من أحوال القبور[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ سمير بن سامى القاضِى حفظه الله

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصبحه وسلم. أما بعد فقد رأيت جمع فصل مختصر فى ثبوتِ حياةِ الأنبياء فى قبورِهِم، وصَلاتهم فيها، وتحدّثهم بعضِهم إلى بعضٍ بعد الموت، ومُذاكرتهم العلمَ، وعرضِ صلاةِ من يُصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم عليه، وعرضِ أعمالِ أُمته عليه، وثبوتِ صلاةِ بعضِ سلفِ هذه الأُمَّةِ فى قبره، وقراءةِ بعضِهِمْ للقرءانِ، وتكليمِ بعضِهِمْ لِمَنْ كانَ قربَ قبره، وما جاء فى ردّ الميتِ السلامَ على من سلَّمَ عليه عند قبرِهِ، وفى ردّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم السلامَ على من سلّمَ عليه وفى جواز رؤيته يقظةً بعد موته وفِى سماعِ صوتِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ من قبرِهِ الشريفِ ومخاطبتِهِ بعد موتِهِ والطلبِ منه.

قال الحافظ جلال الدين السيوطىّ فى كتابه «الشرف المُحَتَّم» ما نصُّهُ إنّ حياة النبىّ صلى الله عليه وسلم هو وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا قطعيًّا لما قام عندنا من الأدلة فى ذلك وقام بذلك البرهانُ وصحتِ الرواياتُ وتواترتِ الأخبارُ اهـ ثم قال ولا يَخفى أنّ الله جمع لنبيّنا وسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم مرتبةَ النبوةِ والشهادةِ بدليل ما أخرجه البخارىّ والبيهقىّ عن عائشةَ رضىَ اللهُ عنها أنّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول فى مرضه الذى تُوُفِّىَ فيه ما أزالُ أجدُ ألَمَ الطعامِ الذى أكلتُ بخيبرٍ فهذا أوانُ وجدتُ انقطاعَ أَبْهَرِى من ذلك السُّمّ[٢] اهـ فثبَتَ كونُهُ عليه الصلاة والسلام حيًّا بنصّ قولِهِ تعالى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *}[٣] والأنبياءُ أولى بذلك من الشهداء ونبيُّنا أولى من جميع الأنبياء عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُهُ أجمعين لِما مَنَّ اللهُ عليه به من المعالِى الفائقةِ والخصائصِ الزكيةِ. وقد أفرد الرجالُ الأثباتُ حياةَ الأنبياءِ جميعًا[٤]، وقد رأى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم جماعةً منهم وأنَّهُمْ فى الصلاة وأخبرَ وخبرُهُ صدقٌ أنَّ صلاتَنا معروضةٌ عليه وأنّ سلامَنَا يبلغه وأنه يرُدُّ على من يُسَلّمُ عليه السلامَ. وسُئل البارِزِىُّ[٥] عن النبىّ صلى الله عليه وسلم هل هو حىّ بعد وفاته فأجاب إنه حىٌّ. وكان سعيدُ ابنُ المُسَيَّبِ رضىَ الله عنه أيامَ الحَرَّةِ لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمةٍ يسمعُها من قبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجَ الزبيرُ بن بَكَّارٍ فى «أخبار المدينة» عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ قال لم أزلْ أسمعُ الأذانَ والإقامة فى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامَ الحَرَّةِ حتى عادَ الناسُ اهـ

وروى الحافظ أبى يَعْلَى أحمدَ بنِ علىّ التميمىّ المَوْصِلِىّ فى مسنده[٦] عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنبياءُ أحياءٌ فى قبورهم يُصَلُّون اهـ صحَّحَهُ الحافظُ البيهقىُّ فى جزء «حياة الأنبياء»[٧] وحَكَمَ الحافظُ بقوته فى «الفتح»[٨].

وروى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى صحيحه[٩] عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَتَيْتُ وفى روايةِ هدّابٍ مَرَرْتُ على موسى ليلةَ أُسْرِىَ بِى عند الكَثيبِ الأحمر وهو قائمٌ يُصَلّى فى قبره اهـ

وفى كتاب حِلية الأولياء[١٠] لأبى نعيم عن ابن عباسٍ رضىَ الله عنهما أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر موسى عليه الصلاة والسلام وهو قائم يُصَلّى فيه اهـ

وفى صحيح مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال أُتِيتُ بالبُراقِ وهو دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ اهـ الحديثَ وفيه أنه لَقِىَ فى السماوات مِنَ الأنبياء ءادمَ وعيسى ويحيى ويوسفَ وإدريسَ وهارونَ وموسى وإبراهيمَ وكلَّمُوه ودَعَوْا له بخير وقال له موسى أن يطلب من ربه التخفيف عن أمته فخُفِّفَتِ الصلواتُ المفروضاتُ بسبب ذلك من خمسين إلى خمسٍ اهـ وكلُّ ذلك كان بعد وفاة أكثرهم.

وفى المستدرك[١١] للحاكم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال لمّا أُسرى ليلةَ أُسرِىَ بالنبىّ صلى الله عليه وسلم لقىَ إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعةَ فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها عِلْمٌ ثم موسى فلم يكن عنده منها عِلْمٌ فتراجعوا الحديث إلى عيسى فقال عيسى عَهِدَ اللهُ إلىَّ فى ما دونَ وَجْبَتِها[١٢] فلا أعلمها قال فذكر من خروج الدجال فَأَهْبِطُ فأقتُلُهُ ويرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوجُ ومأجوجُ وهم من كلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فلا يمرون بماءٍ إلا شربوه ولا يمرون بشىءٍ إلا أفسدوه فَيَجْأرون إلى الله فيدعون الله فيميتهم فتجأر الأرض إلى الله من ريحهم ويجأرون إِلَىَّ فأدعو الله فيُرسل السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها فى البحر ثم تُنسفُ الجبالُ وتُمَدُّ الأرضُ مَدَّ الأديمِ فعَهِدَ اللهُ إلىَّ إذا كان ذلك فإنّ الساعةَ من الناس كالحامل المُتِمّ لا يَدرِى أهلُها متى تَفْجُؤُهُمْ بولادتها ليلاً أو نهارًا قال عبد الله بن مسعود فوجدتُ تصديق ذلك فى كتاب الله عزّ وجلّ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ *وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ *} قال وجميع الناس من كلّ مكان جاءوا منه يوم القيامة فهو حَدَبٌ اهـ قال الحاكم هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه[١٣] اهـ ووافقه الذهبىُّ على تصحيحه فى «التلخيص».

وفى صحيح البخارىّ[١٤] أنّ أبا هريرة رضىَ الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجّ ءادم وموسى فقال له موسى أنت ءادمُ الذى أخرجَتْكَ خطيئتُكَ من الجنة فقال له ءادم أنت موسى الذى اصطفاك برسالاته وبكلامه ثم تلومُنى على أمرٍ قُدّرَ علىَّ قبل أن أُخْلَقَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجَّ ءادمُ موسى مرَّتين اهـ أى كرَّرَ قولَهُ صلى الله عليه وسلم مرَّتينِ.

وفى سنن أبى داود[١٥] عن أوسِ بنِ أوسٍ رضىَ الله عنه قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنّ مِنْ أفضلِ أيامِكُمْ يومَ الجمعةِ فيه خُلِقَ ءادمُ وفيه قُبِضَ وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثِرُوا علىَّ من الصلاةِ فيه فإنَّ صلاتَكُمْ معروضةٌ عَلَىَّ قال قالوا يا رسولَ اللهِ وكيف تُعْرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أَرَمْتَ يقولون بَلِيتَ فقال إنّ الله عزّ وجلّ حَرَّمَ على الأرض أجسادَ الأنبياء اهـ صحَّحَهُ الحافظُ ابنُ خُزيمة وغيرُهُ[١٦].

وفى سنن[١٧] وبالإسناد الإمام أبى داودَ سليمانَ بنِ الأشعث أيضًا عن أبِى هريرةَ رضى الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورًا اهـ الحديثَ وفيه وصَلُّوا علىَّ فإنّ صلاتَكُمْ تَبْلُغُنِى حيثُ كُنْتُمْ اهـ صحَّحَهُ الحافظُ ابنُ حجرٍ فى «فتح البارئ»[١٨].

