوقوع فى المناهِى بل ومن اقتحام غائلة تعدد الزوجات وربما وجد سعادة فى زواجه الثاني ووجدت زوجتـه القديمة التِى هِى جديدة لمن يتزوجها بعده سعادة عنده.

ومما يعين على التعفف عدم تصعيب النكاح بتحديد سن الزواج وإرجاء النكاح إلى ما بعد بلوغ الجنسين ببضع سنين، ومن يضمن لنا أن الفتيان والفتيات يمضون هذه السنوات الطويلة المصادِفة لريعان شبابهم وغليان دمائهم في تبتل وتعفف. وكونهم فى دور التعلم الذِى لا بد أن يُشغلهم زواجُهم عنه لا يُعَد معذرةً لآبائهم فى أن يعاملوهم بالتسامح والتغاضِى عما يقضون به حاجاتهم الجنسية ولا يُعَد معذرة لهم أنفسهم لأنهم بالغون مكلفون.

ولا يؤذن لأحد فى الفسق بحجة أنه فى دور التعلم لا يمكنه الزواج، وقانون الإسلام يفرض الزواج على كل من يخاف على نفسه الوقوع فى الفسق قادرًا على الزّواج ولا يبيح الوقوعَ فيه لأحد ولو في سبيل التعلم  وإنما واجب المسلمين أن يتدبروا ليكتشفوا طريق تأليف التعلم مع الزواج للمحافظة على عِفة المتعلمين والفطرة لا تجوّز أن تجعل دور غلواء الشباب يمضِى بالعطالة والعقم ولا بالإنتاج فى طريق غير مستقيم ينتهِى إلى العقم أيضًا.  لكنا رأينا أن الغربيين لا يتزوجون فى عنفوان شبابهم فقلدناهم وما فكرنا فى أنهم لا يبالون بما إذا كان شبانهم يقضون حاجاتهم الجنسية فى طرق لا تقبلها آداب الإسلام الاجتماعية من مخالطة الفتيات ومخاصرتهن ومبادلتهم المحبة وربما فكرنا فى ذلك وقلدناهم فى عدم المبالاة.

الحاصل أن الإسلام يُسرٌ يريد بنا اليسر فى المعاملات وخطته فى معاملة الأزواج مع الزوجات تدور على إمساكٍ بمعروف أو تسريح بإحسان كما عبّر به القرءان والنكاح وإن كان ميثاقًا غليظًا كما عبّر به القرءان أيضًا وكان الطلاق أبغض الحلال إلى الله وكان الله لا يحب الذواقين والذواقات كما وردا فى الحديث النبوِىّ فليس شىء من هذا وذاك وذلك يلصق أحد الزوجين بالآخر بحيث لا يتمكنان من الافتراق كما فى أنكحة سائر الملل فيتولى الرجل الطلاق وتتولاه المرأة باشتراطه عند عقد الزواج وبالمخالعة وقد يتولاه الحكمان المبعوثان من أهليهما لإصلاح ذات البين لأن دوام رابطة النكاح بين الزوجين مهما كان مطلوبًا فى الإسلام ومحبوبًا فهو مشروط بعدم مخافتهما أن لا يقيما حدودَ الله وهذا تعبير القرءان أيضًا، وقد فسروها بحقوق الزوجية التِى لهن منها مثل الذي عليهن بالمعروف مع ما للرجال عليهن من درجة وفي التعبير ما لا يخفَى من إعظام تلك الحقوق.

ثم لا يخفى أن المحافظة على العفة من الطرفين تدخل فيما هو المطلوب حصوله بينهما من إقامة حدود الله دخولًا أوليًا فعند مخافة التعدِى من أحدهما لحدود الله يتعين الطلاق بلطف ومعروف وإحسان ولا يُعقل لهما قضاء العمر في عدم التراضِى. ويُعَدّ تعديًا لحدود الله من جانب المرأة أن تمنع زوجَها من العمل بمبدأ تعدد الزوجات الذي هو من حقوق الزوج عند حاجته إليه.

وهذه الحرية فى النكاح والطلاق والسهولة التِى يلاقيها الزوجان بصددهما جعلت الإسلام فِى التوسط بين ضيق مبدأ المسيحية فيهما وفوضَى الإباحية فهو لا يبعد فى مبادئه عن الاشتراك فيضمن للإنسانية الفوائد التِى تنتظرها منه وينفِى عنه إفراطاته.

