مسألة ترجمة القرءان 

قبسات من فوائد الشيخ مصطفى صبرِى التوقادِىّ
ءاخر مفتِى للدولة العثمانية
المتوفى سنة ١٣٧٣هـ رحمه الله تعالى

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذِى خصنا معاشر المسلمين على اختلاف أجناسنا بكتاب عربِىّ مبين أنزل لفظه ومعناه على خاتم رسله لئلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فأصبحنا بنعمته إخوانا إلَهُنَا واحد وكتابنا واحد ونبينا صلى الله عليه وسلم قطع دابر الجاهلية وجعل الإسلام الجامع بيننا فَوُقِينَا بفضله داء الأمم وغَدَوْنَا كلنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمن للمؤمن كالبنيان وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله أصحابه والذين اتبعوهم بإحسان وشدوا ذلك البنيان إلى أن خلف من بعدهم خلف لم يقدروه حق قدره فحاولوا تمزيق وحدته ومن يضلل الله فلا هادِىَ له.

 

أما بعد فقد أُحدث فِى تركية بعد تولِى متطرفِى الترك للسلطة وعلى رأسهم مصطفى كمال ترجمةٌ للقرءان إلى اللغة التركية أريد إقامتها مقام الأصل فِى الصلاة ومن الغريب أنه ارتفع بعض أصوات عربية فِى مصر تناصر هذه البدعة قام بها محمد فريد وجدِى على صفحات جريدة الأهرام ثم المقطم وأخرى قام بها محمد مصطفى المراغِى شيخ جامع الأزهر سابقًا على صفحات جريدة الأهرام أيضًا فأحببت أن أقابل تلك الأصواتَ بصوت يدافع عن سيادة القرءان العامة وصيانة الأمة التركية عن أن يُقْطَعَ لها ءَاخِرُ حبل يربطها بوحدة الإسلام وأن أُرِىَ هؤلاءِ العربَ المشاركين فِى القطع أخطاءهم فلعلهم ينتهون ويرحمون الترك فينصرونهم بحجزِ ظالميهم عن الظلم لا بإعانتهم عليها وقد اعترف بعض المناصرين للترجمة بأن التراجم تنحط عن رتبة القرءان وتفقد الإعجاز والمعانِى الثانوية التِى تتبع الإعجاز وأنه لا يمكن ترجمة جميع ءَايَاتِ القرءان ترجمةً حرفيةً وأن الصلاة لا تجوز بتفسير القرءان ولا بالترجمة المعنوية التِى هِى فِى حكم التفسير.

واستدل هؤلاء على صحة ترجمة القرءان وجوازها بصحة تفسير القرءان وجوازه بغير العربية إجماعًا ولا يخفى أن الكلام ليس فِى ترجمة تفسيرية فإنها فِى الحقيقة تفسير لمعانِى القرءان ولا حرج فِى ذلك وإنما الكلام فِى الترجمة الحرفية وعند ذلك فالاستدلال على جوازها قياسًا بجواز التفسير باطل لكونه قياسًا مع الفارق ألا يُرَى أن التفسير يمكن فِى جميع ءايات القرءان ولا يمكن الترجمة الحرفية إلا فِى بعضها، وأن الترجمة يَحتمل وقوع الخطأ فيها مع عدم احتماله فِى القرءان إذ لا يمكن ادعاء العصمة لأىِّ مترجم. وكيف تمكن الترجمة الحرفية فِى مثل قوله تعالى فِى سورة الإسراء ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك﴾ أو فِى مثل قوله فِى نفس السورة ﴿وإذ قلنا لك إن ربك﴾ أو في مثل قوله تعالى في سورة البقرة ﴿وإذ قلنا للملائكة﴾ أو فِى مثل قوله تعالى فِى سورة التغابن ﴿يوم يجمعكم ليوم الجمع﴾ أو قوله تعالى فِى سورة الإسراء ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ فإن الأفعال المحذوفة التِى تتعلق بها الظروف الزمانية فِى هذه الجمل أو تنصب المصادر مما شاع حذفه فِى استعمال العرب لم يشع حذفها فِى اللغة التركية مثلًا فإذا حذفت لم يتم المعنى وحتى البسملة فإنها من هذا القبيل. ولك أن تعد الحمد لله أيضًا مما لا يقبل الترجمة الحرفية لاحتمال كونه خبرًا وإنشاء. ومثل ذلك ءايات كثيرة من نحو قوله تعالى فِى سورة الفتح ﴿يد الله فوق أيديهم﴾ وقوله تعالى فِى سورة القصص ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ وقوله تعالى فِى سورة المجادلة ﴿غضب الله عليهم﴾ إلى غير ذلك مما هو موجود فِى أكثر ءايات القرءان فإن الترجمة تتعذر بأدنى سبب يتولد من اختلاف اللغتين هذا فضلًا عن الآيات التِى يأبى إعجازها وأسلوبها العالِى الترجمة الحرفية.

