من شروط خرقة الصوفية[١]

قبسات من فوائد الإمام الكبير محيى الدين بن عربِى[٢]
المتوفى سنة٦٣٨  هـ رحمه الله تعالى

قال الشيخ محيى الدين محمد بن علىّ بن محمد الحاتمىّ الطائىّ المعروف بابن العربىّ فى كتاب نسب الخرقة

وشروط هذه الخِرقة المعروفة على صورة ما أظهرها الحقُّ من ستر السوأة فَتَسْتُرُ سوأةَ الكذبِ بلباسِ الصدق وتَستر سوأة الخيانة بلباس الأمانة وسوأة الغدر بلباس الوفاء وسوأة الرياء بخرقة الإخلاص وسوأة سفاسف الأخلاق بخرقة مكارم الأخلاق وسوأة المذامِّ بخرقة المحامد وكلِّ خُلُقٍ دنىءٍ بخِرقة كل خُلُقٍ سَنِىٍّ وتتلبس بالتوكل على الله لا بالتوكل على الأكوان وبشكر المنعم لا بكفر النعمة ثم تتزين بزينة الله من ملابس الأخلاق المحمودة مثل الصمت عما لا يعنيك وغض البصر عما لا يَحِلُّ النظرُ إليه وتفقد الجوارح بالورع وتركِ سوء الظن بالناس وتصفحِ ما مضت به الأيام من أفعالك وما سطرته أقلام الكتبة الكرام عليك والقناعةِ بالموجود وعدمِ التشوُّفِ إلى طلب المزيدِ إلا من أفعال الخير وتفقدِ أخلاق النفس ومعاهدةِ الاستغفارِ وقراءةِ القرءانِ والوقوفِ مع الآداب النبويةِ وتعرُّفِ أخلاقِ الصالحين والمنافسةِ فى الخيراتِ الدينيةِ وصلةِ الرحِمِ وتعاهدِ الجيران بالرفق والعفوِ عن مَن طعن فى عِرْضِكَ وسخاوةِ النفس وهو أن يبذلها فى قضاء حوائج الخلق وصنائع المعروف مع الصديق والعدو والتواضع ولينِ الجانب واحتمالِ الأذى والتغافلِ عن زلل الإخوان وتركِ مجالسة الغافلين إلا أن تذكّرَهم أو تذكرَ الله فيهم وعدمِ التعرضِ بالذم للملوك والمذنبين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يحث الشرع على ذلك وتركِ الغضبِ إلا عند انتهاك محارمِ الله وتركِ الحقد والغل من الصدور والصفحِ عن المسىء فلا يكون غضبك لنفسك وإقالةِ عثرات أهل المروءات وعدمِ التولع بفضح المستورين وتعظيمِ العلماء وأهل الدين وإكرام ذى الشيبة وإكرام كريم القوم على الحد المشروع مما يجوز لك أن تكرم به ذلك الشخص وحسنِ الأدب مع الله تعالى وحسنِ الأدب مع كلّ أحدٍ من حىّ وميتٍ وحاضر وغائب وردّ الغيبة عن عرض المسلم وتركِ التصنع والتشدق فإن كثرة الكلام فى غير مطلوب الشرع تؤدى إلى الزلل وتوقيرِ الكبير والرفقِ بالضعيف والرحمة بالصغير وتفقد المحتاجين ومواساتهم بالبر والصلة وميسور القول وإهداء الهدية وقرى الضيف وإفشاء السلام والتحببِ إلى الناس على الحد المشروع وأن لا تكون لعّانًا ولا طعّانًا ولا عيّابًا ولا سخّابًا ولا تَجْزِ أحدًا بالسيئة فى حقّك إلا إحسانًا وعليك بالنصيحة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم ولا تنتظرِ الدوائر بأحد ولا تسبَّ أحدًا من عباد الله على التعيين من حىّ ولا ميتٍ إلا بأمر شرع الله عز وجل ولا تُعَيّرْ أحدًا من أهل الشهوات بشهواتهم ولا تنافس على الرئاسة أحدًا ولا تواطِئْ عَقِبَك خدمةً عن أمرك[٣] وإياك أن تتركَ الناسَ أن يبولوا فى أذنِكَ بنقلِ ما يسوءُكَ عنك وعن غيرك وأحِبَّ المؤمنين من أساء إليك منهم ومن أحسن لحُبّهِمُ الله ورسولَه ولا تبغضهُم لبغضهم غير الله ورسوله فبهذا أوصانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام فى رؤيا رأيتُها فى حقّ شخصٍ وقع فى بعض شيوخى فأبغضته فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال لى لِمَ أبغضتَ فلانًا فقلت له لبغضِهِ ووقوعِهِ فى شيخِى فقال عليه الصلاة والسلام ألستَ تعلم أنه يحب اللهَ ويحبنى قلت له بلى قال فلم لا تحبُّه بحبّه إياى وأبغضتَهُ لبغضِه شيخَك فقلت له يا رسول الله مِنَ السّاعة فما أحسنك من معلّم لقد نبهتنى على أمر كنت عن مثلِهِ غافلاً. ولا تفرحْ بما ينتشرُ فى العامةِ من ذكرِكَ بما تُحْمَدُ وإن كنتَ عليه فإنكَ لا تدرى هل يبقى عليك أو يُسلَبُ عنك ولا تقصِدْ أن تتميز بين المؤمنين بخُلُقٍ غريبٍ محمود إلا أن كنت ممن يُقتَدى به ولا تظهر الخشوعَ فى ظاهرك بجمع أكتافك وأطرافك إلى الأرض إلا أن تكون فى باطنك كذلك ولا تحِبَّ التكاثُرَ من الدنيا ولا تبالِ بجهل من جهِلَ قدرك بل لا يكُنْ لنفسك عندك زيادة قدر على سائر المسلمين ولا ترغبْ فى إنصات الناس لكلامك[٤] ولا تجزَعْ من الجوابِ بما لا يسُرُّك فى حقّك[٥] واصبر للحق ومع الحق ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا