هل يتحول التراث العربى إلى طلاسم[١]

قبسات من فوائد الشيخ محمود محمد الطناحِىّ
المتوفى سنة ١٤١٩ هـ رحمه الله تعالى

لم يعد خافيًا على أحد ذلك التدنِّى الذِى وصل إليه خريجو أقسام اللغة العربية فِى جامعتنا خلال العقود الأخيرة، وهؤلاء الخريجون هم الذين يَتَوَلَّوْنَ تعليم أولادنا فِى المدارس، وهم أيضًا الذين يُسْمِعُوننا الكلمة العربية من خلال الإذاعة والتلفزيون، ولو تُرك الأمر على ما هو عليه الآن فالله وحده هو الذى يعلم أبعاد الكارثة التِى ستُطبِق على هذه الأمة، ونخشَى أن تغشانا طوارقُها ذات يوم وقد استحال تراثنا الذى ضَنِىَ به الأوائل خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان ألغازًا وطِلَّسْمَات[٢] كالذى تراه على جدران المقابر والمعابد ولفائف البَرْدِى رموزًا قديمة تخفى على جمهرة الناس ولا يعقلها إلا العالمون, ويومها سنقول

استعجمتْ دارُ مَىٍّ ما تُكلِّمنا           والدارُ لو كلَّمتنا ذاتُ أخبارِ

         وها هى نُذُر الفتنة قد أطلت برأسها فلن يستطيع أحد مهما غلا فى تقدير كليته أو معهده أن يزعم أن طالبًا متخرجًا فى هذا المعهد أو تلك الكلية يستطيع الآن أن يقرأ سطرًا من كتاب سيبويه فضلًا عن أن يفهمه أو يحل رموزه وإذا لم يستطع خرَّيج كلية تُعنى باللغة العربية وآدابها أن يقرأ سيبويه فمن ذا الذى يقرأه؟! وإذا لم يقرأه فى سنى دراسته فمتى يقرأه؟!

إن الأخطاء اللغوية والنحْوية صارت تأخذ علينا الطرق وتأتينا من كل مكان، وهى أخطاء بشعة مفزعة تشمل كل شىء من الأخطاء فِى أبنية الأسماء وأبنية الأفعال ومخارج الحروف وصفاتها وأسماء الأعلام والكنى والألقاب والأنساب ولا تسأل عن غياب العلامة الإعرابية أو التخليط فيها.

وقد كنت عُنيتُ يومًا برصد هذه الأخطاء وتحليلِها ولكنِى رأيت الأمر قد اتسع اتساعًا عظيمًا وتشعَّب تشعُّبًا مفزعًا وأصبحت أنا وهذه الأخطاء كالذى قاله الأول

تكاثرت الظِّباءُ على خِراشٍ      فما يدرى خِراشٌ ما يصيدُ

وإن أبناءنا وبناتنا فى معاهد العلم ليأتوننا كل يوم بكل غريبة وعجيبة من معلميهم ومعلماتهم وكلما رتقتَ فَتْقًا تخرَّق عليك آخَرُ وكلما سددتَ ثلمة انفتحت أمامك أخوات لها أوسع وأبشع.

والسوأة السواء فى تلاوة القرآن العزيز فقد استعجم كلام ربنا عز وجل على ألسنةِ معلمِى المدارس وصاروا يتلونه على تلاميذهم محرَّفًا ومُزَالًا عن جهته ثم أصبحت تسمعه من بعض المذيعين والمذيعات كذلك مغلوطًا ملحونًا. وهذه هى المصيبة التى تتضاءل دونها كل مصيبة وهذا هو الخطر الماحق الذى يجب أن نقف جميعًا أمامه ندرؤه وندفعه فإن القضية بهذه المثابة قد صارت دينًا يُغتال وشريعةً تُنتهك، ولا بد أن يقول فيها كل غيور على دين الله كلمته لا يتتعتع ولا يتلجلج، لا يفزعه سُخُط الساخط ولا يخيفه سلطان هؤلاء الذين يظنون أن بيدهم إغلاق الأبواب وفتحها وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه[٣] اهـ