وربما احتج محتج على جواز الترجمة الحرفية بأن الأحكام الأصلية إنما تستفاد من جهة المعانِى الأصلية لا من جهة المعانِى التابعة وإذا كان الأمر كذلك لم تمتنع الترجمةُ لأنَّ المعانِى يصحُّ نقلُها إلى اللغات الأخرى ويُريد قائل ذلك أنَّ غير العرب يمكنهم أن يرتقوا إلى رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام من القرءان بواسطة تَرَاجِمِه مِن غير أن يعلموا شيئًا من نظم القرءان ولغة العرب ومناهج دلالاتهما المبسوطة فِى علوم العربية وعلم أصول الفقه. هكذا قال بعضهم.

ونحن نقول لو سلمنا تَنَزُّلًا أن الأحكام تستفاد من الدلالات الأصلية وسَلَّمْنَا أن سلب اسم القرءان عن الترجمة لا يستلزم سلب جواز استخراج الأحكام منها فلا نسلم أنَّ استخراج الأحكام منها يعتبر استخراج الأحكام من القرءان لأن الترجمة غير القرءان لا من حيث الاسم فقط ولا من جهة الدلالات التابعة كما سلم به الداعون إلى هذه التراجم بل من جهة الدلالات الأصلية كما سبق أن بينَّا لأنَّ الترجمةَ يحتمل فيها الخطأ كما أنه لا ينطبق عليها تعريف القرءان عند الأصوليين الذِى هو النظم العربِى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المنقول عنه بالتواتر المكتوب فِى ما بين دفتَىْ المصاحف فكيف يعتبر بعد ذلك استنباط الأحكام من التراجم استنباطًا من القرءان وكيف يعتبر الاجتهاد فيها اجتهادًا فيه وكيف لا يكون المجتهد فيها مقلدًا للمترجم وذلك لأن فهمه للمعانِى تابع لفهم المترجم مع كون جل الاجتهاد وأُسِّه هو الفهم بل الإمعان فيه ولذلك قال الإسنوىّ فِى شرح المنهاج السادس علم العربية من اللغة والنحو والتصريف لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب اهـ

والعجب أنَّ الداعين إلى هذه الترجمة يحركهم بزعمهم عدم فهم الأعجمِىّ لمعنى ما يقرأ بالعربية أىْ فَهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِى القارئ الفهم ثم لا يشترطونه في المجتهد.

وهؤلاء الدعاة إلى الترجمة جاهلون بواقع حالِ العجمِ من المسلمين أو هم متجاهلون وذلك لأن المسلمين كلهم فِى مشارق الأرض ومغاربها يقرؤون القرءان فِى صلواتهم باللغة العربية وإن لم يعرفوها وليس المانعُ لعوامهم من الإكثار فِى القراءة عدمَ وجود الترجمة إنما المانعُ عدمُ الاهتمام لحفظ القرءان والتوسع فِى قراءته[١].