وقلِ الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾[٦] وأنصف من نفسِك وسلّم على المؤمنين ابتداءً وردّ السلام على من سلّم عليك وإياك والطمع فى ما فى أيدى الأغنياء ولا تنافَسْ مع أبناءِ الدنيا إذا تنافسوا فيها وادعُ للملوك وولاة الأمر وإن جاروا وجاهد نفسك وهواك فإنه من أكبر أعدائك ولا تكثِرِ الجلوسَ فى الأسواقِ ولا المشىَ فيها وكُفَّ ضررَكَ عن أئمة الدّين ولا تتفوَّه على أهل القبلة بما يؤدى عند السامعين إلى الخروجِ عنها وأمسِك عن الخوض فى الأموات فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدّموا إلا فى ما طلب الشرع الخوض فيه وإياك والمِراءَ فى القرءان وفى القَدَر واترك مجالسةَ أهلِ الأهواءِ والبدعِ القادحة فى الدين وأخرج الحرص والحسدَ والعُجبَ من قلبِك وكُنْ مع الجماعة فإن الذئبَ لا يأكل من الغنم إلا القاصية وإياك والعَجَلةَ فى أمرك إلا فى سبع فى الصلاة لأول وقتِها والحج عند وجود الاستطاعة وتقديم الطعام للضيف وتجهيز الميّت وأداء الدّين إذا حلّ أجله وتجهيز البِكْرِ إذا أدركت وخَطَبَها كُفْءٌ والتوبة من الذنب وابذل المجهودَ فى نُصْحِ عباد الله من مسلم وكافر واقطع أسباب الغفلة وحافظ على إقامةِ الصلوات وأحسِنْ أداءَها وقُمْ على النفسِ بالحسبة واخرج من الجهلِ بطلَبِ العلمِ واستوصِ بطالب العلم خيرًا واندمْ على ما فرطتَ فيه من الخيرِ وتجافَ عن الشهواتِ وعن دار الغرورِ وخالفِ النفسَ الأمّارة بالسوء وكلّ خاطر مذموم وردّ المظالم وأصلح الطُّعمة واسعَ فى إصلاح ذاتِ البينِ وعليك بإسقاطِ الريَبِ والحذَرِ الدائمِ والخشيةِ والحب والبغضِ فى الله والمودّة فى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاة الصالحين وكثرة البكاء والتضرُّعِ إلى الله تعالى والابتهالِ ليلا ونهارًا والتذلُّلِ فى كل حالٍ إلى الله عزّ وجلّ والقصد إلى الله تعالى فى كل حال والتفكرِ فيما يتعيَّنُ عليك من شكر المنعم فيما أنعم به عليك والتعاوُن على البِرّ والتقوى وإجابة الصريخ وإغاثة الملهوف ونُصرة المظلوم وتفريجِ كُربةِ المكروبِ وصومِ النهارِ وقيامِ الليلِ وإن كان بالتهجدِ فهو أولى وذِكْرِ الموتِ وتعاهدِ زيارةِ القبورِ والصلاةِ على الجنائز واتباعها ومسحِ رؤوسِ اليتامى وعيادةِ المرضى وبذل الصدقاتِ ومحبةِ أهلِ الخير وتركِ الهُجرِ من الكلام ودوام الذكر ودوام المراقبة ومحاسبةِ النفسِ على أفعالِها الظاهرةِ والباطنةِ والأُنسِ بكلام الله وأخذِ الحكمة من أقوال القائلين بلْ ومن نظرِكَ فى كلِّ منظور والصبرِ على أحكام الله والإيثارِ لأمرِ الله والتعرضِ لكلّ سببٍ يقربُ إلى الله تعالى واستفراغِ الطاقةِ فى محابّ الله ومَراضيه والرضى بالقضاء لا بكلّ مقضِىّ والدَّوَرانِ مع الحقّ حيثما دار والتبرئ من الباطلِ والصبرِ فى مواطن الامتحان والزهد فى الحلال والاشتغالِ بالأهمّ فى الوقت وطلبِ الجنةِ بالشوق إليها فإنكَ إذا دخلتَها رأيتَ الحقَّ تعالى ومجالسةِ أهلِ البلاء بالاعتبار ومحادثةِ المساكينِ والقعودِ معهم فى محالّ فقرهم ومعونةِ من يُطالبُك حالُه بإعانتِه وسلامةِ الصدرِ والدعاءِ للمسلمين بظهر الغيبِ وخدمةِ الفقراء وأن تكونَ مع الناسِ على نفسِك فإنك إذا كنتَ عليها فأنت لها والسرورِ بصلاحِ الأمة والغم بفسادها وتقديمِ من قدّمَه الله ورسوله وتأخير من أخّره الله ورسوله فيما قدّمه وفيما أخّره فإذا لبستَ هذه الملابس كنتَ من أهل الصفوف الأولى المقبولين عند الله تعالى وقعدتَ فى صدور مجالسِهم فهذه ملابسُ أهل التقوى التى هى خير لباسٍ فاجهدْ أن تكون هذه ملابسَك أو أكثرُها فعليه الجماعةُ وعليه ألبس شقيقٌ البلخىُّ حاتمًا الأصم وأصحابه ولم يكُن به صمم وإنما كلمته امرأة فخرج منها صوت يعنى ضرطت فخجلت من الشيخ فقال لها وهى تحدثُه ارفعى صوتك جدًّا يُظهِرُ أنه لا يسمع فزال خجلها وقالت ما سمعنى فسُمّىَ لذلك حاتمًا الأصمّ فعلى مثل هذه الأخلاق دَرجوا وهى لباسهم وحُليُّهم وعليها لبِسْتُ وألبَسْتُ من ألبَسْتُهُ ولله الحمد على ذلك. انتهى كلام ابن العربىّ بشىءٍ من التصرُّف والاختصار وما ذكرَهُ من شروطٍ جامعةٍ لخصال الخير هو أصول طريق القوم وهو المقصودُ من الخِرقةِ لا مجرّدُ لباسِ الأبدان كما يقول من لا عِلْمَ له.

