المنتقى من كتاب
مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر

قبسات من فوائد محدث الديار المغربية
الحافظ عبد الله بن محمد بن الصديق الغمارِىّ
المتوفَى سنة ١٤١٣هـ رحمه الله تعالى


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله الأكرمين ورضِى الله عن صحابته والتابعين.  وبعد فهذا جزء سمّيته مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر أردت به تنزيه النبِىّ صلى الله عليه وسلم عمّا نُسب إليه مما لم يصح عنه ويعدُّ من قبيل الغلو المذموم ومع ذلك صار عند العامة وكثير من الخاصة معدودًا من الفضائل النبويّة التِى يكون إنكارها طعنًا فى الجناب النبوِىّ عندهم ولا يدركون ما فى رأيهم وقولهم من الإثم العظيم الثابت فى قول النبِىّ صلّ الله عليه وسلّم من كذب علِىَّ فليتبوأ مقعده من النار والذِى يصفه بما لم يثبت عنه كاذب عليه واقع فى المحذور إلّا أن يتوب ولا يكون مدحه عليه الصلاة والسلام شافعًا له فى الكذب عليه.

وإن كانت الفضائل يُتَسَامَحُ فيها فإن فضائل النبِىّ صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالثابت المعروف حذرًا من الكذب المتوعَّد عليه بالنار نسأل الله العافية.

وقد وردت أحاديث فى هذا الموضوع باطلة وجاءت ءَارَاءٌ شاذة عن التحقيق عاطلة أُبينها فى هذا الجزء بحول الله.

روى عبد الرزاق -فيما قيل- عن جابر رضِى الله عنه قال قلت يا رسول الله بأبِى أنت وأمِّى أخبرنِى عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء قال يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن فى ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جنِىّ ولا إنسِىّ فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسِىّ ومن الثالث باقِى الملائكة ثم قسّم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السموات ومن الثانِى الأرضين ومن الثالث الجنّة والنار ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثانِى نور قلوبهم وهِى المعرفة بالله ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمّد رسول الله. الحديثَ وله بقية طويلة وقد ذكره بتمامه ابن العربِى الحاتمِى فى كتاب تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان والديار بكرِى فى كتاب الخميس فى تاريخ أنفس نفيس.  وَعَزْوُهُ إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد فى مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره.

وقال الحافظ السيوطِىّ فى الحاوِى ليس له إسناد يعتمد عليه اهـ وهو حديث موضوع جزمًا وفيه اصطلاحات المتصوفة. وبعضُ الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر وهذا كذب يأثم عليه

وبالجملة فالحديث منكر موضوع لا أصل له فى شىء من كتب السُّنّة. ومثله فى النكارة ما روِى عن علِىّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السلام أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال كنت نورًا بين يدَىْ ربِى قبل أن يخلق ءادم بأربعة عشر ألف عام وهو كذب أيضًا.

ومن الكذب السخيف ما يقال إن إحدى أمهات المؤمنين أرادت أن تلف إزارًا على جسد النبِىّ صلى الله عليه وسلم فسقط الإزار أى لأنَّه نور وهذا لا أصل له. وقد كان النبِىُّ صلى الله عليه وسلم يستعمل الإزار ولم يسقط عنه. وكونه صلى الله عليه وسلم نورًا أمر معنوي مثل تسمية القرءان نورًا ونحو ذلك لأنه نوّر العقول والقلوب.

ومن الكذب المكشوف قولهم لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك. وكذلك ما رُوِىَ عن علِى عليه السلام عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال هبط علِىَّ جبريل فقال إن الله يقرئُك السلام ويقول إنِّى حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك وهو حديث موضوع.

وروِى فى بعض كتب المولد النبوِىّ عن أبِى هريرة قال سأل النبِىّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال يا جبريل كم عمّرتَ من السنين فقال يا رسول الله لست أعلم غير أن فى الحجاب الرابع نجمًا يطلع فى كل سبعين ألف سنة مرة رأيته اثنتين وسبعين ألف مرة فقال النبِىّ وعزة ربِى أنا ذلك الكوكب. وهذا كذب قبيح قبّح الله من وضعه وافتراه.

وذكر بعض غلاة المتصوّفة أن جبريل عليه السلام كان يتلقَّى الوحِىَ من وراء حجاب وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبِىّ صلى الله عليه وسلم يُوحِى إليه فقال جبريل منك وإليك. قلتُ لعن الله من افترَى هذا الهراء المخالف للقرءان فإن الله تعالى يقول لنبيّه (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) ويقول (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ).