وليت شعرِى ما الذى يمنع الأعجمِىّ من تعلم معانِى ما يقرأ بالعربية ومعرفة تفسيره بلغته فيقرأ ويفهم من غير حاجة إلى بدعة الترجمة هذه.

ثم كأن الدعاة إلى هذه الترجمة زاعمون أن قراءة التراجم أنسب عندهم للأعاجم وأنفع من قراءة النظم العربِىّ وإن كانوا يُحسنون قراءته وإن كانوا من حملته وحفاظه لأن استنباط الأحكام محفوظ بزعمهم فِى التراجم ولأن الإعجاز غير مقصود ولا مفهوم للأعاجم ولأن اللذة والطلاوة والتأثير فِى النفوس غير موجودة بالنسبة إليهم فِى النظم العربىّ وموجودة فِى التراجم بسبب الاطلاع على المعنى، فدعاة الترجمة يرون أن فِى قراءتهم للنظم العربِىّ فوات المقاصد كلها بينما يُحَصِّلُون بعضها فِى قراءة الترجمة.

هذا كلامهم وهو يفتح الباب لوصول الطعن إلى أُسِّ الدين وأصله ويخالفه الواقع المشاهد وينقضه ويبطله، فإنّى لا أرى خيرًا قط فى فكرة تحويل وجوه المسلمين غير العرب إلى التراجم وترجيحها لهم فلو كان السلف الصالح من علماء الإسلام يرون ذلك ولو زينت لهم هذه الفكرة لما بقى القرءان فِى أيدى غير العرب من المسلمين فيفقد القرءان بذلك تواتره العام وينقلب كتابًا يرجع إليه الخواصُّ عند الحاجة أو يُحفظ فِى دور الآثار لكن الله عز وجل سلم أئمة الدين من ذلك وألهم الاهتمام بلفظ القرءان ونظمه فعرَّفوه بما تقدم وقالوا إن غير المتواتر ليس بقرءان بحيث يكفر من أنكر ما هو منه عنادًا أو ألحق به ما ليس منه كذلك فحرسوا مكان القرءان بسياجين فولاذيين من النَّفْى والإثبات أن يدانى ساحتَه الشكُّ والرَّيبُ أو يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.

وكان هذا الاهتمام لحفظ القرءان مطلوبًا عند الشارع حتى جعله وحيًا متلوًّا وأوجب قراءته فِى الصلوات الخمس ووعد الثواب بتلاوته بل وبالنظر فِى كلماته المقيدة فِى صحائفه كما روِىَ عن ابن مسعود رضِىَ الله عنه النظر فِى المصحف عبادة من غير اشتراط فهم المعنى للتالي والناظر.

وبسبب ما تقدم تقررت وجدة الكتاب وقضِىَ على الاختلاف فيه وتخلص النص المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مزاحمة النصوص الملحقة به، وهذه الوحدة نعمة عظيمة على المسلمين لا تعدلها فائدةُ فهمِ العامَّةِ الناقصِ لبعض الآيات عند تلاوة التراجم.