عودٌ على بدء

ولقد تابعتُ هذه القضية منذ زمان بعيد ورأيتُ أهل العلم يردونها إلى أسباب كثيرة. على أنِى لم أرَ من وضع يده على أصل البلاء ومكمن الداء إلا قارئًا كريمًا هو الأستاذ طارق البوهِى بكَفْرِ الشيخ وقد علمتُ فيما بعد أنه من رجال التربية وقد جاء رأيه هذا فِى سطر واحد منشور فِى باب مجرد رأى بجريدة الأهرام قال لا يجب أن لا نقسو كثيرًا على الشباب فهم نتاج البذور التِى أُلقيت والتعليم الذى أعطِىَ لهم ومجالات الثقافة التى تلقوها. وهذا رجل صادق عرف الحق فقاله ولم يضيّع نفسه ويضيّعنا فى متاهات التفلسف والتنظير واللف والدوران.

ثم إنه أحسن الله إليه قد وضع القضية فى حاقِّ موضعها. ماذا يتلقى طالب العربية الآن فِى كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات؟ أمشاجٌ من قواعد النحو والصرف مطروحة فِى مذكرات يُمليها الأساتذة إملاءً أو يطبعونها طبعات تزيد عامًا وتنقص عامًا واختفى الكتاب القديم لتحل محله هذه المذكرات والمختصرات ودُفع الطلاب دفعًا إلى الملل من قراءة الكتب والمللُ من كواذب الأخلاق كما قال عمرو بن العاص.

إن هجر الكتاب القديم وهو وعاء العلم ومستودع التراث والاستعاضة عنه بالمذكرات والمختصرات قد حجب عن هذا الجيل كُوَى النور، وحَلَّأهم عن موارد العلم وكان من أخطر الأمور ردُّ ذلك إلى التيسير والتسهيل والتخفيف على الناشئة، ولقد مضينا فِى التيسير والتسهيل خطواتٍ وخطواتٍ حتى انتهينا إلى هذا الذى نشكو منه ونضيق به ونسأل الله السلامة منه.

على أن تيسير النحو قد سلك دروبًا مظلمة فليس من التسهيل والتيسير أن تدع زيدًا وعمرًا فى التمثيل لتقول سميرًا وأشرف وليس من التسهيل والتيسير أن تترك التمثيل على القاعدة النحوية بالشاهد القرآنِى والحديثِى وأشعار العرب وأمثالها لتكتب قصة متكلفة عن نزهة فِى القناطر الخيرية أو زيارة إلى أهرامات الجيزة أو حكاية عن الفلاح فِى الحقل لتستخرج من كل ذلك شواهدك على القاعدة النحوية والصرفية.

وليس يَشُكُّ عاقلٌ فِى أن التمثيل لتقدم المفعول على الفاعل بمثل قطف الوردة طفلٌ ليس فِى قوة الاستشهاد بقوله تعالى فلا سورة البقرة {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} وقوله: {إذ حضر يعقوب الموت} وقوله فى سورة ءال عمران {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} وقوله فى سورة الحج {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} وقوله فى سورة فاطر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث السابق ألا لا يمنعن رجلًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه اهـ وقول جرير

جاء الخلافةَ أو كانت له قدَرًا         كما أتى ربَّه موسى على قدَرِ

 فأنت مع المثال الأول أمام تركيبٍ تمثلت فيه القاعدة النحوية لكنه كالتمثال الأصم فاز من الوسامة والقسامة بحظ ونصيب وافرين ولكنه تمثال جامد فاقد الحركة والنطق. أما مع الأمثلة القرآنية والحديثية والشعرية فأنت أمام نماذج تمور بالحركة مع ما تعطيه من أنس خبرة بالأبنية والتراكيب العربية. ومن هنا احتلت الشواهد التراثية فى تقعيد النحو مكانة عالية.

