حِفْظُ الأَصْغَرَيْن عنِ اعتِقَادِ مَنْ زَعَمَ

أنَّ الحَرَامَ لا يَتَعَدَّى لِذِمَتَين[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ أبى الإخلاص حسن بن عمار

الشُرُنْبُلالِى الحنفى المتوفى سنة ١٠٦٩ هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

حمدًا لمن منَّ علينا بتعليمه الأحكام وتفضّل علينا بتبيين الحلال والمشتبه والحرام وشهادة بالوحدانية لله الذى لا إله إلا هو المنزّل فى كتابه المحكم {ومَنْ يَتَعَدَّ حدودَ اللهِ فقد ظَلَمَ} وشهادةً للحبيب المصطفى والخليل المجتبى برسالة للناس كافة فبَشَّرَ وحذَّرَ وأنذر بأقوالٍ شريفةٍ هى لنا عن الغَىِّ كافة.

فمنها قوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يَريبك) أى اترك ما شككتَ فى حِلّه وإباحته إلى ما لا تشكُّ فِى حله وإباحته وذلك هو الورع المطلق الِذى به من ربْقة الذُّلِّ يطلق، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وبعد فيقول العبد الفقير إلى لطف الله الخفِىّ أبو الإخلاص حسن الوفائِىُّ الشُّرُنْبُلالِىُّ الحنفِىُّ غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وذريته وإخوانه محبيه والمسلمين إنه قد كثر السؤال عن قول من قال إن الحرام لا ينتقل لذمتين ونسبه لمذهب الإمام أبى حنيفة عمدة الزاهدين الذى أسس بناء مذهبه على تقوى من الله ورضوان وشهد بذلك العلماء العاملون الأعيان.

فسَطَّرت ما به الردّ على ذلك الزاعم الظالم وسميته حفظ الأصغرَينِ عن اعتقاد من زعم أن الحرام لا يتعدّى لذمتين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنّ الحرام بيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقَى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعِى يرعَى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب اهـ رواه البخارِىُّ ومسلم.

هذا كلام النبى صلى الله عليه وسلم وأما الفقهاء فقد قال فى الخلاصة الشبهة إلى الحرام أقربُ كذا قال أبو يوسف رحمه الله، والمكروه تكلموا فيه والمختار ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله أنه إلى الحرام أقربُ ونصَّ محمد رحمه الله أنَّ كلَّ مكروهٍ حرام مالم يقم الدليل بخلافه اهـ

وفى الخلاصة نهر مغصوب أراد إنسانٌ التوضؤَ أو الشرب منه إن حوّل النهر عن موضعه يُكره وإن لم يحول لا يكره اهـ لأن الغصب يتحقق بالتحويل.

وفيها رجل غصب طاحونة وأجرى به ماءها فى أرض غيره من غير طيب صاحب الأرض لايحل للمسلمين الانتفاع بهذه الطاحونة إذا علموا بذلك لا شراء ولا إجارة ولا طحنًا بأجر ولا عارية اهـ

رجلٌ مرّ فى الطريق الـمُحْدَثِ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله إن علم أن صاحب الأرض أحدثَهُ فى ملكه يباح له المرور فى الطريق وإن لم يعلم يجوز المرور فيه حتى يعلم أنه غصب انتهى.

والقاعدة أن كل ما استفيد بفعل لا يحِلُّ كالغصب لا يجوز تناوله ولا الانتفاع به كالمقبوض ببيع فاسد إلا إذا جعله صاحبه فى حلٍّ ولو قبض القيمة ولذا وجب على كل منهما فسخ العقد الفاسد خروجًا عن فعلٍ لا يجوز.

وفى الفتاوى قدم السلطان مأكولًا إن كان مشتراه أكل وإن لم يعلم أن عينه مغصوبة أكله.

وفيها أيضًا غالب مال المُهدِى إن حلالًا لا بأس بقبول هديته وأكله ما لم يتبين أنه حرام وإن كان غالب ماله الحرامَ لا يقبلها ولا يأكل إلا إذا قال إنه حلال ورثه أو استقرضه انتهى. قال الشيخ الإمام علِىٌّ المقدسِى رحمه الله أقول فيه إذا كان أكثر ماله حرامًا كان فاسقًا فكيف يُقبل انتهى.

وإنما قال يُتصدق بالخبيث بنية الخصماء لينبه به على أنه لا يقصد به ثوابًا ولا التقرب إلى الله تعالى لما قال ابن وهبان فى منظومته رحمه الله تعالى (من الطويل)

ومن دفع المال الحرامَ لسائل     فكفرٌ إذا يـــــرجــــــــــــــو بـــــــه أن سيـــــــؤجرُ

ولو علم المعطى به فدعا له     وأمّن من أعطى فالاثنين كَفَّروا

وقال ابن الشحنة فى شرحها المراد بالسائل هنا الفقير ومسألة البيت من الطهيرية رجل دفع إلى فقير من المال الحرام شيئًا يرجو به الثواب يكفر لو علم الفقير بذلك فدعا له وأمّن المعطِى كفروا جميعًا اهـ

قال المؤلف وينبغِى أن يكون كذلك لو كان المؤمن أجنبيًا غير المُعطِى والقابض وكثير من الناس عنه غافلون ومن الجُهّال فيه واقعون انتهى.