وليت شعرى كيف يَرْضَى الدعاة إلى هذه الترجمة وهم يدعون الإسلام والغيرة على الدين بضياع كل أوصاف القرءان التِى ذكرها الأئمة أئمة الأصول فِى تعريفهم من العربية والإعجاز والإنزال والنقل بالتواتر والثبوت فِى المصاحف أقول كيف يرضون بضياع تلك الأوصاف بإثبات التراجم بدل النص المنزل، كيف يرضون بضياع وحدة كتابهم وحلول التشتت والتفرق محلها وحلول الضعف مكان القوة. كيف يرضون بذلك ونحن مع هذا لا نحرمهم من فهم المعنى فَلْيُلْحِقُوا بمصحفهم إذا شاءوا تفسيرًا بلغتهم وإن شئت قلتَ ترجمةً للتفسير يرجعون إليها متى شاءوا ويطالعونها كتفسيرٍ موجز لا يتخذونه قرءانًا ولا يتلونه فِى الصلوات والمساجد والأندية والمنازل كما يُتْلَى القرءان.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فواقع الحال يشهد أن المسلمين جميعهم عربهم وعجمهم مستأنسون بقراءة القرءان وبسماعه ونافرون من قراءة غيره وسماعه مكانه وهذا الاستئناس متأصلٌ فِى قلوبهم متأسِّسٌ فِى نفوسهم لا يبدل عندهم بالطَّوْع والرِّضَى منهم وبهذا يسقط ما ذكره دعاة البدعة من حديث اللذة فإن المسلمين الأعاجم يجدون فِى قراءة القرءان واستماعه لذة لا تقل عن لذة فهم المعنى وهذا مشاهَدٌ فِى كل بلد والله تعالى قادر على أن يخلق تلك اللذة فِى نفوسهم احتفاظًا بموقع كتابه فيها. ومن أصدق شاهد على ذلك وجود حملة القرءان فِى الأتراك وفِى غيرهم من المسلمين العجم بكثرةٍ لا تحصى بألوف ولا بعشرات الألوف فلو لم يستلذوا قراءته واستماعه لما كانت تلك الرغبة منهم فِى حفظه وهِى لا توجد قطعًا فِى حفظ الترجمة والتفسير. ونظرةٌ واحدةٌ إلى ملايين وملايين النصارى تُبَيِّنُ أنه لا يوجد بينهم واحد يحفظ كتبهم المترجمة عن ظهر قلب أو لا يكاد يوجد وهو مما يؤيد حديثنا.

وكنت فِى صباىَ أعالج حفظ القرءان فِى بلدتنا توقاد من بلاد الأناضول وأنا فِى التاسعة من عُمُرِى وكان أستاذِى الذِى أقرأ عليه فِى الكُتَّاب يستمع لِى ولثلاثة أو أربعة من مثلِى فِى وقت واحد وكان يغمض عينيه عند الاستماع حتى إذا غلط أحدنا فِى التلاوة فتح عينيه ونظر إليه ليصلح ما أخطأ فيه. هذا والأستاذ رحمه الله فِى خشوع تام عند الاستماع إلينا وكنا نرى قطرة دمع كبيرة تنجم من موق إحدى عينيه ثم من موق الأخرى فتتدحرجان من خديه إلى لحيته الطويلة وكنا نرى ذلك منه كل يوم ولا إخال أن أستاذنا كان يفهم معانى ما نتلوه من الذكر الحكيم وإنما كان جُلُّ ما يُبكيه كلَّ يوم عند تلاوتنا عليه تلك المحبةُ المتمكنةُ فِى قلبه لكتاب الله تعالى وما خلق الله فِى نفسه من التأثر والتلذذ به. وإنى إخال أستاذنا رحمه الله لو سمع الترجمة التركية التِى يُراد إحلالها مكان القرءان لسد أذنيه وَفَرَّ مِنْ سماع هذه البدعة ونفر قلبه منها نفور أوابد الوحش وكان بكاؤه حينئذ أسفًا على ما يُراد بالكتاب لا تلذذًا بما يتلى.

ثم إن مدار العبادة ليس تلذذَ العابد بها بل اكتسابَ رضَى المعبود والائتمارَ بأمره فكمال العبادة ونقصانها يوزن بكمال هذين الأمرين ونقصانهما فيه فالحَيْدَةُ عن قراءة القرءان إلى قراءة غيره من أىّ أحد بدعوَى أنه يفهمه أو يستلذ حيدَة عن محجة الأمر ومخالفة للآمر سبحانه وتعالى. وقد علم الله بعلمه الأزلِىّ أن لغة القرءان عربية وأن المسلمين شعوب مختلفة من عرب وعجم فلم يقل هذا للعرب وأما الأعاجم فلهم التراجم ولم يُسْمَع فِى عصر النبِىّ صلى الله عليه وسلم ولا فِى عصر الخلفاء الراشدين ولا باقِى الصحابة بعدهم ولا التابعين ولا أتباع التابعين ولا من بعدهم وهلم جرا اختيار التراجم لغير العرب ولا اختلاف المسلمين على القرءان.

