محق التقول فى مسألة التوسل (١)[١]

 قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين أما بعد فإنا نرى طائفة من الحشوِيّة يحاولون إكفار الأمة جمعاء بين حين وءَاخَرَ بسبب أنهم يزورون القبور ويتوسلون لله تعالى بالأخيار ويدعون أنهم بذلك أصبحوا عباد الأوثان وحاشاهم من ذلك.  فأحببت ذكر ءاراء أئمة أصول الدين فى مسألة التوسل لأنهم أصحاب الشأن فى تبيين وجود الفرق بين التوحيد والإشراك وعبادة الأوثان مع سرد ما فى الكتاب والسنة من وجوه الدلالة على ذلك عند أهل العلم ردًا للحق إلى نصابه وردعًا للجهل وأصحابه والله سبحانه ولِى التسديد والتوفيق.

الفصل الأول

 فأقول مستعينًا بالله جل جلاله إنِّى أرى أن أتحدث هنا عن مسألة التوسل التِى هِى وسيلة دعاتهم إلى رميهم الأمة المحمدية بالإشراك وكنت لا أحب طرق هذا البحث لكثرة ما أثاروا حوله من جدل عقيم مع ظهور الحجة واستبانة المحجة، وليس قصدُ أولِ مَن أثار هذه الفتنة سوَى استباحة أموال المسلمين ليؤسس حكمه بأموالهم على دمائهم باسم أنهم مشركون وأنَّى يكون للحشوية صدقُ الدعوة إلى التوحيدوهم فِى إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث والمعقول.

أما الكتابُ فمنه قوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)[٢] بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص والتوسل بالأعمال بل المتبادر من التوسل فِى الشرع هو هذا وذاك رغم تقول كل مفتر أفاك.  والفرق بين الحِى والميت فِى ذلك لا يصدر إلا عَمَّنْ ينطوِى على اعتقاد فناءِ الأرواح وعلى ادعاء انتفاء الإدراكات الجزئية من النفس بعد مفارقتها البدن المستلزم لإنكار الأدلة الشرعية فِى ذلك.

أما شمول الوسيلة فِى الآية المذكورة للتوسل بالأشخاص فليس برأىٍ مجرد ولا هو بمأخوذ من العموم اللغوِىّ فحسب، بل هو المأثور عن عمر الفاروق رضِى الله عنه حيث قال بعد أن توسل بالعباس رضِى الله عنه فى الاستسقاء (هذا والله الوسيلة إلى الله عز جل) كما فى الاستيعاب لابن عبد البر.

وأما السنة فمنها حديث عثمانَ بنِ حُنيفٍ بالتصغير رضِى الله عنه وفيه (يا محمد إنِّى توجهت بك إلى رب) وهكذا علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الضرير الدعاء وفيه التوسل بالشخص وصرفه عن ظاهرِهِ تحريفٌ للكلم عن مواضعه بهوَى.  وأما كون استجابة دعاء الضرير بدعاء الرسول صلوات الله عليه وهو غير مذكور فى الرواية أو بدعاء الضرير فلا شأن لنا بذلك بل الحجة هِى نصُّ الدعاء المأثور عن الرسول عليه الصلاة والسلام.  وقد نصَّ على صحة هذا الحديث جماعة من الحفاظ كما سيأتِى.

وقد ورد أيضًا فى حديث فاطمة بنت أسد رضِى الله عنها (بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلِى) ورجال هذا الحديث ثقات سوَى رَوحُ ابنُ صلاح وعنه يقول الحاكم ثقةٌ مأمونٌ وذكره ابن حبان في الثقات. وهو نصٌّ على أنه لا فرق بين الأحياء والأموات في باب التوسل وهذا توسل بجاه الأنبياء صريح.

وفِى حديث أبِى سعيد الخدرِىّ رضِى الله عنه (اللهم إنِىّ أسألك بحق السائلين عليك) وهذا توسل بالمسلمين عامة أحياء وأمواتًا. وابن الموفق فِى سنده لم ينفرد عن مرزوق، وابن مرزوق من رجال مسلم وعطية حسّن له الترمذي عدة أحاديث كما سيأتِى.

