مطلب فى إبطال اعتذار العاصِى بالقدر[١]

قبسات من فوائد المحدث الفقيه
الشيخ سلامه القضاعِىّ العزمِىّ الشافعِىّ
المتوفى سنة ١٣٧٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وبعد فقد أوجز وأعجز رسول الله صلى الله عليه وسلم فِى بيان هذه المسألة أى مسألة الاحتجاج بالقدر حيث قال (المؤمن القوِىّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفِى كل خيرٍ احرصْ على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِزْ وإذا فاتَكَ شَىْءٌ فَقُلْ قَدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ ولا تَقُلْ لَوْ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطانِ) أخرجه مسلم وغيره وأخرجه البخارِىّ فى صحيحه مرفوعًا (سدِّدُوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يُدْخِلَ أحدًا الجنةَ عملُهُ قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدنِى اللهُ بفضلٍ منه ورحمةٍ) ولما قيل له صلى الله عليه وسلم أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال (لا اعملوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له).

ورضِى الله عن هؤلاء الأصحاب الكرام ما أغزرهم فقهًا وأعمقهم علمًا فقد قال قائلهم حين سمعوا هذا ما كنا إذ سمعنا هذا الحديث بأشد اجتهادًا منا قبل أن نسمعه. فهكذا يكون الفقه فى الدين فإنَّ من علم أن أخذه فى الطاعة ومواظبته عليها علامة أنه سبقت له من الله الحُسنَى لم يدخر وسعًا فى التمسك بها ولم يأل جهدًا فى البعد عما ينافيها ومن تيقن أن أسباب الخيرات هِى من القدر سارع إليها. وقد ثبت أن قائلًا قال يا رسول الله أليس المرض من قدر الله قال بلى قال ففيم الدواء فقال عليه الصلاة والسلام (الدواء من قدر الله) فالكسل عما وضع الله من السنن احتجاجًا بالقدر جهل بما يقتضيه اعتقادُ القدرِ وفهمُهُ كما ينبغِى، والتهالكُ على الأسباب بدون اعتمادٍ على خالقها وخالقِ مُسَبَّبَاتِهَا مالكِ الأمر كله ضعفٌ فى اليقين وتباعدٌ عما يقتضيه العلم بجلال العزيز الحكيم.

وبعدُ فالمسألة طويلة الذيل بعيدة الغَوْر والذِى أنصح به لكل مؤمن أن يعلم أن القدر سابقٌ وأن ما كُتِبَ له أو عليه غيرُ معلوم له وأن أسباب الخير والشر فى الدنيا والآخرة قد أرشده الله إليها وأعلمه بها على لسان الرسول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام وما وضعه فى العقول وأنَّ الخير قُضِىَ بسببه والشر يَجِىءُ بطريقه فَلْيُشَمِّرْ فى السَّعْىِ فى طرق الخير التِى أُمِرَ بها وَلْيَتَبَاعَدْ عن سبل الشر التِى نهَى عنها معتمدًا فِى إنجاح مساعيه كلها على فضل الله وَجُودِهِ وهو سبحانه لا يُخَيّبُ أَمَلَ ءَامِلٍ ولا يردُّ دعاء سائل وإذا وُفِّقَ لطاعةٍ فَلْيُذَكِّرْ نفسَهُ بأن الفضل كله لله حتى يزيلَ نور هذا الإيمان ظلمات ما عسَى أن تتدنس به النفس من حجب بعمل أو مَنٍّ به وليكرر هذه الذكرَى حتى يُطفئ ماؤها العذبُ نيران هذه الرعونات النفسانية، وإذا وقعت منه معصية فليذكر قصوره وتقصيره وليعترف لربه من صميم قلبه بأنه مُسِىءٌ غالط وَلْيُسَارِعْ إلى الَمتَابِ ولا يحتجَّ لنفسه بما سبق من قدر رَبّهِ فإنَّ حسن الاعتذار للواحد الغفار وسرعة المتاب من الأوزار هو سبيل المصطفين الأخيار من النبيين والصديقين وأهل البصائر أجمعين.