قال فى البزازية من كتاب القضاء تصدق على فقير بشىء من المال الحرام راجيًا الثواب يكفر ولو علم الفقير بذلك ودعا له وأمّن المُعطِى كفرًا اهـ ثم قال عقبه إذا قال الخمرة ليست بحرام يكفر لأنه استحلّ الحرام القطعِىّ اهـ فعلم بهذه العلة المذكورة أن مسألة التصدق أيضًا محمولة على ما إذا تصدق بالحرام القطعِىّ.

قالوا والضابط فيه أنه متى تغيّرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها ومعظم منافعها أو اختلطت بملك الغاصب بحيث لا يمكن تمييزها أصلًا أو زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدِىَ بدلها كى لا يلزم منه فتح باب الغصوب وفى منعه حسم مادّته.

وإطلاق قول الكنز (وملك بلا حل انتفاع) تصريح ببقاء الحرمة وشاملٌ كُلَّ مَنْ علم بالغصب مع تبدُّل العين قبل أداء بدلها وطيب خاطر المغصوب منه فلم يصح مانسب إلى الحنفية من أن الحرام لا يتعدَّى ولا ينتقل إلى ذمتين إذ لا أصل لذلك فى المذهب ولذا صرح بحرمة تناول المغصوب ولو خُلط بغيره بحيث لا يتميّز أو يعسر تمييزه كما فى كثير من الكتب المعتمدة وهِى صريحة فى بُطلان ما يجرِى على لسان الجهلة من أنّ الحرمة لا تنتقل إلى ذمّتين وينسبون ذلك لمذهب الإمام أبى حنيفة، وكيف يُنسب ذلك لمذهب الإمام وقد امتنع عن أكل اللحم لمّا غُصبت شاةٌ فى زمنه فسأل كم تعيش الشاة وتوقاه خشية وصول لحم المغصوب إليه لعلمه بوقوع الغصب. وهذا ردّ على من يزعم عدم تَعَدِّى الحرام لذمتين.

فإن قلت يمكن أن يكون امتناع الإمام تورُّعًا لتوقِى الشبهات لا الحرمة قلتُ صريح مذهبه ما قلناه مِن تعلّق الحُرمة بالعين المغصوبة فكل من علم به حرم عليه تناولها كما قدّمناه عن الفتاوِى.

كما أنه حُكِىَ عن الشيخ الزاهد نجم الدين بن عمر النسفِىّ رحمه الله أنه كان لا يُصحح ما ذكر عن أبى حنيفة من أنه إذا غيّر العين بنحو طبخ وطحن ملكها ولا يحل الانتفاع حتى يؤدِى بدلها فكان الشيخ الزاهد عمر النسفِىُّ لا يصحح ما ذُكِرَ عن أبى حنيفة وكان ينكر أن يكون ذلك قول أبِى حنيفة وكان يقول الصحيح عند المحققين من مشايخنا على قضية مذهب أصحابنا أن الغاصب لا يملك المغصوب إلا عند أداء الضمان أو قضاء القاضِى بالضمان أو تراضِى الخصم على الضمان وإذا وُجِدَ شىء من هذه الأشياء الثلاثة يثبت الملك وإلا فلا انتهى. فَنَفَى الملك بنحو الطبخ كما انتفى الحِلُّ قبلَ أداء الضمان على القول بملك المغصوب إذا زال اسمه ومعظم منافعه بالطحن ونحوه فوقع الاتّفاق على أنه لا يحل الانتفاع إلا برضا الخصم لا بوجوب البدل كما أن عند الصاحبين يشترط لطيب الانتفاع أداء البدل والفتوى على قولهما كما فى الفيض والخلاصة.

فهذا ينفِى حلّ الاقدام على إتلاف المغصوب بنحو أكل قبل رضا صاحبه. وكذا لا يطيب للغاصب أن يأكل أجرة ما غصبه كأن غصب دابة أو عبدًا مثلًا وأجّره يتصدق بالغلة ولو نقصه الاستغلال وضمن الغاصب النقصان يتصدق الغاصب بالغلة.

وقال نصير رحمه الله فى أيام غارة المسلمين لا يُشترى من العساكر شىء لأنه حرام ملك الغير ولا يباع منهم شىء بالدراهم لأنهم خلطوا الدراهم انتهى. قلت وإطلاقه عدم الحِلّ بالشراء والبيع بتلك الدراهم ظاهر على قول مشايخنا قبل أداء الضمان.

وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن أكل طعام السلاطين والظلمة وأخذ الجائزات منهم فقال ينبغِى أن يتحرى عند الأخذ والأكل فإن وقع فى قلبه أنه حلال يأخذ ويتناول وإلا فلا كذا فى الخلاصة انتهى.