و فى زكاة الإسلام التى ترى حقًا للفقراء فى أموال الأغنياء أدلُ شاهد على هذا. كما أن سهولة النكاح والطلاق فى الإسلام تتضمن سهولة استبدال زوج مكان زوج هِى من هذا القبيل أي مما يقرّب به الإسلام من الاشتراك وبهذا التسهيل يكون الإسلام قد اعترف بحاجة الإنسان إلى التجديد الذي أطلقه الفسقة والإباحيون والإسلام يراعِى التجديد مع التحديد ويربطه بالنظام وكان الأنصارُ أهل المدينة ينصرون المهاجرين من أصحاب النبِىّ صلى الله عليه وسلم ورضِى عنهم أجمعين إلى حد أنّ من عنده امرأتان كان ينزل عن أحداهما ويزوّجها واحدًا منهم وهذا مما يُستشهد به على سهولة النكاح والطلاق ف فى الإسلام وعلى أن المقصود منهما قد يكون الإيثار والتضحية لا الاستئثار.

نرجع إلى تعدد الزوجات ومقارنته مع التعدد من دون زواج الذِى يفضله المتشبّعون بعقلية تقليد الأجانب عن الإسلام على التعدد المشروع  ويقوّلون النساءَ قولهم بالتفضيل.  وقد قلتُ عن هذه المقارنة فى كتابِى المار الذكر (إن فى التعدد غير المشروع ضرر الزوج بفقد عفت وضرر المرأة التِى اقترن بها بفقد عفتها وضرر الزوجة من حيث كونها زوجة الرجل المفقود العفة. وضررها أيضًا من حيث احتمال أن تفقد عفتها انتقامًا من زوجها.  وضرر الزوج من هذه الجهة. وضرر زوج المرأة التِى اقترن بها الزوج إن كانت متزوجة. وضرر الزوجة التِى تقترن بزوجها الزوجةُ المنتقمة إن كان متزوجًا.  وضرر الأولاد المضاعين بين المقترنين وقريناتهم وبين المقترنات وقرنائهن.  وضرر كل من الطائفتين من الأمراض المعدية من هذه الاقترانات. وضرر زوجات المقترنين وأزواج المقترنات من انتقال العدوَى إليهن وإليهم. فهذه عشر مضار قد كفت الثلاث الأخيرة منها فى إفساد حال الدنيا الحاضرة ومن حكمة الله تعالى أنه يسلط معضلات الأمراض على الاقترانات غير المشروعة.

وفي تعدد الزوجات مقابلَ هذه العشر ضرر واحد خاص بالزوجة هو كونُ زوجها تزوّج بامرأة أخرى وهو ضرر إن أخلّ باستئثارها بزوجها لم يُخلّ بشرفها لأن زوجها استعمل حقه الذِى أعطاه إياه قانون الإسلام كما لو وُلد بعد الولد شقيقـه فأخل باستئثاره بأبويه. ولست بالذِى لا يقدّر قدر الحب والقلب وما بينهما من صلة ولا قدْرَ أصحاب القلوب من الأزواج الذين تمنعهم محبة زوجاتهم أو على الأقل رحمتهن من أن يتزوجوا عليهن ولو كانوا فى حاجة إليه وإنما أنا لا أفهم من الكتاب المعارضين الظاهرين بمظهر الرعاية والاهتمام بقلب الزوجة الأولى وحبها تسامحَهم مع الخيانة الموجهة إليها وإلى محبتها من جانب الزوج الذِى يخادن امرأة غيرها بدلاً من أن يتزوجها.

ثم إن تعدد الزوجات مهما ثقُل على الزوجة الأولى وأضر بها ففيه منفعة لأخرى من جنسها لأنه صيّرها زوجة مثلها بدلًا من أن تصير خليلة ساقطة.  وإن الإنسانية إن نظرتْ إلى تعدد الزوجات وما يقابله من التعدد بشكل غير مشروع، وهو ما لا بد أن يقوم مقام التعدد المشروع، ويملأ فراغه فى الحاجة البشرية، إن نظرَتْ إلى هذا وذاك بعين الإنصاف وجدَتْ تعدد الزوجات أوفق لمصلحة النساء العامة وصلاحهن العام

والمعارضون ينظرون إلى مصلحة بعضٍ منهن دون بعض. وفضلًا عن ذلك فإن تعدد الزوجات إن أخلّ بمساواة الجنسين فالرجل لا يساوِى المرأة، ينادِى بعدم المساواة كون فطرة المرأة تأبَى أن تجازِى تعدد الزوجات بتعدد الأزواج كما ذكرنا، ثم إنها لا تستطيع أن تلد فِى عام واحد إلا مرة واحدة بينما قوة الإنتاج فى الرجل تتجدد كل يوم ولا يشغلها شاغل والمرأة تستغنِى عن الرجل أيام حيضها ومخاضها ونفاسها وتهرم قبل الرجل فتنقطع عن الولادة ويعتريها القِدم قبل الهرم فتكون بكرًا وثيبًا ووالدة فتفقد من طراوتها كلما مرّ عليها دَورٌ من هذه الأدوار فلو وقفنا الرجل والمرأة فى حد المساواة إنصافًا للمرأة لأنقصنا فى قدر الرجل الفائق فى فطرته.