انظر إلى نبِىّ الله أبِى البشرِ ءَادَمَ عليه الصلاة والسلام حين قال الله له ولزوجه (ألم أَنْهَكُمَا) هل احتجا لأنفسهما حاشاهما بل قالا (ربنا ظلمنا أنفسنا) الآية.  وقال رسول الله نوح عليه الصلاة والسلام (ربّ اغفر لِى ولوالدَىّ) وقال الخليل صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ) وقال الكليم (رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى) وصحّ عن سيد المرسلين عليه وعلى ءاله الصلاة والسلام (يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه فو الله إنِى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم سبعين وفى رواية أكثر من سبعين مرة) وقال الصديق الأكبر أبو بكر رضِى الله عنه يا رسول الله علمنِى دعاء أدعو به فى صلاتِى فقال عليه الصلاة والسلام (قل اللهم إنِّى ظلمت نفسِى ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لِى مغفرة من عندك وارحمنِى إنك أنت الغفور الرحيم) أخرجه البخارِىّ. ومَنِ الناسُ إلا هؤلاء السادة. ففيهم للمؤمن خير أسوة.  أما التمسح بالقدر عند المعصية فهو طريق إبليس ألا تراه قال (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى) الآية.

فإن قلت أليس قد احتجَّ أبونا ءادم بالقدر حينَ لامه الكليمُ كما أخرجَهُ البخارِىّ قلنا بلى ولكن كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام فى دار التشريف لا فى دار التكليف وبَعْدَ صِدْقِ المَتَابِ والاعتراف للملك الوهّاب لامع الاصرار على مخالفة الواحد القهار، والأديب اللبيب يعطِى كل مقام حقّه. وللكلام بسط ليس هذا موضعه.

ولا يظنَنّ ظانٌّ أن اعترافَهُ بذنبه لمولاه وتوبتَهُ إليه مع سبقِ قدره سبحانه هو محضُ مجاملةٍ منه لربِّه وإنما هو الحقّ الذِى يجب أن يعترف به لمولاه من صميم فؤاده فإنه رفع المؤاخذة عن عبده حين يكون العبد لا دخل له فى الذنب كأن كان مجنونًا أو مكرهًا أو لا يزال فى ضعف الصبا لم يبلغ الحِنْث ألا تراهم أجمعوا على أنَّ شروط التكليف البلوغ والعقل وأن شرط المؤاخذة الاختيار، أما وقد أعطاه الشعور وخلق فيه الإرادة والقدرة وأعطاه المكنة والاستطاعة وعرفه كيف الاحتيال لدفع الشرّ والامتناع من الشيطان فقصر فيما أمر فقد توجهت عليه المسؤولية وقد فتح له باب المتاب ووعده بالمغفرة عند الاستغفار فإذا أطاع هواه ولم يفعل فلا يلومَنّ إلا نفسه.

فإن قلتَ ألا جعل الكلَّ موفقين قلنا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وإذا قلت فى المخلوقين ما على المحسنين من سبيل أفلا يكون ذلك منك فى خالقك أولَى وبك أحرَى، ولله أسرارٌ فى تقسيم الخَلْقِ إلى ما انقسموا إليه من طائعٍ وعاصٍ ومؤمنٍ وكافرٍ وغنِىٍّ وفقيرٍ وصحيحٍ ومريضٍ وعزيزٍ وذليلٍ ورُعاةٍ ورعايا إلى غير ذلك لا يحيط بها إلا هو جَلَّ جلاله ولو انكشف بعضها فضلًا عن جميعها لعلم من كوشف أن الحقَّ كُلَّهُ لله، وضَلَّ عنه كلُّ ما يحتجُّ به لنفسه ولكن دون أسرار القدر حُجُبٌ فَتُبْ مستبصرًا وسَلِّمْ لربّك مخلصًا وخذ حِذْرَكَ مما يُغضبه واتهمْ عقلك فيما يحاوله فمقامُ الألوهية فِى اتساع العلم وعلو الحكمة وكمال القدس وإحاطة الرحمة أَجَلُّ من أن تحيط بمبادئِ كماله العقول الكبرَى وإن اتّسعتْ ولهذا اخْتُصِرَ لنا الطريقُ وقيل لنا (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ولا تسمح هذه العجالة بأكثر من ذلك.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب فُرقانُ القرءانِ بين صفاتِ الخالقِ وصفاتِ الأكوانِالشيخ سلامه القضاعِىّ العزمِىّ الشافعِىّ رحمه الله تعالى.