والذين يتذرعون إلى ترويج التراجم من ناحية الاهتمام بفهم معنى ما يقرأه المصلى فِى صلاته ويقولون إنه يُنَاجِي ربه فيجدر به أن يفهم معنى ما يقول فِى مناجاته يذهب عليهم ويفوتهم أن الصلاة أمر بها الشارع ورتبها وعَيَّنَ ما يُقْرأ فيها وجعل انتفاع المصلى فيها ببركة قراءته للقرءان والتقرب إلى الله تعالى بكلامه لا بترجمته، ويذهب عليهم أن فِى قراءته بنصه المعجِزِ الإقرار بدليل النبوة والخضوع له والاحتفاظ به وهو دليلٌ بلفظه ومعناه وقد أنزله الله بنصه ليكون معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم فلا يجوز العدول عنه إلى ترجمته لأنها تذهب بإعجاز المعجزة وإذا ذهب إعجازها فماذا يبقى منها. هكذا تُقَدَّرُ الخسارة في الترجمة وتقاس بالفائدة المزعومة للعامي من فهم المعنى مع أننا لا نمنعه من هذا الفهم كما سبق بيانُه. وليست صلاة الإسلام مناجاةً مُرَتَّبَةً على عقليةِ أناسٍ مِن أمثال دعاة الترجمة ولو كانت كذلك لما أمر الله بقراءة القرءان فيها الذِى هو كلام الله وخطابه لعباده بل لأمر بقراءة كلامَ الـمُنَاجِى لفظًا ومعنى.

ثم إننا نقول من الذِى يُعهَد إليه على حسب زعمه بتصنيف ءايات القرءان من حيث إمكان ترجمتها وعدم إمكانها، ومن يكون صاحب الكلام الفصل فِى هذا التصنيف. وما المانع لو فتح هذا الباب من أن تتعدد التراجم وتختلف وتتضارب وتتناقض وفِى هذا فتح باب من الفساد لا يخفى.

كيف وقد قال فِى التجنيس ويُمْنَع من كتابة القرءان بالفارسية بالإجماع لأنّا أُمِرنا بحفظ النظم والمعنى فإنه دلالة على النبوة ولأنه ربما يؤدى إلى التهاون بأمر القرءان اهـ وفِى رسالة الشرنبلالِىّ المسماة بالنفحة القدسية فِى أحكام القراءة والكتابة بالفارسية نقل عن المحبوبىّ أن الخلاف على الرواية المرجوحة التِى رجع عنها الإمام إنما هو فِى مَن لا يُتهم بشىء وقد قرأ فِى الصلاة كلمة بالفارسية أو أكثر منها أما لو اعتاد قراءة القرءان أو كَتْبِ المصحف بالفارسية فإنه يُمنع أشد المنع حتى قال الفضلى من تعمد ذلك يكون زنديقًا أو مجنونًا والمجنون يُدَاوَى والزنديقُ يُقْتَل اهـ ثم قال الشرنبلالى وحاصل ما تقدم وملخصه حرمةُ كتابة القرءان بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية وتفسير كل حرف وترجمته اهـ

هكذا قالوا ولم ينظر فقهاء المذهب الحنفى فِى القدرة على فهم المعانى والعجز عنها ولا ذكروا للعاجز عن الفهم حكمًا خاصًا فِى الصلاة أو فِى خارج الصلاة.