وفى كتاب شُعَب الإيمان[١٩] للحافظ أحمدَ بنِ الحسينِ البيهقىّ عن أبى هريرةَ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال من صَلَّى عَلَىَّ عند قبرِى سمعتُهُ ومن صَلَّى علىّ نائيًا أُبْلِغْتُهُ اهـ قال الحافظ ورواه أبو الشيخ فى كتاب الثواب له وإسناده جيد[٢٠] اهـ ولفظ رواية أبِى الشيخِ عن أبى هريرةَ عند السيوطىّ فى الجامع الكبير[٢١] مَنْ صلَّى علىَّ عند قبرِى سمعتُهُ ومن صَلَّى علىَّ من بعيدٍ عَلِمْتُهُ اهـ

وفى مسند البزار[٢٢] عن عبد الله ابن السـائب عن زاذانَ عن عبد الله عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال إنّ لله ملائكةً سَيَّاحين يُبْلِغُوننِي عن أُمَّتى السلامَ اهـ قال وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حياتِى خيرٌ لكم تُحدِثُون ويُحدَثُ لكم ومماتِى خيرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىَّ أعمالُكُمْ فما رأيتُ من خيرٍ حَمِدْتُ اللهَ عليهِ وما رأيتُ من شرّ استغفرتُ اللهَ لكم اهـ قال الحافظُ الهيثمىُّ[٢٣] رجالُهُ رجالُ الصحيحِ اهـ

وفى الحِلية[٢٤] للحافظ أبى نعيم عن يوسف بن عطيةَ قال سمعتُ ثابتًا يقول لِحُمَيْدٍ الطويلِ هل بلغك يا أبا عُبيدٍ أنّ أحدًا يصلِّى فى قبره إلا الأنبياء قال لا قال ثابتٌ اللهمَّ إنْ أذنتَ لأحدٍ أن يُصَلِىَ فى قبره فأْذَنْ لثابتٍ أن يصلىَ فى قبره قال وكان ثابتٌ يُصَلّى قائمًا حتى يَعْيَى فإذا أَعْيَى جلسَ فيُصَلِى وهو جالسٌ ويَحْتَبِى فى قعوده ويقرأ فإذا أراد أن يسجد وهو جالس فتح حَبْوَتَهُ اهـ

وفى حلية أبى نعيم أيضًا عن شـيبان بن جُبير عن أبيه قال أنا واللهِ الذى لا إلـه إلا هو أدخلتُ ثابتًا البُنانىَّ لَحْدَهُ ومعى حُمَيْدٌ الطويلُ أو رجلٌ غيرُهُ شكَّ محمدٌ قال فلما سَوَّيْنا عليه اللَّبِنَ سقطتْ لَبِنَةٌ فإذا أنا به يُصَلِى فى قبره فقلتُ للذى معى ألا ترى قال اسْكُتْ فلمَّا سوَّيْنا عليه وفَرَغْنَا أَتَيْنا ابنتَهُ فقلنا لها ما كان عمل أبيك ثابتٍ فقالت وما رأيتم فأخبرناها فقالت كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السَّحَرُ قال فى دعائه اللهمّ إن كنتَ أعطيتَ أحدًا من خلقك الصلاةَ فى قبره فأَعْطِنِيها فما كان اللهُ لِيَرُدَّ ذلك الدعاءَ اهـ

وفى حلية ابى نعيم أيضًا عن إبراهيم الدَّوْرَقِىّ قال حدثنى محمد بن مالك العنبرىّ[٢٥] قال ثنا محمد ابن عبد الله الأنصارىُّ قال حدثنى إبراهيمُ بن الصِمَّةِ المُهَلَّبِىّ حدثنى الذين كانوا يمرون بالحَفَر[٢٦] بالأسحار قالوا كنا إذا مَرَرْنا بِجَنَباتِ قبرِ ثابتٍ البُنانىّ سمعنا قراءةَ القرءانِ اهـ

وفى سُنن الترمذىّ[٢٧] عن ابن عباس رضى الله عنهما قال ضربَ بعضُ أصحابِ النبىّ صلى الله عليه وسلم خِبَاءً على قبرٍ ولا يَحْسِبُ أنه قبرٌ فإذا هو فيه بإنسانٍ يقرأُ سورةَ تباركَ الذِى بيدِهِ المُلْكُ حتى ختمها فأتَى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال ضربتُ خِبَائِى على قبرٍ وأنا لا أحسِب أنه قبرٌ فإذا إنسان يقرأ سـورةَ تباركَ حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هِىَ المانعةُ هِىَ المُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ من عذاب القبر اهـ حسَّنَهُ الحافظُ السيوطىُّ فى «الجامع الصغير»[٢٨].

وفى «تاريخ بغدادَ»[٢٩] للخطيب البغدادىّ عن أبى هريرة رضىَ الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من عبدٍ يمرُّ بقبرِ رجلٍ كان يعرفُهُ فى الدنيا فيسلمُ عليه إلا عَرَفَهُ وردَّ عليه السلامَ اهـ صحَّحه الحافظُ عبدُ الحقّ الإشبيلىُّ[٣٠] ونقل[٣١] المُنَاوِىُّ عن الحافظِ العراقىّ أنّ ابن عبد البرّ خرّجه فى «التمهيد» و«الاستذكار» بإسنادٍ صحيحٍ من حديث ابن عباس اهـ قلت إسناد الحافظ أبى عمرَ بنِ عبد البَرّ فى كتاب «الاستذكار»[٣٢] هو أخبرنا أبو عبد الله عبيدُ بن محمد قراءةً منى عليه سنة تسعين وثلاثمائة فى ربيع الأول قال أَمْلَتْ علينا فاطمةُ بنتُ الريّانِ المستملِى فى دارها بمصرَ فى شوالٍ سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة قالت حدثنا الربيع بن سليمان المؤذّنُ صاحبُ الشافعىّ قال حدثنا بشر بن بُكيرٍ عن الأوزاعىّ عن عطاءٍ عن عُبيدِ بن عُميرٍ عن ابن عباسٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحدٍ مرَّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فسلَّم عليه إلا عرفه وردَّ عليه السلام اهـ

وعند أبى داودَ فى «سننه»[٣٣] عن أبى هريرةَ رضىَ اللهُ عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحدٍ يسلِّمُ علىَّ إلا ردَّ اللهُ علىَّ رُوحِى حتى أَرُدَّ عليه السلام اهـ قال الحافظُ رواتُهُ ثقاتٌ[٣٤] اهـ والمعنى أنّ الله تعالى قد رَدَّ عليه روحَهُ فى قبره عليه الصلاة والسلام عقب دفنه فيردُّ السلامَ لذلك على من يُسَلّمُ عليه.

وعند الحاكم[٣٥] رحمه الله تعالى فى مستدركه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهبطنَّ عيسى بن مريم حكمًا عدلاً وإمامًا مقسطًا وليسلكنَّ فجًّا حاجًّا أو معتمرًا أو بِنِيَّتهِمَا وليأتينَّ قبرِى حتى يسلم ولأردنَّ عليه يقول أبو هريرة أى بنِى أخِى إن رأيتموه فقولوا أبو هريرة يقرئك السلام. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة اهـ ووافقه الذهبىُّ على صحته.

ولا مانع عند أهلِ السنةِ من جوازِ رؤيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقظةً بعد وفاته. نقل المحدث الشيخ أبو الفضل عبد الله بن محمد الغمارىُّ[٣٦] عن الإمام أبِى محمد بن أبى جمرة فِى شرحه للأحاديث التى اختصرها من البخارىّ عند ذكره لحديث من رءانِى فى المنام فسيرانِى فى اليقظة قال هذا الحديثُ يدلُّ على أن من رءاه فى النوم فسيراه فى اليقظة هل هذا على عمومه فى حياته وبعد مماته أو هذا كان فى حياته وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته عليه السلام، اللفظُ يُعطِى العمومَ ومَنْ يدعِى الخصوصَ فيه بغيرِ مخصّصٍ منه صلى الله عليه وسلم فمتعسفٌ اهـ

قال الحافظ السيوطىُّ وقوله إن ذلك عام وليس بخاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته عليه السلام مرادُهُ وقوعُ الرؤية الموعود بها فى اليقظة على الرؤية فى المنام ولو مرة واحدة تحقيقًا لوعده الشريف الذى لا يخلف وأكثر ما يقع ذلك للعامة قبل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روحه حتى يراه وفاءً بوعده وأما غيرهم فتحصل لهم الرؤية فى طول حياتهم إما كثيرًا وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، والإخلالُ بالسنةِ مانعٌ كبيرٌ اهـ