وعلى التوسل بالأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتًا جرت الأمة طبقة فطبقة.
وقول عمر رضِى الله عنه فِى الإستسقاء (إنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا) نصٌّ فِى توسل الصحابة بالصحابة وفيه إنشاء التوسل بشخص العباس رضِى الله عنه. وليس فِى هذه الجملة فائدة الخبر لأنّ الله تعالى يعلم أيضًا علم المتوسلين بتوسلهم فتمحضت الجملة لإنشاء التوسل بالشخص.

وقوله (كنا نتوسل) فيه أيضًا ما فِى الجملة الأولى، وعلى أن قول الصحابِىّ كنا نفعل كذا ينصب على ما قبل القول فيكون المعنى أن الصحابة رضِى الله عنهم كانوا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم فِى حياته وبعد لحوقه بالرفيق الأعلى إلى عام الرمادة.  وقصرُ ذلك على ما قبل وفاته عليه السلام تقصيرٌ عن هوًى وتحريفٌ لنصِّ الحديث وتأويلٌ بدون دليل.

ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم بعدول عمر إلى العباس فى الإستسقاء قد حاول المحال ونسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال فضلًا عن أن ينطق به فلا يكون هذا إلا محاولةَ إبطالِ السنة الصريحة بالرأىِ. وفعل عمر إنما يدل على أن التوسل بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلمالأحياء جائز كجوازه بالنبِىّ عليه الصلاة والسلام ليس غير، بل فى استعياب ابن عبد البر بيان سبب استسقاء عمر بالعباس حيث يقول فيه (إن الأرض أجدبت إجدابًا شديدًا على عهد عمر زمن الرمادة وذلك سنة سبع عشرة فقال كعب يا أمير المؤمنين إن بنِى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استقوا بعصبة الأنبياء فقال عمر هذا عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصِنوُ أبيه وسيد بنِى هاشم فمشَى إليه عمر وشكا إليه) اهـ فهل استبان أن استسقاء عمر بالعباس لم يكن من جهة أن الرسول ميت لا يسمع نداءً ولا جاه له عند الله تعالى، حاش لله ما هذا إلا إفك مفترَى.

وحديث مالك الدار فِى مجىء بلال بن الحارث الصحابِىّ إلى قبر النبِى صلى الله عليه وسلم أيام القحط فى عهد عمر وقوله ( يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا) فأتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فِى المنام فقال (ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره أنهم يسقون) نصٌ فى توسل الصحابة به عليه السلام بعد وفاته من غير نكير.

والحديث مما أخرج ابن أبي شيبه بسند صحيح كما فى فتح البارِى وهذا قامع لمن لا يجيز التوسل به صلوات الله عليه بعد لحوقه بالرفيق الأعلى.

وكذلك حديث عثمان بن حنيف فى تعليمه دعاء الحاجة السابق ذِكرُهُ لمن كان له حاجة عند عثمان بن عفان رضِى الله عنه وفيه التوسل بالنبِىّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من غير أن ينكر عليه أحد.  والحديث صححه الطبرانِى وأقره أبو الحسن الهيثمِىّ فى مجمع الزوائد كما سيأتِى.  وقد جمع المحدث الكبير محمد عابد السندِىّ فى جزء خاص الأحاديث والآثار الواردة فى هذا الباب فشفَى وكفَى.

وعَمَلُ الأمة المُتَوَارَثُ طبقةً فطبقة فى ذلك مما يصعب استقصاؤه وفى ذلك كتبٌ خاصةٌ.وفِى مناسك الإمام أحمد رواية أبِى بكر المروزِىّ التوسل إلى الله تعالى بالنبِىّ صلى الله عليه وسلم. والصيغة التِى ذكرها أبو الوفاء بن عقيل كبير الحنابلة فِى تذكرته فى التوسل به عليه السلام على مذهب الحنابلة فيها طولٌ ذكرنا نصها فِى تكملتنا للسيف الصقيل. وتوسل الإمام الشافعِىّ بأبِى حنيفة مذكور فى أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح. وتَمَسُّحُ الحافظ عبد الغنِىّ المقدسِىّ الحنبلِىّ بقبر أحمد للاستشفاء لدمامل أعيا علاجها الأطباءً مذكورٌ فِى الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسِىّ سماعًا من شيخة المذكوروالكتاب محفوظ بظاهرية دمشق وهو بخط المؤلف.  فهل هؤلاء عباد القبور.