وما يُروى عن الإمام أبى حنيفة من تجويز قراءة الكلمة والكلمتين والثلاث فِى الصلاة بالفارسية إن لم يعتد ذلك هو روايةٌ عنه رحمه الله نص علماء مذهبه على رجوعه عنها بل إنّه رضي الله عنه لم يقصد بالجواز فِى تلك الرواية الحلَّ بل قصد الصحةَ ولذلك قال فِى النهاية حاصل الخلاف أن أبا حنيفة يُجَوِّزُ ويَكْره اهـ وأما الشافعىّ والأئمة الثلاثة الآخرون فلا يختلفون فِى عدم صحة صلاة من يقرأ شيئًا من الكتاب بالفارسية وهذا كله فِى حق القراءة وأما كتابة المصحف بالفارسية عند فقهاء المذهب الحنفِىّ فهِى ممنوعة بالإجماع أشدَّ المنع إن كان مستقلًا ومجردًا عن النص العربِىّ، وأما مع النص العربِىّ فعلى الخلاف منهم مَنْ مَنَع ومنهم من أجاز ونظرهم فِى ذلك على اختلاف ءَارائِهِمْ متوجه إلى عدم الإخلال بحفظ القرءان لأنَّا مأمورون بحفظ اللفظ والمعنى لكونه دليل النبوة فمن منع كتابة المصحف بالفارسية وأطلق فِآ المنع أراد ألا تكون الكتابة بالفارسية مؤدية إلى الإخلال بحفظ الأصل ومؤدية إلى التهاون بأمره ومن أجاز واشترط كتابة الأصل العربىّ مع الترجمة أراد ذلك أيضًا.

ونحن لا نطمع فِى تعريب لغة المسلمين كلهم ولا فِى تصييرهم علماءَ واصلين إلى رتبة الاجتهاد والاستنباط من القرءان العربىّ بل الحاجة لا تدعو إلى أن يكون كل المسلمين كذلك وإنما يكفى أن يكونوا مسلمين مخلصين مطيعين وأن يتعلموا ما يحتاجون لقراءته فِى الصلاة وجوبًا وأن يتعلموا ما يقرؤونه زيادة على ذلك تنفُّلا وليس هذا من تعريب الأقوام في شىْءٍ ولا هو من طلب ما تحيله العادات، كما ننتظر أيضًا من كل قوم منهم أن تنفر طائفة ليتفقوا فِى الدين وينذروا قومهم كما وقع فِى قرون الإسلام الماضية. وأما من أراد أن يكون عالـمًا مجتهدًا قادرًا على استنباط الأحكام من القرءان والسنة فلا بد له من التشمير وشد المِئْزَر وتَعَلُّمِ لغةِ القرءان لأن رتبة الاجتهاد لا تُنَال بلا تعب.

وأما الحالمون المبتعدون عن الخير والدين وأحكام الشرع ومعرفة الأمور على حقائقها فهم الذين يريدون أن يُصَيِّرُوا الناسَ جميعًا من غير العرب مجتهدين بواسطة التراجم وهِى مرتبة لم يصل إليها الغالبية الساحقة من العرب فكيف غيرهم.

ومن أظهر ما يَظهر منه سخافةُ الداعين إلى الترجمة الحرفية للقرءان وسخافةُ اعتقادهم بتجويز الاجتهاد بواسطة هذه التراجم أن العهود التِى تقع بين حكومات الدول المختلفة ويقع اتفاق الطرفين المتعاهدين على موادِّها فِى لغة من اللغات ويوقعان عليها إنما تكون حجة ملزمة عندهم بنصِّها فِى تلك اللغة ولا يُقْبَل عندهم الاحتجاج بتراجمها ولا إحلالها محلَّ الأصل ولا الاستدلالُ بها أفيكون هذا الاحتياط والتحجير فِى كلام البشر ويُجْعَلُ كلام الله تعالى أقل مرتبة وأدْوَنَ اهتمامًا سبحانك اللهم إنَّ هذا لبهتانٌ عظيمٌ.

والله تعالى أعلم

 


[١] ومما يدل على ما ذكره الشيخ مصطفى رحمه الله أن عوام العرب وغير العرب متساوون فِى ذلك بل ما أكثر ما يجهل عوام العرب معناه من ءايات القرءان فهل يريد دعاة الترجمة منعهم من قراءتها لأجل تلك العلة إذا قالوا نعم فيا لَفضيحتهم وإذا قالوا لا انتقض أصلهم وما استندوا إليه. المنتصر بالله.