وقال ابن الحاج فى المدخل رؤية النبىّ صلى الله عليه وسلم فى اليقظة باب ضيقٌ وقَلَّ من يقع له إلا مَنْ كان على صفةٍ عزيزٌ وجودُها فى هذا الزمان بل عدمت غالبًا مع أننا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله فى ظواهرهم وبواطنهم اهـ

وقال القاضى شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم البارزىُّ فى كتاب توثيق عرى الإيمان وقد سُمِعَ من جماعة من الأولياء فى زماننا وقبله أنهم رأوا النبى صلى الله عليه وسلم فى اليقظة وقد ذكره الإمام شيخ الإسلام أبو البيان نبأ ابن محمد بن محفوظ الدمشقى فى نظميته اهـ

ونقل الشيخ صفىُّ الدين بن أبى المنصور فى رسالته والشيخ عفيف الدين اليافعىُّ فى روض الرياحين عن الشيخ الكبير قدوة العارفين أبى عبد الله القرشىّ أنه قال لما جاء الغلاء الكبير إلى ديار مصر توجهتُ لأن أدعو فقيل لى لا تدعُ فما يُسمَعُ لأحد منكم فى هذا الأمر دعاء فسافرتُ إلى الشام فلما وصلتُ إلى قريبِ ضريحِ الخليلِ عليه السلام تلقانى الخليلُ فقلتُ يا رسول الله اجعل ضيافتى عندك الدعاء لأهل مصر فدعا لهم ففرج الله عنهم. قال اليافعىُّ قوله تلقانِى الخليلُ قول حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التى يشاهدون فيها ملكوت السماء والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبىُّ صلى الله عليه وسلم إلى موسى عليه السلام فى الأرض ونظره أيضًا هو وجماعةً من الأنبياء فى السموات وسمع منهم مخاطبات وقد تقرر أن ما جاء للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدى اهـ

قال الشيخ صفىُّ الدينِ بنُ أبِى المنصور فى رسالته رأيت الشيخ الجليل الكبير أبا عبد الله القرطبىَّ أجلَّ أصحاب الشيخ القرشىّ وكان أكثر إقامته بالمدينة النبوية وكان له بالنبىّ صلى الله عليه وسلم وصلة وأجوبة ورد للسلام. حمَّله رسول الله صلى الله عليه وسلمرسالة للملك الكامل وتوجه بها إلى مصر وأداها وعاد إلى المدينة اهـ

وفى تاريخ الحافظ محب الدين محمد بن محمد بن النجار قال أخبرنِى أبو أحمد داود بن على بن محمد بن هبة الله بن المسلمة أنا أبو الفرج المبارك بن عبد الله بن محمد بن النُّقور قال حكى شيخنا أبو نصر عبد الواحد بن عبد الملك بن محمد بن أبى سعد الصوفى الكرخى قال حججت وزرتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فبينا أنا جالس عند الحجرة إذ دخل الشيخ أبو بكر الدياربكرىُّ ووقف بإزاء وجه النبىّ صلى الله عليه وسلم وقال السلام عليك يا رسول الله فسمعت صوتًا من داخل الحجرة وعليك السلام يا أبا بكر إلخ اهـ

وبالإسناد المتقدم إلى الحافظ السيوطىّ[٣٧] أنَّ الشيخ شمس الدين محمدًا المزالِىّ[٣٨] فى كتاب مصباح الظلام فى المستغيثين بخير الأنام قال[٣٩] سمعت يوسف بن علىّ الزَّنَاتِىّ يَحْكِى عن امرأةٍ هاشميةٍ كانت مجاوِرَةً بالمدينة وكان بعض الخدام يؤذيها قالت فاستغثت بالنبى صلى الله عليه وسلم فسمعت قائلا من الروضة يقول أما لك فىّ أسوة فاصبرِى كما صبرتُ أو نحو هذا قالت فزال عَنّى ما كنتُ فيه ومات الخدّامُ الثلاثة الذين كانوا يؤذوننى اهـ

وذكر الشيخ برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعىّ فى معجمه[٤٠] أنَّ[٤١] الإمام أبا الفضل بن أبِى الفضل النويرىّ حكى عن السيد نور الدين الإيجىّ أنَّ والده الشريف عفيف الدين ورد الروضة الشريفة وقال السلام عليك أيها النبىُّ ورحمة الله وبركاته ردَّ عليه صوتٌ من القبر الشريف وعليك السلام يا ولدِى اهـ

وأخبرنِى شيخِى عبد الله بن محمد الهررىّ رحمه الله تعالى أنَّ والد الشيخ أبى سليمان سهيلٍ الزبيبىّ الدمشقىّ كان له مالٌ فى ذمة شخص فلسطينىّ لم يعطه إياه فقصد بلدة الخليل وزار قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام ولم يكن فى المقام أحدٌ فخرج شخصٌ من القبر وعمل له بيده إشارة ثلاثة فجاء التاجر الذى فى ذمته المال إليه بعد ثلاثة أيام فأعطاه حقَّه اهـ

وروى الحافظ أبو القاسم هبةُ اللهِ بنُ الحسنِ بنِ منصورٍ الطبرىُّ الشافعىُّ المعروف باللالَكَائىّ قال حدَّثنا أحمد بن عبيدٍ قال أنا محمد بن الحسين قال ثنا أحمد بن زهيرٍ قال ثنا محمد ابن سليمان لُوَيْنٌ قال ثنا عبد الحميد بن سليمان عن أبى حازمٍ عن سعيد بن المسيّب قال لقد رَأَيْتُنِى فى ليالِى الحَرَّة وما فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ غيرِى وما يأتِى وقتُ صلاةٍ إلا سمعتُ الأذانَ من القبرِ ثُمَّ أُقيمُ فأُصَلّى وإنّ أهلَ الشامِ ليدخلون المسجدَ زُمَرًا فيقولونَ انظروا إلى هذا الشيخِ المجنونِ اهـ

ورَوَى الإمام الحافظ الثقة الكبير أبو عوانة يعقوب بن إسحق الأسفراينىّ فى مسنده قال أخبرنا مروان بن محمد عن سعيد بن عبد العزيز قال لما كان أيام الحرة لم يؤذن فى مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ولم يُقَمْ ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبىّ صلى الله عليه وسلم فذكر معناه اهـ

بعد هذا فلا مانع من مخاطبة النبىّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاتِهِ والطلبِ والاستمدادِ منه أو من أولياء الله الصالحين، وللشيخ بهاء الدين الرواس والشيخ محمد عابد السندىّ وغيرِهِما من مشايخِ أهلِ السنةِ بحوثٌ رائقةٌ فى هذا المعنى أُلَخّصُها إن شاء المولى عزَّ وجلَّ فأقول إن قُدّرَ المنعُ لإنكارِ أن للميت شعورًا وسماعًا فيُجاب عليه بأنه قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة ما يقتضِى ذلك كحديث ابن عباس عن الرجل الذى ضربَ خيمةً على قبر وقد تقدَّمَ وحديثِ البخارىّ عن أبى سعيد الخدرىّ رضىَ الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال إذا وُضِعَتِ الجنازةُ واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قَدّمونِى وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها يَسمع صوتَها كلُّ شىءٍ إلا الإنسانَ ولو سمعه صعق اهـ وكحديث أنس الذى أخرجه البخارىّ فى صحيحه[٤٢] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيُقْعدانه اهـ الحديثَ وما رواه مسلم بن الحجاج فى صحيحه[٤٣] عن أبِى هريرة أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون اهـ والخطابُ مع من لا يُرجى سماعه ولا فهمه عبث تصان عنه الشرائع المنزلة ويتنَزَّهُ عنه الأنبياءُ المرسلون.