أخرج أحمد والحاكم والبيهقِىّ فى الدلائل عن العرباض بن سارية رضِى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنِى عند الله فى أمّ الكتاب لخاتم النبيّين وإنَّ ءادَمَ لمنجدل فى طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبِى إبراهيم وبشارة عيسَى قومه ورؤيا أمِّى التِى رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترَى أمهات الأنبياء اهـ وقال الهيثمِىّ فى مجمع الزوائد رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبرانِىّ بنحوه وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبّان اهـ

قلتُ رواه الحاكم من طريق أبِى بكر بن أبِى مريم عن سويد بن سعيد عن العرباض بن سارية وقال صحيح الإسناد وتعقّبه الذهبِىّ بأن أبا بكر ضعيف، وغلط الدكتور قلعجِى محقّق كتاب دلائل النبوة فذكر أن الذهبِىّ وافقه على تصحيحه.

وروى أحمد من طريق بُدَيْل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيًّا قال وءادم بين الروح والجسد. وهكذا رواه البغوِىّ وابن السكن فى الصحابة. قال الحافظ وهذا سند قوِىّ. قلتُ وذكره البخاري فى التاريخ معلقًا.

روَى الحاكم عن أبِى هريرة رضِى الله عنه قال قيل للنبِىّ صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوّة قال بين خلق ءادم ونفخ الروح فيه. وروَى أحمد من طريق عبد الله بن شقيق عن رجل قال قلت يا رسول الله متى جعلت نبيًّا قال وءادم بين الروح والجسد. قال الهيثمِىّ رجاله رجال الصحيح. قلتُ هو أحد طرق حديث ميسرة الفجر.

وقال ابن سعد فى الطبقات أخبرنا عفّان ابن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابِىّ قالا حدّثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد الله ابن شقيق عن عبد الله بن أبِى الجدعاء قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيًّا قال إذ ءَادَمُ بين الروح والجسد اهـ رجاله رجال الصحيح.

وروى البزار والطبرانِىّ بإسناد ضعيف عن ابن عبّاس رضِى الله عنهما قال قيل يا رسول الله متى كنت نبيًّا قال وءادم بين الروح والجسد.

قال البيهقِىّ قوله صلى الله عليه وسلم إنِّى عند الله فى أمّ الكتاب لخاتم النبيين وإنَّ ءادم لمنجدل فى طينته يريد أنَّه كان كذلك فى قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم اهـ

وقال أبو الحسين بن بشران حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بن سنان العَوفى ثنا إبراهيم بن طَهمان عن بُدَيل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيًّا قال لما خلق الله الأرض واستوَى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمّد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنّة التِى أسكنها ءادم وحوّاء فكتب اسمِى على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وءَادَمُ بين الروح والجسد فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمِى فَأُخْبِرَ أنَّه سيد ولدك فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمِى إليه اهـ إسنادٌ جيدٌ قوِىٌّ. وهو يفيد أن معنى كونه نبيًّا إظهار ذلك فى العالم العلوِىّ قبل نفخ الروح فى ءَادَمَ عليه السلام.

وقد بيَّن الحديثُ أيضًا سرَّ إعلان نبوته فى ذلك العهد وأنَّه يرجع إلى أمرين اختص بهما أحدهما أنَّه سيد ولد ءادم، والآخر أنَّه خاتم الأنبياء وأيَّد ذلك بما ذكره من بشارة إبراهيم وعيسى به عليهم الصلاة والسلام.

والأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة فى تقدير الله وقضائه لكن لم يَرد فى خبر أن الله تعالى أظهر نبوة أحد منهم بالتعيين قَبْلَ خَلْقِ ءَادَمَ فلم يكن ذلك إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وهذا سِرُّ قوله كنت نبيًّا وءَادَمُ بين الروح والجسد أى أنَّ حملة العرش والملائكة عرفوا اسمه ونبوته قبل خلق ءَادَمَ عليه السلام وهم لم يعرفوا ءَادَمَ إلّا بعد خلقه.

تنبيهٌ. حديث كنت نبيًّا وءَادَمُ بين الماء والطين لا أصل له وكذلك حديث كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين لا أصل له أيضًا. وما يوجد فى كتب المولد النبوِىّ من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هِى من الغلو الذِى نهَى الله ورسوله عنه فتحرم قراءة تلك الكتب ولا يُقبل الاعتذار عنها بأنَّها فى الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف أمّا الحديث المكذوب فلا يُقبل فى الفضائل إجماعًا بل تحرم روايته [إلا مع بيان أنه موضوع].  والنبِىّ صلى الله عليه وسلم يقول من حدّث عنِّى بحديث يُرَى أنَّه كذب فهو أحد الكاذبين.  وفضلُ النبِىّ صلى الله عليه وسلم ثابت فى القرءان الكريم والأحاديث الصحيحة وهو فى غنَى عما يُقال فيه من الكذب والغُلُوِّ. وقال صلى الله عليه وسلم لاتطرونِى كما أطرت النصارَى عيسى فإنَّما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.

وتم تحرير هذه العجالة يوم الأحد ٢٥ من ذِى القَعدة سنة ١٤٠٨هـ

والحمد لله أولاً وءاخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وسلّم.