والله تعالى أعلم


[١]المرجع كتاب نسب الخرقة للشيخ محِى الدين بن عربِى رحمه الله تعالى.

[٢]ينسب بعض الناس للشيخ محيى الدين من الحُلول والوَحدة مما هو كفرٌ صريحٌ فهذا لا يثبت عنه، وما فى مؤلفاته من مِثْلِ هذهِ الكلماتِ مدسوسٌ عليه وقد تبيّنَ ذلك للشيخ عبد الوهاب الشعرانىّ عند مقابلته نسخةَ الفتوحاتِ التى هى بخط ابن عربىّ بغيرها من النسخ كما صرَّحَ بذلك فى لطائف المنن وقال فيه أخبرنى الشيخ أبو طاهر عن شيخه عن الشيخ بدر الدين بن جماعة أنه كان يقول جميع ما فى كتب الشيخ محيى الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء فهو مدسوس عليه وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب القاموس اﻫ وقال صاحب المعروضات المزبورة من مشاهير الحنفية تيقَّنَّا أنّ اليهود دسُّوا عليه فى فصوص الحكم اﻫ وقد وَثَّقَ الشيخَ محيى الدين بن عربىّ الحافظُ ابنُ النجار فقال اجتمعتُ به بدمشقَ وكتبتُ عنه شيئًا من شعره ونِعْمَ الشيخُ هو اﻫ ووثَّقَهُ الحافظُ الدبيثىّ فى تاريخه وكلاهما عاصراه والتقيا به وهما من مشاهيرِ علماءِ الحديثِ والأثرِ ووثقه كذلك الحافظُ تقىّ الدين الفاسىّ فى ذيل التقييد وهذا شاهدٌ لبراءتِهِ من الكفريّات التى نُسِبَتْ زورًا إليه. وانظر كتاب التحذير الشرعىّ الواجب للشيخ عبد الله الهررىّ رحمه الله فإنه قد استوفى الكلام فى أوّلِهِ فى هذه المسئلة بتحقيقٍ وإنصافٍ. أبو لبابة.

[٣]أى لا تَدَعْ خادمًا لك يمشِى خَلْفَكَ.

[٤] أى لا يكنْ همُّكَ أن تنال بما تقول إعجاب الناس.

[٥] أى لا تجزع من إظهار عيوبك لك.

[٦] (الكهف/٢٨- ٢٩).