بل قد ثبت فى حقّ الموتى ما هو فوق سماع كلامهم وهو عودُهم إلى الحياة قبل الدفن وكلامُهم وقراءةُ القرءان منهم أما العود إلى الحياة والكلام فكثيرٌ حتى صنف الحافظ عبد الله بن محمد المعروف بابن أبى الدنيا القرشى كتابًا خاصًّا بذلك سماه «من عاش بعد الموت» قال فيه[٤٤] أخبرنا محمد بن حماد الرازىُّ قال سمعت هشام بن عبد الله عن روح بن عطاء الأنصارىّ ذكر أبى عن أنس قال لما مات زيد بن خارجة تنافستِ الأنصار فى غسله حتى كاد يكون بينهم شىءٌ ثم استقام رأيهم على أن يغسلَهُ الغَسَلَةُ الغسلتين الأوليين ثم يَدخلُ من كل فخذٍ سيدُها فيصب عليه الماء صبةً فى الثالثة فأُدخلتُ أنا فيمن دخل فلما ذهبنا نَصُبُّ عليه تكلم فقال مضت اثنتان وغَبَرَ أربعة فأكلَ غنيُّهُم فقيرَهم فانفضُّوا فلا نظام لهم أبو بكر لين رحيم بالمؤمنين شديد على الكفار لا يخاف فى الله لومة لائم وعمر لين رحيم بالمؤمنين شديد على الكفار لا يخاف فى الله لومة لائم وعثمان لين رحيم بالمؤمنين وأنتم على منهاج عثمان فاسمعوا وأطيعوا ثم خَفَتَ فإذا اللسان يتحرك وإذا الجسد ميت اهـ ورَوَى ذلك[٤٥] من أكثرَ من وجهٍ عن النعمان بن بشير رضى الله عنه أيضًا اهـ

وروى إلى الحافظ ابنُ أبى الدنيا أيضًا[٤٦] عن عبد الله بن عبيد الله الأنصارىّ أن رجلاً من قتلى مسيلمة تكلم فقال محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق عثمان اللين الرحيم اهـ وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهانِىّ فى معرفة الصحابة[٤٧] عن عبد الله بن عبيد الله الأنصارىّ قال قُتل رجلٌ من الأنصار يوم مسيلمة الكذاب فطلبوه فى القتلى فسمعوا قتيلاً يقول محمد رسول الله أبو بكر الصديق عثمان اللين الرحيم اهـ وروى ابن أبى الدنيا[٤٨] عن رِبْعِىّ بنِ حِراش قال كنا أخوة ثلاثة وكان أعبدَنا وأَصْوَمَنا وأفضلَنا الأوسطُ منا فَغِبْتُ غَيْبَةً إلى السوادِ ثم قدمت على أهلى فقالوا أدرك أخاك فإنه فى الموت فخرجت أسعى إليه فانتهيت وقد قضى وسُجّىَ بثوبٍ فقعدتُ عند رأسه أبكيه قال فرفع يده وكشف الثوب عن وجهه وقال السلام عليكم قلت أىْ أخى أحياةٌ بعد الموت قال نعم إنى لقيت رَبّى عزَّ وجلَّ فلقينِى برَوْحٍ ورَيحانٍ وربّ غير غضبان وإنه كسانِى ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق وإنّى وجدتُ الأمر أيسر مما تحسبون ثلاثًا فاعملوا ولا تفتروا ثلاثًا إنى لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسم أن لا يبرح حتى ءاتيَهُ فعجّلوا جهازى ثم طفا فكأنه أسرعُ من حصاةٍ لو أُلقيتْ فى الماء قال فقلتُ عجّلوا جهازَ أخى اهـ[٤٩] وفى رواية أخرى لابن أبى الدنيا[٥٠] رحمه الله عن ربعى بن حراش قال مات أخٌ لِى كان أصومنا فى اليوم الحار وأقومنا فى الليلة الباردة فذكر القصة وزاد فيها قال فبلغ ذلك عائشة فصدقَتْهُ وقالتْ كنا نسمع أن رجلاً من هذه الأمة يتكلم بعد موته اهـ

وأما قراءةُ القرءان بعد الموت فثابتةٌ بحديث ابن عباس فى الذى ضرب الخباء على القبر وقد تقدم.

وإن قُدّرَ منعُ جوازِ خطابِ النبىّ صلى الله عليه وسلم وندائِهِ بعد موته لكونِهِ غائبًا غيْرَ حاضرٍ فيُجاب بأن إنكارَ ذلك مردودٌ بما أخرجه الطبرانِىُّ فى"المعجم الكبير»[٥١] و«المعجم الصغير»[٥٢] عن عثمان بن حُنيف أنَّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّانَ رضىَ اللهُ عنه فى حاجةٍ له فكان لا يلتفتُ إليه ولا ينظرُ فى حاجتِهِ فَلَقِىَ ابنَ حُنَيْفٍ فشكَى ذلك إليه فقال له عثمانُ بنُ حنيف ائْتِ الميضأةَ فتوضأْ ثم ائتِ المسجدَ فصلّ فيه ركعتين ثم قُلْ اللهُمَّ إنى أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبىّ الرحمة يا محمد أنى أتوجه بك إلى ربّى فيقضىَ لِى حاجتى وتذكرُ حاجتَكَ ورُحْ إلىَّ حتى أروحَ معك فانطلق الرجلُ فصنعَ ما قال ثم أتَى بابَ عثمانَ بن عفّانَ رضِىَ الله عنه فجاء البوابُ حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفّان فأجلسه معه على الطنفسة فقال حاجتَكَ فذكر حاجته وقضاها له ثم قال له ما ذكرتُ حاجتَكَ حتى كان الساعة وقال ما كانت لك من حاجة فاذْكُرْها ثم إنَّ الرجلَ خرج من عنده فَلَقِىَ عثمانَ بنَ حُنَيْفٍ فقال له جزاك الله خيرًا ما كان ينظر فى حاجتى ولا يلتفت إلىَّ حتى كلَّمْتَهُ فىَّ فقال عثمانُ بنُ حنيف واللهِ ما كلمتُهُ ولكنى شهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضريرٌ فشكا إليه ذهابَ بصره فقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم أفتصبرُ فقال يا رسول الله ليس لى قائد وقد شقَّ علىَّ فقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم ائتِ الميضأةَ فتوضأْ وصلّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الدعواتِ قال عثمانُ فواللهِ ما تَفَرَّقْنا ولا طال بنا الحديثُ حتى دخل علينا الرجلُ كأن لم يكن به ضرٌّ قَطّ اهـ قال الطبرانِىُّ فى «الصغير»[٥٣] والحديثُ صحيحٌ اهـ

قال شيخنا المحدّثُ عبد الله الغمارىُّ رحمه الله فى كتابه «إتحاف الأذكياء بجواز التوسُّلِ بالأنبياء والأولياء»[٥٤] هذه القصة صحيحةٌ صححها الطبرانِىُّ ونقل تصحيحه الحافظ المنذرىّ فى «الترغيب» والحافظ الهيثمىُّ فى «مجمع الزوائد» وأقراه عليه اهـ وروى عدةٌ القدرَ المرفوعَ من الحديث وفيه الخطابُ والنداءُ أيضًا وصحَّحوه قال شيخنا الغمارىُّ فى «إتحاف الأذكياء»[٥٥] أيضًا إنَّ الحديثَ صحيحٌ صحَّحَهُ الترمذىُّ وابنُ خزيمةَ والطبرانِىُّ والحاكمُ والبيهقىُّ والمنذرىُّ والنووىُّ والذهبىُّ وابن حجرٍ والهيثمىُّ والسيوطىُّ اهـ

وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخارىُّ رحمه الله تعالى فى «الأدب المفرد»[٥٦] عن عبد الرحمـن بن سعد قال خدِرَتْ[٥٧] رجلُ ابن عمرَ فقال له رجلٌ اذكرْ أحبَّ الناسِ إليك فقال يا محمد اهـ

قلتُ أما محمدُ بنُ إسماعيلَ البخارىُّ وأبو نُعيم الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ فإمامان مشهوران جبلان ثقتان بلا خلافٍ، وأما سفيان فهو الثورىُّ الإمامُ الحجةُ إذ هو المراد عند أبِى نُعيمٍ كلما أَطْلَقَ اسمَ سفيانَ وأبْهَمَ[٥٨]، وأما أبو إسحق عمرو بن عبد الله السبيعىّ الهَمدانِىّ فهو تابعىٌّ ثقةٌ حافظٌ مكثِرٌ روى عن ثمانية وثلاثين من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم[٥٩] كان الأعمشُ يتعجَّبُ من حفظه لرجاله الذين يروِى عنهم[٦٠] وروى عنه الستةُ وغيرُهُم غير أنه نُسِبَ إلى الاختلاطِ فى ءاخر عمره[٦١] كما رُمِىَ بالتدليس[٦٢]، والاختلاطُ على فرضِ ثبوتِهِ مأمونٌ منه هنا برواية الثورىّ عنه فإنه أخذ عنه قبل ذلك[٦٣] وبما يأتِى من روايةِ شُعْبَةَ عنه التى تدفعُ كذلك دعوى التدليس وتردُّها[٦٤] وترفعُ اعتبارَها وتُلْغِيهِ.