وإذا بلغ المال الخبيث نصابًا لا تجب فيه الزكاة لأن الكل واجب التصدق وهذا فِى الذِى لا يجب ردُّه لصاحبه بعينه وإلا فهو دَيْنٌ جميعًا ولا زكاة فيه فإن قلت كيف ساغ للفقير تناول ما فيه خَبَثٌ دون الغاصب قلتُ محمله عدم علمه بحقيقة الحال وإن علم فهو كغيره إلا أنه إذا لم يجد الفقيرُ غيرَهُ كان كالمضطر فيتناول حينئذ.

فإن قلتَ [قال فى كافى النسفِىّ (كما لا يحلّ أكل الحرام لا يحل دفعه لغيره ليأكله) انتهى. وإن ما لا يحل للشخص تناوله لا يحل له فعله بغيره كلبس الحرير وإلباسه وشرب الخمر وسقيه وكما كره استقبال القبلة بالفرج فى الخلاء لا يباح إجلاس صبِىٍ للقبلة كذلك فكيف أمرتم الغاصب بالتصدق بالربح أو بالعين المغصوبة وقد تغيّرت مع أنه لا يباح للغاصب تناولها قبل أداء الضمان.] قلتُ أمرناه بذلك استدلالًا بقصة الشاة المصلية وأمره صلى الله عليه وسلم بإطعامها الأسرى ولأنه لما تبدلت العين ودخلت فى ملك الغاصب وزال ملك المغصوب منه عنها ومع ذلك مُنع عن الانتفاع بها حسمًا لمادة الغصب وسدًّا لبابه لم يبقَ إلا تفريغ الذمة عنها بالتصدق كيلا يتلف المال من غير انتفاعِ محتاجٍ إليه وهو الفقيرُ ولذا لا يُقصد به تحصيل الثواب بل تفريغ الذمة وعَلِمْتَ أن ما بقى بعينه على حاله وقت الغصب ولم يختلط بما يعسر تمييزه عنه لزم ردّ عينه لمالكه لبقائه على ملكه.

فإن قلتَ [إنَّ تبدّل الملك كتبدل العين فإذا تبدل الملك فى المال الحرام زالت الحرمة بتبدل الملك كما فى صدقة أخذها المكاتب وأداها لسيده الغنى أو الهاشمِىّ ثم عجز المكاتب فإنها تطيب لسيّده بتبدُّلِ الملك وكذا ابن السبيل إذا وصل إلى ماله وبيده صدقة أخذها حين انقطاعه عن ماله وكفقير مات عن صدقة أخذها تطيب لوارثه الغنِىّ.] قلتُ إنما زالت الحرمة بتبدل الملك فى ذلك المقيس عليه ولم تزل فى المقيس مع تبدل الملك فى كل منهما لأن الحرمة فى المقيس عليه ليست لمعنى قائم بالعين إذ لا خبث فى نفس الصدقة وإنما الخبث فى فعل الآخذ الغنِىّ لكونه إذلالًا له ولا يجوز ذلك للغنِى من غير حاجة ولا للهاشمِىّ لزيادة حُرمته وحلّت لغيرهما لأنها صدقة طيبة فى ذاتها مأخذوة برضا مالكها لمستحقها فما حرمت على الغنِىّ والهاشمىّ إلا لصونه عن ذُّل الأخذ بوصف الغِنَى القائم به وصونًا لقرابة النبى صلى الله عليه وسلم عن أوساخ الناس فالمُحرّم عليهما ابتداءً الأخذ للصدقة لذلك المعنى، فإذا عجز المكاتب لم يوجد من المولى ابتداءً الأخذُ بل استدامته وكذا ابن السبيل والفقير إذا مات لم يوجد ابتداء الأخذ بل استدامته فحلّ المأخوذ وطاب للوارث بخلاف العين المغصوبة فإن الحرمة القائمة بها لا تزول بتبدّل الملك، ألا ترى إلى بقاء وصفها بالغصب ولذا كان امتناع النبى صلى الله عليه وسلم ومنعه أصحابه عن أكل الشاة المصليّة لبقاء الحرمة بوصف الغصب مع تبدّل الملك فيها كما قدّمناه، ولما كان وصف الصدقة له صلى الله عليه سلم المُقتضِى لمنعه عن أكل الصدقة ابتداء قد زال بتبدّل الملك أكل النبى صلى الله عليه وسلم مما أُهدىَ من بريرة وكان قد تصدّق به عليها وبيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم هو لها صدقة ولنا هدية كما روته عائشة رضى الله عنها قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبُرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال ألم أر بُرمة فيها لحم قالوا بلى ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال هو عليها صدقة ولنا هدية اهـ استُفِيدَ هذا من شرح الكنز والهداية.

وفى هذا القدر كفايةٌ لإثباتِ ما أردنا مع قصر الباع وضيق الحال والاطلاع

والحمد لله رب العالمين.


[١] المرجع كتاب حفظ الأصغرين عن اعتقاد من زعم أن الحرام لا يتعدى لذمتين للشرنبلالى رحمه الله تعالى.