وأما من جهة المعقول فإن أمثال الإمامِ فخر الدين الرازِىّ والعلامةِ سعد الدين التفتازانِىّ والعلامةِ السيد الشريف الجرجانِىِّ وغيرهم من كبار أئمة أصول الدين الذين يُفْزَعُ إليهم في حل المشكلات فى أصول الديانة قد صرحوا بجواز التوسل بالأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتًا وأىُّ ضعيف يستطيع أن يرميهم بعبادة القبور والدعوة إلى الإشراك بالله وإليهم تفزع الأمة فى معرفة الإيمان والكفر والتوحيد والإشراك والدين الخالص. والمدد كله عند الجميع من مسبب الأسباب جل جلاله.

فدونك نصوصًا من كلام هؤلاء الأئمة فى هذه المسألة.

قال الرازِىُّ فِى المطالب العالية إن تعلق النفوس بأبدانها تعلق يشبه العشق الشديد والحب التام ولهذا السبب كان كل شىء تطلب تحصيله فى الدنيا فإنما تطلبه لتتوصل به إلى إيصال الخير والراحة إلى هذا البدن فإذا مات الإنسان وفارقت النفس هذا البدن فذلك الميل يبقَى وذلك العشق لا يزول وتبقَى تلك النفوس عظيمة الميل إلى ذلك البدن عظيمة الانجذاب، إذا عرفت هذه المقدمات فنقول إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوِىّ النفس كامل الجوهر شديد التأثير  ووقف هناك ساعة وتأثرت نفسه من تلك التربة وقد عرفت أن لنفس ذلك الميت تعلقًا بتلك التربة أيضًا فحينئذ يحصل لهذا الزائر الحِىّ ولنفس ذلك الميت ملاقاة بسبب إجتماعهما على تلك التربة فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرءاتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى أخرى. فكل ما حصل فى نفس هذا الزائر الحِىّ من المعارف البرهانية والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة من الخضوع له والرضا بقضاء الله ينعكس منه نور إلى روح ذلك الميت وكل ما حصل ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرقة الكاملة فإنه ينعكس منه نور إلى روح هذا الزائر الحِىّ. وتمام العلم بحقائق الأشياء ليس إلا عند الله اهـ

وها أنت رأيت ما يراه الإمام فخر الدين الرازِىّ فى الزيارة من الأخذ والعطاء والاستفاضة والإفاضة على نسبة منزلتَى المزور والزائر.

وقال العلامة السعد التفتازانِىّ فى شرح المقاصد فى الصفحة 32 من الجزء الثانِى منه فى الرد على الفلاسفة لما كان إدراك الجزئيات مشروطًا عند الفلاسفة بحصول الصورة فى الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقَى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء الشروط بانتفاء الشرط. وعندنا لما لم تكن الآلات شرطًا فى إدراك الجزئيات بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين بينهم وبين الميت تعارف فى الدنيا ولذا ينتفع بزيارة القبور  والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات فِى استنزال الخيرات واستدفاع الملمات فإن للنفس بعد المفارقة تعلقًا ما بالبدن وبالتربة التِى دفن فيها فإذا زار الحِىّ تلك التربة توجهت نفسه تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات اهـ

وقال العلامة السيد الشريف الجرجانِىّ فى أوائل حاشيته على المطالع (فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا متعلقين بالأبدان وأما إذا تجردوا عنها فلا إذ لا وُجْهَةَ مقتضيهٌ للمناسبة قلنا يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمةٍ عالية فإنَّ أثر ذلك باق فيهم، وكذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين كما يشاهده أصحاب البصائر اهـ

فتطابق الكتاب والسنة وعمل الأمة المتوارثة وكلام أئمة أصول الدين فِى المسألة كما رأيتَ ومن عاند بعد ذلك فهو زائغ عن السبيل.

انتهى. والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب محق التقول فِى مسألة التوسل لوكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى رحمه الله.

[٢]المائدة ءاية ٣٥.