على أنه ينبغِى أن يكون واضحًا أن فكرة التيسير على الناشئة كانت ظاهرةً بيّنةً فى فكر النحاة الأوائل رضوان الله عليهم، فابنُ السراج المتوفى ٣١٦ هـ يؤلف كتابًا كبيرًا فى النحو هو الأصل ثم يضع إلى جانبه مؤلفًا صغيرًا جدًا هو الموجز، وأبو على الفارسى ٣٧٧ هـ يؤلف الإيضاح وهو متن صغير سهل العبارة إلى جانب كتبه الكبار التذكرة والشعر والحجة والشيرازيات، وأبو القاسم الزجاجى ٣٤٠ هـ يصنف كتابًا فى الفكر النحوى هو الإيضاح فى عِلَل النحو ثم يؤلف للناشئة كتابه الشهير الجُمل وهو كتاب سهلٌ رَهْوٌ وقد جاء عنوانه فى الأصل المخطوط هكذا كتاب الجُمل فِى النحو . اختصار أبى القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجِى أرأيت إلى كلمة اختصار؟

وقد وقفتُ عند كتابٍ غريبٍ أراه صورة واضحة الدلالة على أن علماءنا الأوائل كانوا مشغولين حقًا بتربيةِ الناشئةِ والتيسيرِ عليهم والتدرجِ معهم فى تعليم النحو، وذلك هو كتاب إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم لأبى عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بابن خالَويه المتوفى سنة ٣٧٠ هـ. لقد كان المألوف فى زمن ابن خالَويه والأزمان التى سبقته والتى جاءت بعده أن يتصدى العلماء لإعراب القرآن الكريم كله ولكن الذِى صنعه ابن خالَويه شىء عجب، لقد وضع كتابه لإعراب ثلاثين سورة فقط، مبتدئًا بسورة الطارق ومنتهيًا بسورة الناس ثم افتتح كتابه هذا بإعراب الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب. ولا تفسير لصنيع ابن خالويه هذا وإيثاره لإعراب قصار السور هذه إلا أنه وضع الناشئة أمامه لأن هذه السور من أوائل ما يحفظه الصبيان من الكتاب العزيز وأنها كثيرة الدوران على ألسنتهم وأن عرض قواعد النحو والصرف من خلال هذه السور القصار مما يثبّتها ويمكّنها فى النفوس.

فتعليم النحو من خلال هذه الكتب القديمة الموجزة فيه تثبيت للعربية وتمكينٌ لها فى النفوس مع التقاط معارف أخرى تأتى من خلال الشواهد والنصوص.

وينبغى أن نحسن الظن بناشئتنا ولا نخشى عليهم من التعامل مع الكتاب القديم فإن فيهم خيرًا كثيرًا. ولقد كانت لى تجربة جيدة هذا العام حين دُعِيتُ إلى تدريس النحو لطالبات السنة الأولى بكلية البنات بجامعة عين شمس، وقد قرأتُ معهن شيئًا من كتاب شذور الذهب على خوف منِى ووجل، لكنى صبرت نفسِى معهن واحتشدت لهن احتشادًا وكانت تجربة ناجحة جدًا وتلقت الطالبات كلام ابن هشام بقبول حسن، وقد رأيت من هؤلاء الطالبات نماذج مبشرة بخير كثير.

جيل المتون

على أن أخطر ما فى هذه القضية أن يقترن تعليم النحو من خلال المذكرات والمختصرات بالطعن على أئمة النحاة والإزراء بتصانيفهم وغياب المنهجية فى تآليفهم ومحاكمتهم إلى مناهج غربية ظهرت بعدهم بقرون.

ومما لا شك فيه أن أساتذتنا الأفاضل وزملاءنا الأكرمين الذين يدورون فى هذا الفلك إنما ينتمون جميعاً إلى الجيل العظيم، جيل المتون والحواشِى. نعم كُلُّهُمْ من جيل الحفظة، حفظة القرآن الكريم والمتون والمنظومات، وهذا شىء أعرفه تمامًا من الجيل الذى سبقنِى والذى زاملنِى والذِى جاء بعدى بقليل، فهؤلاء جميعًا قد تعلموا النحو من خلال الكتاب القديم على هذا السياق وبذلك الترتيب التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية، تنقيح الأزهرية للشيخ خالد الأزهرى، قطر الندى وبلّ الصدى، شذور الذهب فى معرفة كلام العرب كلاهما لابن هشام شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك أوضح المسالك على ألفية ابن مالك لابن هشام شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان عليه.