وروى الإمام أبو هيثم إبراهيم بن إسحق الحربِىّ فى كتابه «غريب الحديث»[٦٥] قال حدثنا عفَّانُ حدثنا شعبةُ عن أبِى إسحق السبيعىّ عمّن سمع ابنَ عمرَ قال خدرتْ رجلُهُ فقيل له اذكرْ أحبَّ الناس قال يا محمد اهـ ومعلومٌ أنَّ شعبةَ رحمه الله كان يذمُّ التدليسَ فى الروايةِ ذمًّا شديدًا ويقول هو أخو الكذب ويجتنبُ الأسانيدَ التى تَحْوِيهِ قال الحافظُ البيهقىُّ رحمه الله فى كتابه «معرفة السنن والآثار»[٦٦] أنه قال روينا عن شُعبة أنه قال كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال حدثنا وسمعتُ حفظتُهُ وإذا قال حدَّثَ فلانٌ تركته وروينا عنه أنه قال كفيتُكُمْ تدليسَ ثلاثةٍ الأعمش وأبى إسحق وقتادةَ اهـ ونقله عنه الحافظ ابنُ حجرٍ رحمه فى كتابه «تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس»[٦٧] وقال عَقِبَهُ قلتُ فهذه قاعدةٌ جيدةٌ فى أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها إذا جاءتْ من طريق شُعبة دلَّتْ على السماع اهـ فظهر بهذا أنَّ عنعنة أبِى إسحقَ لا تضرُّ هنا كما لا يضرُّ عدم تسميةِ الراوِى عن ابن عمرَ فإنه مسمّى فى رواية الثورىّ السابقة وفى ما أخرجه الإمام الحربِىُّ عقب رواية شعبة فى الكتاب المذكور ءانفًا فإنه قال[٦٨] حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن أبِى إسحاق عن عبد الرحمـن بن سعد جئتُ ابنَ عمر فخدرتْ رجلُهُ فقلتُ ما لرجلك قال اجتمع عصبُها قلتُ ادعُ أحبَّ الناس إليك قال يا محمد فبسطها اهـ[٦٩] وأما عبد الرحمـن بن سعدٍ فكان مولى ابن عمر رضىَ الله عنهما معروفٌ روى حديثَهُ العدول المشاهيرُ وترجَمَهُ الحافظُ ابنُ حجرٍ فى «تهذيب التهذيب فقال عبد الرحمـن بن سـعد القرشىّ كوفىٌّ روى عن مولاه عبد الله ابن عمر وعنه أبو إسـحق السـبيعىّ ومنصور بن المعتمر وأبو شـيبة عبد الرحمـن بن إسـحق الكوفىّ وحماد بن أبِى سـليمان ذَكَرَهُ ابنُ حِبان فى الثقات قلتُ وقال النسـائِىُّ ثقةٌ اهـ والنسـائِىُّ متشدّدٌ فى التوثيق كما يُعلم من محله فى علم المصطلح والرجال[٧٠] فالحديثُ على هذا صحيحٌ بلا مغمزٍ كما كان يُصرّح بذلك شـيخُنا المحدثُ الهررىُّ رحمه الله تعالى ويقول إنَّ انضمامَ رواياتِهِ المتعددةِ تُبَيّنُ صحتَهُ[٧١] اهـ وكما كان يصرح بذلك شيخنا المحدث حبيب الرحمن الأعظمِىّ أيضًا رحمه الله تعالى.

بل كان نداءُ المحبوبِ عند خَدَرِ الرجلِ عادةً للعربِ لم يأتِ الشرعُ بتحريمِها ولا بتضليل فاعلِها فاستمرَّ ذلك معروفًا عندهم بعد البعثةِ شائعًا بينهم لا يُنكرونه ولا يستنكرونه كما تدلُّ على ذلك الرواياتُ الآنفةُ ومعها ما رويتُهُ بالإسناد إلى الحافظ ابن السُّنىّ فى «عمل اليوم والليلة»[٧٢] قال حدثنِى علىّ بن الحسن المهنّد راوية إسحاق بن إبراهيم عن إسحق بن إبراهيم قال قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك فى حُبابة

أَثِيبِى مُغْرَمًا كَلِفًا مُحِبًّـا        إذا خَدِرَتْ له رِجْلٌ دعاكِ

وقال إبراهيم بن المنذر الحزامىّ أهل المدينة يعجبون من حسن بيت أبِى العتاهية

وتخدرُ فى بعضِ الأحـايينِ رِجْلُهُ       فإنْ لم يقلْ يا عُتْب لم يذهبِ الخَدْرُ

وقال ابن السنىّ رحمه الله تعالى روى محمد بن زياد عن صدقةَ بنِ يزيدَ الجُهَنِىّ عن أبِى بكرٍ الهُذَلِىّ قال دخلتُ على محمد بن سيرين وقد خدرتْ رجلاه فنقعهما فى الماء وهو يقول

إذا خَدِرَتْ رِجْلِى تَذَكَّرْتُ مَنْ لَهَا         فناديتُ لُبْنَى بِاسْـمِها ودعوتُ

دعوتُ التى لـو أنَّ نَفْسِى تُطِيعُنِى       لأَلْقَيْتُ نَفْسِِـى نحوَها فقضيتُ[٧٣]

فقلتُ يا أبا بكرٍ تنشد مثل هذا الشعر فقال يا لُكع وهل هو إلا كلامٌ حسَنُهُ كحَسَنِ الكلامِ وقبيحُهُ كقبيحِهِ اهـ

ويؤيّدُ كلَّ ذلك ما ثبت فى لفظ التشهد السلام عليك أيها النبىُّ ورحمةُ الله وبركاته فإنه خطابٌ له عليه الصلاة والسلام بلا شكّ.

روى الإمام مالك فى الموطأ عن عبد الرحمـن بن عبدٍ القارئِ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلّم الناس التشهد يقول قولوا التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلامُ عليك أيها النبىُّ ورحمة الله وبركاته السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إلـه إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ اهـ فكان عمرُ رضىَ الله عنه يعلم الناس التشهد من على المنبر بلفظ الخطاب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعه الصحابةُ فضلاً عن غيرهم من التابعين وفيهم الفقهاء والعلماء ولا ينكر عليه أحدٌ منهم.

واعجبْ ما شئتَ فى هذا الموطنِ من ناصرٍ الألبانِىّ حيث رأى أنَّ هذا الخطابَ فى الصلاةِ ناقضٌ لأصلِهِ داحضٌ لما ادعاه من المنع من خطابِ الميّتِ فعمَدَ بدلاً من التوبةِ والرجوعِ إلى الحقّ واتباعِ الدليلِ إلى إنكارِ هذه الصيغةِ المتواترةِ بين المسلمين وادَّعَى أنَّ قولها ممنوعٌ فى الصلاة بعد وفاةِ النبىّ صلى الله عليه وسلم وأنه عرفَ ذلك بعدما جهله كلُّ المسلمين من زمن الصحابة إلى أيامنا. ولشيخِنا المحدّثِ عبدِ الله بن الصديق الغُمَارِىّ ردٌّ عليه فى هذه المسئلة وغيرِها سَمَّاهُ «القول المقنع فى الردّ على الألبانِىّ المبتدعِ».