ألا ترى أن المولود يُفَضّل كونه ذكرًا حتى عند أمه وهلا يدل هذا على اعترافٍ من جانب المرأة بفضل الرجل. وإنما شاعت دعوَى مساواة المرأة للرجل فى العصر الحديث تحت حماية بعض الرجال ومحاماتهم عنهن لحاجة فى أنفسهم يحاولون قضاءها بالتقرب إليهن. والنساء فى عصرنا يطاولنَ الرجال برفع كعوب أحذيتهن مطاولة مبنية على التكلف لكنهن على خطر الكبوة عند السباق معهم بتلك الأحذية.

ولأجل ما ذكرنا من قدرة الإنتاج فى الرجال حتى إن الرجل الواحد لا تعدله بضعة نساء، كان طريقُ إكثار التناسل فى الأمم تزويج رجل واحد عدة نسوة أعنِى العمل بتعدد الزوجات ذلك المبدأ الإسلامىّ الذِى ستحتاج حكومات الغرب إلى تطبيقه فى بلادهم لا سيما بعد تطبيق واحدة منهن، أما كثرة النسل فلا شك فى كونها من أجلّ ما ترغب فيه الأمم لاكتساب القوة ولا يرتاب فى نفعها أحد إلا كاتب كتب يومًا فيما تعوّد كتابته فى (الأهرام) ينهَى المصريين عن إكثار الأولاد فى حين أن حكومات الغرب تتنافس فى إكثار عدد شعبها وتكافِئُ المكثرين وتجزل لهم أنواع العطاء كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لنا قبل ذلك (تناكحوا تكاثروا فإنِى أباهِى بكم الأمم يوم القيامة).

وإنِى عجبت من شذوذ هذا الكاتب الذِى نحمد الله على أنه لم يتدخل في نقاش مسئلة تعدد الزوجات فلو تدخل لعد كونـه سببًا لكثرة النسل من مضاره. وأعجب منه ما سبق لكاتب كبير فِى تركيا عند مناظرتِى إياه فى مبدأ تعدد الزوجات من أنه لم يعترف بنفعه لكثرة النفوس وقد ذكرتُه هنا ليكون نموذجًا لمكابرة المعارضين فى هذه المسئلة وشاهدًا على وهن مواضع أقدامهم لحد أنهم ربما يحتاجون إلى تعزيز دعاويهم بما يخالف البداهة.

ثم إن الرجال هم الذين يتحملون أقسَى وظائف الحيا، ومشاركة النساء إياهم في بعضها فى العصر الأخير بعيد عن المساواة كل البعد، يكفيك أن أعباء الحروب الأساسية على كواهلهم والدماء الجارية فيها كالأنهار دماؤهم فالأمم إذن فى حاجة إلى أن تقوم نساؤهم بتضحية تتكافأ بعضَ الشىء مع تضحيات الرجال فينبغي لهن أن يحاربن أنفسه.

وما نقلنا عن الكاتب المعارض من قوله على أنه إن قامت حرب ومات فيها عدد كبير من الرجال أمكننا حينئذ أن نرجع إلى ديننا وإلى تطبيقه بحسب اختلاف الزمان اعترافٌ منه بمبدأ تعدد الزوجات وبكونه حقًا للرجال عليهن حيال الحروب صدر منه بغير شعور منه ومن غير شعور بأن التسويف فيه لا يتفق مع المصلحة المعترف بها لأن تعدد الزوجات الذي سوف يطبق بعد وقوع حرب وبعد موت عدد كبير من الرجال فيها إنما يأتي بثمراته فى عشرات من السنين بعد انتهاء تلك.

وقد كنت كتبت فى تركيا قبل خمس وعشرين سنة أن تعدد الزوجات الذِى تحمل النساء أثقاله مقابل لحروب الرجال. ثم رأيت حديثًا نبويًا وكتبته فى كتابِى المار الذكر وهو (إن الله تعالى كتب الغـيرةَ على النساء والجهادَ على الرجال فمن صبر منهن إيمانًا واحتسابًا كان لها مثل أجر شهيد) أخرجه الطبراني عن ابن مسعود بإسناد لا بأس به (الجامع الصغير)، ففِى الحديث إشارة إلى تعدد الزوجات والمراد مِن كَتـبِ الغيرة على النساء كتب ما يثير الغيرة وهو تعدد الزوجات وإنما فسرناه بهذا لأن الغيرة توجد فى الرجال أيضًا لكنهم لم يكلـفوا بها أىْ بتحمّل ما يثيرها كما كـلفت النساء

ولنختم المقال فقد طال على القارئ وخلاصته أن فى تعدد الزوجات جُنةً من البغاء وقوة للأمة العاملة به.

انتهى والله تعالى أعلم.


[١]  المرجع كتاب قولِى فى المرأة للشيخ مصطفى صبرِى رحمه الله تعالى.

[٢]أولاد الرجل من أمهات مختلفات.

[٣]أولاد المرأة من ءاباء مختلفين.