وبهذه المسيرة الأصيلة الضخمة استطاع أستاتذتنا وزملاؤنا أن يفقهوا النحو ويبرعوا فيه ثم يكتبوا مذكراتهم ومختصراتهم. وأيضًا نقدهم للفكر النحوي. ولو أنهم تربوا من أول أمرهم على المذكرات وتعلموا من المختصرات لما فقهوا ولما برعوا ولما كتبوا نحوهم الكافى والشافى والصافى والوافِى.

ثم إن الخطر كل الخطر أن يصدر التشكيك فى النحو ومصطلحاته من أساتذة لهم فى النفوس مكان ولكلامهم فى القلوب وقع وتأثير. ومن ذلك ما وقع فى يدى ذات يوم من أحدهم بعنوان العربى بين حاضره وماضيه ضمن سلسلة مقالاته التِى اختار لها عنوان عربىٌّ بين ثقافتين وقد أدار كلمتَهُ هذه حول تقييم الموروث الذى انتهى إلينا من ماضينا وأنه ينبغِى علينا أن ننتقِىَ ونختار وأن ننظر إلى نوع الحصيلة التِى اخترناها لتكون هى ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نُسِىءُ الاختيارَ وكثيرًا جدًّا ما نفعل فنبث عوامل الضعف والشلل من حيث أردنا القوة وانطلاقه الحياة. ثم دلل على سوء الاختيار هذا بنموذج من تجربته الشخصية مع مدرس اللغة العربية الذى التقى به فى السنة الثالثة الابتدائية وذلك ما أملاه عليهم عن «إذا» و«أنها ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه» ثم تساءل الدكتور الفاضل عن جدوى تلك العبارة لا سيما والمتلقى طفل فى الحادية عشرة من عمره! وعَقَّبَ فقال وإنِى لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربِى إذ يحيا حياته حاملًا فى رأسه هذا الذى قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤديه، فإنما هو يحيا حاملًا معه نتفة من الماضِى لكنها نتفة عسيرة الهضم قد تصيب المعدة بالأذى وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاءً يقتات منه ليكون عربيًّا موصول الهوية بماضيه. فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يُعَدَّوَن بين حملة العلم فى بلادنا يحيون وهم يحملون فى رؤوسهم أطنانًا من أمثال هذه «المعرفة» التى إن صلحت فى الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق فهى لا تصح لحياتنا الناهضة وسيلة حفز ودفع وتحريك اهـ

هذا كلامُ الدكتورِ الفاضلِ وفيه من سلطان الذكاء وقوة العارضة ومن بريق العذوبة والحلاوة ما ترى ولكنه عند التحقيق منقوض ومردود عليه. فإن هذا المثال الذى ذكره الدكتور ورأى فيه أساس الداء ومدخل البلاء فى تعلم العربية «إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه» هذا المثال يستدعى بلا ريب عند بعض القراء أمثلةً أخرى من بابه ضاقوا بها أشد الضيق حين تلقوها أولَ مرة وخاصَّةً إذا لم يشتغلوا بالعربية وقضاياها فيما استقبلوا من أيامٍ وما صرفوا من اهتمامات، لكنه فى الوقت ذاته وبالقدر نفسه عند من اشتغلوا بالعربية وجعلوها ميدانًا لدراساتهم وأبحاثهم فيما بعد يذكر بأيام زاهية جادة صارمة وُضع فيها الأساس متينًا صُلبًا فقام البناء عاليًا شامخًا وإنما يمدح السوق من ربح كما تقول العرب فى أمثالها.