فإن قُدّرَ المنعُ لإنكارِ جوازِ الطلبِ من الميت أو الغائب أُجيب بأن ذلك مردودٌ بما رواه البزار فى مسنده[٧٤] عن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنّ لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما سقط من أوراق الشجر فإذا أصاب أحدَكُمْ عرجةٌ بأرضٍ فلاةٍ فليُنادِ أعينوا عبادَ اللهِ اهـ وأخرج الإمام البيهقىّ فى «شعب الإيمان»[٧٥] عن ابن عباس قال إنَّ لله عزَّ وجلَّ ملائكةً سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدَكُمْ عرجةٌ بأرضٍ فلاةٍ فلينادِ أعينوا عبادَ الله يرحمكم الله تعالى اهـ

وروى أبو بكر بن أبى شيبة فى «مصنفه»[٧٦] عن ابن عباس قال إنّ لله ملائكةً فَضْلاً سوى خلقه يكتبون ورق الشجر فإذا أصابت أحدَكُم عرجةٌ فى سفرٍ فليُنادِ أعينوا عباد الله رحمكم الله فإنه سيُعانُ اهـ وروى عن الحافظ الطبرانِىّ فى «الجامع الكبير»[٧٧] عن عتبة بن غزوان عن نبىّ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أضلَّ أحدُكُمْ شيئًا أو أراد أحدُكُمْ عَوْنًا وهو بأرضٍ ليس بها أنيسٌ فَلْيَقُلْ يا عبادَ اللهِ أغيثونِى يا عبادَ الله أغيثونِى فإنَّ لله عبادًا لا نراهم اهـ قال الطبرانِىُّ وقد جُرّبَ ذلك اهـ[٧٨]

وروى ابن السُّـنّىّ فى عمل اليوم والليلة»[٧٩] عن عبد الله بن مسعودٍ رضى الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انفلتَتْ دابةُ أحدِكُمْ بأرضٍ فلاةٍ فَلْيُنَادِ يا عباد الله احبِسوا يا عباد الله احبِسوا فإنَّ لله عزّ وجلّ فى الأرض حاضرًا سَيَحْبِسُهُ اهـ وهى أحاديث تعددتْ مخارجُها وليس فى رجالها كذّابٌ أو هالكٌ فيعضد بعضُها بعضًا كما تنصُّ عليه قواعد مصطلح الحديث، ولذلك ذكر الحُفَّاظُ من السلف والخلف هذا الحديثَ تحت باب ماذا يفعل إذا انفلتت دابته، وقال الحافظ النووىّ فى باب ما يقول إذا انفلتت دابتُهُ من «الأذكار»[٨٠] قلتُ حكَى لِى بعضُ شيوخِنا الكِبار فى العلم أنه انفلتت له دابّةٌ أظنُّها بَغْلَةً وكان يَعرف هذا الحديث فقاله فحبَسَها اللهُ عليهم فى الحال وكنتُ أنا مرةً مع جماعةٍ فانفلتت منا بهيمةٌ وعَجَزوا عنها فقُلْتُهُ فوقَفَتْ فِى الحالِ بغيرِ سببٍ سوى هذا الكلام اهـ

وإنكار جواز الطلب من الميت مردودٌ أيضًا بما رواه ابن أبِى شيبةَ فى مصنَّفه عن مالك الدار قال وكان خازن عمر على الطعام قال أصاب الناسَ قحطٌ فى زمن عمر فجاء رجلٌ إلى قبر النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اسْتَسْقِ لأُمَّتِكَ فإنهم قد هلكوا فأُتِىَ الرجلُ فى المنام فقيل له ائتِ عمر فأقرِئْهُ السلامَ وأخبره أنكم مُسْقَوْنَ وقُلْ له عليك الكيسُ عليكَ الكيسُ فأَتَى عمرَ فأخبره فبكى عمرُ ثمَّ قال يا ربّ لا ءالو إلا ما عجَزْتُ عنه اهـ وفِى «فتح البارئ»[٨١] لابن حجرٍ أنَّ إسناده صحيح اهـ قال الحافظ وقد روى سيفٌ فى «الفتوح» أنَّ الذى رأى المنام هو بلال بن الحارث المزنِىّ أحد الصحابة اهـ وهو ما رواه الإمام المجتهد محمد بن جرير الطبرِىّ فى «تاريخه»[٨٢] قال كتب إلىَّ السرىّ عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف السلمىّ عن عبد الرحمـن بن كعب قال كان الناس بذلك[٨٣] وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزنِىّ فاستأذن عليه فقال أنا رسول رسولِ الله إليك يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد عهدتُك كيّسًا وما زلتَ على رجل فما شأنك فقال متى رأيتَ هذا قال البارحة الحديثَ اهـ

ورواه ابن عساكر فى تاريخ دمشق من طريق الحافظ البيهقِىّ عن مالك الدار بنحو ما رواه ابن أبِى شيبة اهـ قال الحافظ ابن كثير فى «البداية والنهاية»[٨٤] وهذا إسنادٌ صحيحٌ اهـ وقال الحافظ أبِى يَعلَى فى «الإرشاد فى معرفة علماء الحديث»[٨٥] مالك الدار مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه تابعىٌّ قديمٌ متفقٌ عليه أثنَى عليه التابعون وليس بكثير الرواية روى عن أبِى بكر الصدّيق وعمر وقد انتسب ولدُهُ إلى جبلان ناحية[٨٦] اهـ ثم قال حدثنا محمد بن الحسن بن الفتح حدثنا عبد الله بن محمد البغوىّ حدثنا أبو خيثمة حدثنا محمد بن خازم الضرير حدثنا الأعمش عن أبِى صالحٍ عن مالك الدار بنحو ما رواه ابن أبِى شيبة إلا أنّ فيه فرأى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فى المنام فقال إلى ءاخره اهـ

وقال الحافظ ابن عساكر فى «تاريخ دمشق»[٨٧] أيضًا مالك بن عياض المعروف بمالك الدار المدنِىّ مولى عمر ابن الخطاب ويُقال الجُبْلانِىّ[٨٨] سمع أبا بكرٍ الصدّيق وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وروى عنه أبو صالح السَّمَّان وعبد الرحمـن بن سعيد بن يربوع وابناه عون بن مالك وعبد الله بن مالك وقدم مع عمر بن الخطاب الشام وشهد معه فتح بيت المقدس وخطبته بالجابية، أخبرنا أبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنّا قالا أنا أبو الحسين الآبنوسِىّ أنا أحمد بن عبيد بن الفضل إجازةً أنا محمد بن الحسين بن محمد نا ابن أبِى خيثمة نا أبِى نا محمد بن خازم أبو معاوية الضرير نا الأعمش عن أبِى صالح عن مالك الدار بنحو رواية ابن أبِى شيبة اهـ وذكر أحمد ابن عبد الله الطبرىّ فى «الرياض النضرة»[٨٩] أنَّ البغوىَّ خرَّج فى «الفضائل» عن أنس بن مالكٍ قال أصاب الناسَ قحطٌ فى زمن عمر فجاء رجلٌ إلى قبر النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اسْتَسْقِ لأُمَّتِكَ فإنهم قد هلكوا قال فأتاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال ائتِ عمر فَمُرْهُ أن يستسقِىَ للناس فإنهم سيُسْقَوْنَ وقل له عليكَ الكيس الكيس فأَتَى الرجلُ عمرَ فبكى عمرُ وقال يا ربّ لا ءالو إلا ما عجَزْتُ عنه اهـ

وليتَ شِعْرِى ما المرادُ بالاستمداد الذى ينفيه المنكرُ وهو يفهمُ ويعرفُ أن الداعِىَ المحتاجَ الفقيرَ يدعو اللهَ ويطلب حاجاتِهِ من الله تعالى ويتوسل بروحانية هذا العبد المقرب المكرم عنده تعالى ويقول يا الله ببركة هذا العبد الذى رحمته وأكرمته وبما لك من اللطف والكرم اقْضِ حاجَتِى وأعطِنِى سُؤْلِى إنَّكَ أنت المُنعِمُ الكريمُ أو ينادِى هذا العبدَ المكرم المقربَ عند الله تعالى ويقول يا عبد الله ويا وليَّهُ اشفعْ لى وادعُ ربَّكَ وسَلْهُ أن يعطينِى سؤالِى ويقضِىَ حاجتى فالمعطِى والمسؤولُ منه والمأمولُ منه هو الربُّ تعالى وتقدسَ وما العبدُ إلا وسيلة وليس المتصرفُ إلا الله تبارك وتعالى وما أولياءُ الله تعالى إلا تحت قدرة الربّ عزَّ وجلَّ وسطوتِهِ لا فعل لهم ولا قدرة ولا تصرف استقلالاً ولا خلقًا لا الآن ولا حين كانوا أحياء فى دار الدنيا فأين الشّركُ بل أين المحذور فى هذا. ولو كان هذا شركًا وتوجُّهًا إلى غير الله كما يزعمه المنكرُ فينبغى أن يمتنعَ التوسلُ وطلبُ الدعاءِ من الصالحين من عباد الله وأوليائه فى حال الحياة أيضًا وليس ذلك بممتنعٍ بل مستحبٌ ومستحسنٌ وهم بعد الموت لم يخرجوا من المنزلة والكرامة التى كانت لهم عند الله تعالى قبله، واشتغالُ الميتِ بما يعرض له بالبرزخ ليس كليًّا فلا يمنع من التفاتِهِ إلى كلام من يكلّمُهُ ويخاطبُهُ أحيانًا كما تقدم بيانه فى الآثار.

وعلى هذا الوجهِ لا غيرِهِ يُحمَلُ ما يفعلُهُ أهلُ السنةِ من الاستمدادِ من الأولياء الأحياء أو الأموات الحاضرين أو الغائبين فإنَّ لهم مددًا بإذن الله لا يُنكِرُهُ إلا جاهلٌ بالسُّـنَّةِ النبوية وبمنهاج السلف الصالح وسيرتِهِم.

روى الإمام البخارِىّ فى «صحيحه»[٩٠] قال حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبةُ عن عَدِىّ ابن ثابتٍ عن البراء رضى الله عنه قال قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لحَسَّان اهجُهُمْ أو هاجهم وجبريل معك اهـ أى يُمِدُّكَ ويؤيّدُك وينصرُكَ فإذا كان لجبريلَ مددٌ باطنىٌّ وتأييدٌ ونُصرةٌ بنصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معنى لإنكارِ مددِ غيرِهِ من أولياء الله تعالى وبالأَوْلَى مدد أنبيائه.

والله تعالى أعلم.

 


[١] المرجع كتاب البراهينُ على صدقِ حادثةِ مدّ اليمينِ للشيخ سمير القاضِى.

[٢] أى اقتراب موتى بسبب السمّ، يقال قطع أبهره أى أهلكه. والحديثُ أخرجه البخارىّ فى «الصحيح»، كتاب المغازِى، باب مرض النبىّ صلى الله عليه وسلم ووفاته.

[٣] (ءال عمران/١٦٩).

[٤] لعلّ المرادَ أنهم أفردوها بالتصنيف كما فعل البيهقىّ رحمه الله فى «جزء حياة الأنبياء».

[٥] بكسر الراء والزاى كما فى «تكملة الإكمال».

[٦] أخرجه أبو يَعلى فى «المسند»، مسند ثابت البنانىّ عن أنس.

[٧] انظر «حياة الأنبياء» للبيهقىّ (ح ١).

[٨] انظر «فتح البارئ» (٦/٤٨٧) وذلك لما التزمه فى مقدمة «الفتح» (ص٤) من أنّ ما يذكره من الأحاديث شرحًا أو تتمةً لحديث فى متن صحيح البخارىّ من غير تعرّضٍ لبيانِ حاله فهو صحيحٌ أو حسنٌ.

[٩] راجع «صحيح مسلم»، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام.

[١٠] أخرجه أبو نعيم الأصبهانىّ فى «حلية الأولياء» فى ترجمةِ عمرِو بنِ دينارٍ.

[١١] راجع «المستدرك» للحاكم، تفسير سورة الأنبياء (٢/٣٨٤).

[١٢] أى وقت قيامها.

[١٣] وتتمة كلامه فأما مُؤثر فليس بمجهول قد روى عن عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وروى عنه جماعة من التابعين اهـ

[١٤] راجع صحيح البخارى، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعده.

[١٥] أخرجه أبو داود فى سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور.

[١٦] انظر «فتح البارئ» (٦/٤٨٧).

[١٧] انظر «سنن أبى داود»، كتاب المناسك، باب زيارة القبور.

[١٨] انظر «فتح البارئ» (٦/٤٨٧).

[١٩] انظر «شعب الإيمان»، الشعبة الخامسة عشرة باب فى تعظيم النبىّ صلى الله عليه وسلم.

[٢٠] انظر «فتح البارئ» (٦/٤٨٧).

[٢١] راجع «الجامع الكبير»، حرف الميم (ح ٥٥٠٣).

[٢٢] انظر «كشف الأستار» (١/٣٩٧).

[٢٣] انظر «مجمع الزوائد» (٩/٢٤).

[٢٤] انظر ترجمة ثابت البنانىّ من التابعين فى «حلية الأولياء».

[٢٥] وفى نسخة «العبرىّ».

[٢٦] فى بعض نسخ الحلية «الجص» وفى بعضها غير ذلك ولعلّ الصوابَ الحَفَرُ لركايا احتفرها أبو موسى الأشعرىّ على جادة البصرة.

[٢٧] راجع «سنن الترمذىّ» فى فضائل القرءان، فضل سورة الملك.

[٢٨] راجع «الجامع الصغير» (٢/٥٦).

[٢٩] انظر «تاريخ بغداد»، حرف العين من ءاباء الإبراهيميين (٦/١٣٧).

[٣٠] انظر «العاقبة» (ص ١١٨) و«إتحاف السادة المتقين» (١٠/٣٦٥).

[٣١] انظر «فيض القدير» للمناوىّ (٥/٤٨٧).

[٣٢] انظر «الاستذكار»، باب جامع الوضوء.

[٣٣] أخرجه أبو داود فى «السنن»، كتاب المناسك، باب زيارة القبور.

[٣٤] انظر «فتح البارئ» (٦/٤٨٧).

[٣٥] انظر ذكر نبىّ الله وروحه عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما من المستدرك (٢/٦٥١).

[٣٦] انظر الفصل الثامن من كتاب الحجج البينات فى إثبات الكرامات للغمارىّ المطبوع سنة ألف وأربعمائة وعشر فى دار عالم الكتب.

[٣٧] انظر رسالة تنوير الحلك فى الجزء الثانِى من الحاوِى للفتاوى (ص٢٦١).

[٣٨] هو أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المزالِىّ التلمسانِىّ المالكىّ. ولد بتلمسان وقرأ الفقه والعربية حتى قيل إنه حفظ كتاب سيبويه ثم قدم الإسكندرية فسمع الحديث ولبس خرقة التصوف. كان زاهدًا عابدًا فقيهًا صنَّفَ وحدَّثَ وسمع منه جماعةٌ وعمَّرَ يمصر ما يزيد على ثلاثين جامعًا ومسجدًا وزاوية. توفى سنة ٦٨٣هـ ودفن بالقرافة الكبرى قريبًا من شيخه أبى الحسن علىّ بن قفل.

[٣٩] انظر باب استغاثة من لاذ بقبره صلى الله عليه وسلم وشكى إليه ضرَّهُ وفقرَهُ من كتاب مصباح الظلام (ص ١٠٠).

[٤٠] اسم المعجم عنوان الزمان فى تراجم الشيوخ والأقران وهو موجود فى مكتبة محمد باشا الكوبريلِى باسطنبول.

[٤١] انظر رسالة تنوير الحلك فى الجزء الثانِى من الحاوِى للفتاوى (ص٢٦١).

[٤٢] انظر باب ما جاء فى عذاب القبر من كتاب الجنائز فى «صحيح البخارىّ».

[٤٣] انظر باب استحباب إطالة الغرّة والتحجيل من كتاب الطهارة فى «صحيح مسلم».

[٤٤] انظر «من عاش بعد الموت» (ص١٩ - ٢٠).

[٤٥] انظر «من عاش بعد الموت» (ص١٤ - ١٥ - ١٦).

[٤٦] انظر «من عاش بعد الموت» (ص١٩).

[٤٧] انظر «معرفة الصحابة» (ح٢٥٥).

[٤٨] انظر «من عاش بعد الموت» (ص١٩ - ٢٠).

[٤٩] وأخرجه الحافظ أبو يعلى الخليلىُّ فى «فوائده» (ف٢٠) وابن حبان فى «الثقات» فى باب الراء فى ترجمة الربيع بن حراش (٤/٢٢٧) وابن سعد فى «الطبقات» (٦/١٥٠).

[٥٠] انظر «من عاش بعد الموت» (ص٢١).

[٥١] انظر «المعجم الكبير» (٩/٣٠).

[٥٢] انظر «المعجم الصغير» فى ترجمة من اسمه طاهر (١/٣٠٦).

[٥٣] انظر «المعجم الصغير» فى ترجمة من اسمه طاهر (١/٣٠٦).

[٥٤] انظر «إتحاف الأذكياء» (ص٣٤).

[٥٥] انظر «إتحاف الأذكياء» (ص٢٢).

[٥٦] انظر باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله من «الأدب المفرد» (ح٩٦٤/ص٣٣٥).