الضوابط الراسخة

وإنى سائل الدكتور الفاضل أى بأس فى ذكر هذا الضابط النحوِى!؟ وأى ضرر فى أن يتلقاه الصغار فيما يتلقون فى النشأة الأولى؟ والدكتور يعلم أن طبيعة تعلم العربية تقتضى حفظَ كثير من النصوص والضوابط لترسيخ القاعدة، ولذلك لجأ المصنفون قديمًا إلى المنظومات العلمية لضبط القواعد وتثبيتها، ثم كان من ذلك أيضًا تلك الضوابط النثرية لبعض القواعد، مثل «سألتمونيها» لحصر حروف الزيادة فى الصرف, و «سكت فحثه شخص» لضبط الحروف المهموسة، و «لم أر على ظهر جبل سمكة» لبيان الأسباب والأوتاد والفاصلة فى العروض.

ومن أطرف ما حفظناه من مشايخنا فى الصغر قولهم «صن شمله» رموزاً لأسماء الأنبياء المصروفة أى المنونة فالصاد لصالح والنون لنوح، والشين لشعيب، والميم لمحمد صلى الله عليه وسلم واللام للوط، والهاء لهود، عليهم السلام أجمعين فهذه الأسماء الستة تنوَّن وما عداها من أسماء الأنبياء يمنع من التنوين.

وكانوا يقولون لنا أيضًا لا تكسر الصَّحاح ولا تفتح الخِزانة يريدون «الصَّحاح» للجوهرِىِّ وأنه بفتح الصاد، وخِزانة الأدب للبغدادِىّ وأنها بكسر الخاء.

وقالوا «من حفظ المتون حاز الفنون» ولا شك أن الأستاذ الكبير يعرف فى جيله هذه المجموعة التى طبعت باسم «مجموع مهمات المتون» يشتمل على ستة وستين متنًا فى مختلف العلوم والفنون وتاريخ الطبعة الرابعة منه ١٣٦٩ هـ - ١٩٤٩م.

فهذا الذى يراه بعضهم «نُتْفةً من الماضى عسيرة الهضم قد تصيب المعدة بالأذى» هو عند النظر والتحقيق أساس العلم ومدخله بل هو الغذاء الذى تصح به المعدة, وتتكون عليه الأنسجة والخلايا، وما دخل علينا البلاء واستبد بنا الضعف إلا يوم أن هجرنا هذه الضوابط الكلية ونفرنا من الحفظ واجتوينا النصوص ثم غرقنا فى البحث النظرى الذى أسلَمَنا إلى التجريد والمطلق.

أما إشفاق الدكتور الفاضل عَلَى الصَّبِىِّ الذِى هو فى الحادية عشرة، أن يؤخذ إلى هذه التراكيب والمصطلحات المعقدة التى تصيب المعدة بالأذى فإن الدكتور الكريم يعلم علمًا ليس بالظن أن من أصحاب هذه السن فى جيله من أتم حفظ القرآن الكريم، وحفظ إلى جانبه شيئاً من المتون، مثل (متن نور الإيضاح) فى فقه الحنفية، أو (متن العشماوية) فى فقه المالكية، أو (متن أبى شجاع) فى فقه الشافعية، أو (متن زاد المستقنع) فى فقه الحنابلة، إلى جانب (متن الآجرومية) الشهير ... وإنى أعيد هنا ما ذكرته من قبل: أن أساتذتنا الذين كتبوا فى الدراسات اللغوية والنحوية الحديثة وشرَّقت كتبهم وغرَّبت، ينتمون جميعًا إلى جيل الحفظة حفظة القرآن والمتون والحواشى والمصطلحات، وما كان لهؤلاء الأساتذة أن يكتبوا ما كتبوا لو لم يحفظوا منذ الصغر «إذا ظرف لما يُستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه»، وأخواتها مثل «لا يُجمَع بين العوض والمعوَّض عنه» و «اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأُدغمت فى الياء وذلك فى مثل سيِّد».