[٥٧] قال فى «غريب الحديث» للحربِىّ (٢/٦٧٥) خدرت رجله قال أبو زيد خَدِرَتْ رِجْلِى ومَذِلَتْ سواءٌ اهـ وفى «المصباح المنير» خَدِرَ العضوُ خَدَرًا من باب تعب استرخى فلا يطيق الحركة اهـ

[٥٨] قال الذهبىُّ فى «سير أعلام النبلاء» (٧/٤٦٦) إنَّ أصحابَ سفيان الثورىّ كبارٌ قدماءُ وأصحاب ابن عيينة صغارٌ لم يدركوا الثورىَّ فمتى رأيتَ القديمَ قد رَوَى فقال حدثنا سفيانُ وأبهم فهو الثورىُّ وهم كوكيعٍ وابن مهدِى والفِريابِىّ وأبِى نُعيمٍ فإن روى واحدٌ منهم عن ابن عيينةَ بيَّنَهُ فأما الذى لم يلحق الثورىّ وادرك ابن عيينة فلا يحتاج أن ينسبه لعدم الالتباس اهـ

[٥٩] انظر باب من اسمه عمرو من «الثقات» للعجلىّ (٢/١٧٩).

[٦٠] كما نقله فى «تهذيب التهذيب» (٨/٥٨) عن العلاء بن سالم من قوله.

[٦١] نُسب ذلك إليه بحكايةٍ ليس لها إسنادٌ متصلٌ، وردَّ الذهبِىُّ هذه الدعوى فى غير ما كتابٍ من كتبه منها «ميزان الاعتدال» (٣/٢٧٠) فقال فيه شاخ ونَسِىَ ولم يختلط اهـ وقال الحافظ العلائِىُّ شيخ مشايخ الحافظ ابن حجر فى كتاب «المختلطين» له (١/٩٤) ولم يعتبر أحدٌ من الأئمة ما ذُكر من اختلاط أبِى إسحق واحتجّوا به مطلقًا وذلك يدلُّ على أنه لم يختلط فى شىءٍ من حديثه كما تقدَّم فى عبد الملك بن عمير فهو من القسم الأول اهـ أى ممن لا يُردُّ من حديثه شىءٌ بدعوى الاختلاط.

[٦٢] انظر باب العين من «الثقات» لابن حبان (٥/١٧٧).

[٦٣] كما فى «المختلطين» للعلائىّ نقلاً عن يحيى بن معين (١/٩٤).

[٦٤] وذلك أنَّ شعبةَ كان لا يروِى عن مدلّسٍ إلا ما علم أنه سمعه ممن يروِى عنه كما سيأتِى بيانه قريبًا إن شاء الله وهى تفيد أيضًا دفع الاختلاط فإنَّ أخذ شعبة عنه كان قبل ما نُسب إليه من ذلك كما فى «المختلطين» للعلائىّ نقلاً عن يحيى ابن معين (١/٩٤).

[٦٥] انظر «غريب الحديث» (٢/٦٧٣).

[٦٦] انظر باب من توقَّى رواية أهل العراق ومَن قبلها من أهل الصدق منهم ورجح رواية أهل الحجاز فى كتاب «معرفة السنن والآثار».

[٦٧] انظر «تعريف أهل التقديس» (ص٥٩).

[٦٨] انظر «غريب الحديث» (٢/٦٧٤).

[٦٩] ومثلها رواية ابن السُّنىّ فى «عمل اليوم والليلة» قال أخبرنِى أحمد بن الحسن= = الصوفىُّ حدثنا علىُّ بن الجعد ثنا زهيرٌ عن أبِى إسحاق عن عبد الرحمـن بن سعد قال كنت عند ابن عمر فخدِرَتْ رجلُهُ فقلتُ يا أبا عبد الرحمـن ما لرجلك قال اجتمع عصبها من ههنا فقلت ادْعُ أحبَّ الناسِ إليك فقال يا محمدُ فانْبَسَطَتْ اهـ

[٧٠] كما بيَّنَ ذلك الحافظ فى ما أرويه بالإسناد إليه فى «النكت على كتاب ابن الصلاح» ومن جملة ذلك قولُهُ وإذا تقرر ذلك ظهر أنَّ الذى يتبادر إلى الذهن من أنَّ مذهب النسائِىّ متسعٌ ليس كذلك فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذىّ وتجنَّبَ النسائِىُّ إخراج حديثه كالرجال الذين ذكرنا قبلُ أن أبا داود يخرّج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا بل تجنَّبَ النسائىُّ إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين وحكى أبو الفضل بن طاهر قال سألتُ سعد بن علىّ الزنجانِىّ عن رجلٍ فوثَّقَهُ فقلت له إنّ النسائِىَّ لم يحتجَّ به فقال يا بُنَىَّ إنّ لأبِى عبد الرحمـن شرطًا أشدُّ من شرط البخارىّ ومسلم اهـ

[٧١] كان شيخنا الهررىُّ رحمه الله تعالى قد جَمَعَ طرقَ ما رُوِىَ عن ابن عمرَ فى قول يا محمد فى مختلف كتب الرواية مما ذكرتُهُ ومما لم أذكرْ وكان رحمه الله يقول إنَّه مروىٌّ عن ابن عمر من ثلاثةِ وجوهٍ مختلفةٍ وإنه صحيحٌ عنه اهـ

[٧٢] انظر «عمل اليوم والليلة» (ح١٧٠).

[٧٣] هكذا رواية هذا الشطر فى النسخة المطبوعة من «عمل اليوم والليلة» فى دمشق سنة ١٤٠٧هـ والذى فى ديوان قَيْسِ لُبْنَى المطبوع لفارقتُها من حُبّها وقضيتُ اهـ

[٧٤] انظر مسند ابن عباس من «البحر الزخار» (ح٤٩٢٢).

[٧٥] انظر فصلٌ فى معرفة الملائكة من «شعب الإيمان» (١/١٨٣).

[٧٦] انظر ما يدعو به الرجل إذا ضلَّتْ منه الضالّة من «المصنّف» (١٠/٣٩٠).

[٧٧] انظر «المعجم الكبير» (١٧/١١٧).

[٧٨] أى ولم ينكرْهُ الطبرانِىُّ ولا قال هو ممنوعٌ فضلاً عن أن يَدَّعِىَ أنه شركٌ فماذا يقول التيميّون فى الحافظ الطبرانِىّ وهل يتَّهمونه بالشرك والضلال.

[٧٩] انظر «عمل اليوم والليلة» (ح٥٠٧).

[٨٠] انظر «الأذكار» (ص٣٧٠).

[٨١] انظر «فتح البارئ» (٢/٤٩٦).

[٨٢] انظر ذِكْرَ الأحداثِ التى كانت فى سنة ثمان عشرة من «تاريخ الطبرىّ» (٢/٥٠٨).

[٨٣] يعنِى بما ذكره قبيل ذلك بالإسناد عينه من قول عبد الرحمـن بن كعب بن مالك كانت فى ءاخر سنة سبع عشرة وأول سنة ثمان عشرة وكانت الرَّمادة جوعًا أصاب الناسَ بالمدينة وما حولها إلى ءاخره.

[٨٤] انظر «البداية والنهاية» (٧/١٠٥).

[٨٥] انظر «الإرشاد» (١/٣١٣).

[٨٦] هكذا قال الخليلىّ، والذى فى «الأنساب» نقلاً عن الدارقطنىّ أنه بطنٌ من حمير اهـ وفى «المسالك والممالك» أنَّ فى اليمن ناحية يقال لها جُبْلان بينها وبين صنعاء اثنان وثلاثون فرسخًا وبينها وبين زبيد ورمع اثنا عشر فرسخًا اهـ وفى «معجم البلدان» أنّ جُبلانَ ريمة هو ما فرق بين وادِى رمع ووادِى صنعاء العرب وهى بلاد كثيرة البقر والزرع والعسل يسكنها بطون من حمير من نسل جُبلان اهـ فالظاهر أنَّ الاسم يُطلق على البطن وعلى الناحية التى يسكنونها.

[٨٧] انظر «تاريخ دمشق» (٥٦/٤٨٩).

[٨٨] نسبة إلى جبلان بضمّ الجيم والباء الساكنة المنقوطة بواحدة ولام ألف وفى ءاخرها نون بطنٌ من حمير كما فى الأنساب (٢/٢٢).

[٨٩] انظر الفصل التاسع فى ذكر نبذة من فضائله أى عمر رضى الله عنه من «الرياض النضرة فى فضائل العشرة».

[٩٠] انظر «صحيح البخارىّ»، كتاب بدء الخَلْقِ، باب ذكر الملائكة.