ولا زلنا نحن أبناء الجيل التالِى الذِى تستطيع أن تشم فيه رائحةَ العلم لأننا وردنا الماء صافيًا قبل أن تكدِره الدِلاء ولأننا أدركنا معاهد العلم قبل أن يدهمها السيل أقول لا زلنا نذكر هذه المشاكل النحوية التِى التقينا بها فِى طراءة[٤] الصِّبا ورَيِّق الشباب[٥]، مثل إعراب قوله تعالى فى سورة طه {إن هذان لساحران} وكيف رُفع {هذان} وهو اسم {إن}، وتوجيه الرفع فى قوله تعالى فى سورة المائدة {والصابئون} فِى الآية الكريمة {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون} واختلاف المعنى باختلاف حركة الإعراب على الراء فى قوله تعالى فى سورة المدثر {ولا تمنن تستكثر } وعود الضمير على غير مذكور فى قوله تعالى فى سورة ص {حتى توارت بالحجاب} أى الشمس، والمصدر المتصيد فى قوله تعالى فى سورة الزمر {وإن تشكروا يرضه لكم} أى الشكر، وقوله {ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغيانا} فى سورة الإسراء أى التخويف، وقوله تعالى فى سورة ءال عمران {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم} أى الإيمان، ثم فى مثل قول الشاعر

إذا نُهِىَ السفيه جَرى إليه         وخالفَ والسفيهُ إلى خلافِ

أى جرى إلى السَّفَه.

كل هذا كنا نستظهره ونديره على ألسنتنا فى سهولة ويسر، كانت أسناننا فى تلك الأيام لا تتجاوز الخامسة عشر. نعم كلُّ هذا عرفناه وخبرناه، وجرى منا مجرى المحفوظات والمأثورات، فأورث ملكة فى النحو، وأكسب إحساسًا بالعربية فى أبنيتها وتراكيبها، حتى إذا غَبِىَ[٦] علينا شىء من هذه الأبنية والتراكيب فزعنا إلى ذلك المذخور من أيام الصِبا فأسفر وجهُه ودان عَصِيُّه. فهل عند أبناء اليوم من ذلك شىء؟

ولا يصح أن يقال إن هذا الذى ذكرته كان سمة التعليم الدينى أو التعليم الذى تغلب عليه العربية كالذى فى الأزهر الشريف ودار العلوم، فإنه يُعْلَمُ علم اليقين مواد العربية التى كانت تُقدَّم لتلاميذ المدارس فى التعليم العام أو الأميرِى. وأمامى الآن طبعة ثانية من «معجم المصباح المنير» للفيومى المتوفى سنة ٧٧٠ هــ، وتاريخ هذه الطبعة ١٩٠٩ من وكُتب على صدرها «قررت نظارة المعارف العمومية طبع هذا الكتاب على نفقتها واستعماله بالمدارس الأميرية». وكذلك يُعْلَمُ كتب التراث التى كانت مقررة على طلبة المدارس الثانوية بالإضافة إلى طائفة أخرى من الكتب المشحونة بالنصوص, مثل «مجموعة النظم والنثر» لعبد الله باشا فكرى والمنتخب من أدب العرب.

هذا إلى أن الأزهر الشريف كان موجهاً لتعليم النحو فى المدارس ومهيمنًا عليه، فهذا الكتاب الشهير الدروس النحوية (الذى ألفه حفنِى بك ناصف مع محمد أفندى دياب والشيخ مصطفى طموم ومحمد أفندى صالح) قررت نظارة المعارف العمومية سنة ١٣٠٤ هـ طبعه على نفقتها بعد تصديق شيخ الجامع الأزهر. وهكذا كان تعليم النحو والعربية فى مصر أيام عزها ومجدها من خلال الكتاب القديم أو الكتاب الحديث المؤسس على القديم والماضى فى طريقه.

فهذه العبارة النحوية التى نقلها الدكتور زكى نجيب محمود عن شيخه ينبغى أن تُؤْخَذُ فى إطار الجِدِّ والصرامة الذِى كان يشمل تدريس سائر العلوم فى ذلك الزمان. وما أَخَذَتْ مصرُ مكانتها التى تزهو بها فى العالمين فى مختلف العلوم والفنون إلا بذلك الجيل الذى أخذ بالجد فى كل أموره منذ النشأة الأولى والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم.

ولا سبيل لنا إذا أردنا صلاح الحال وإصلاح الألسنة إلا إحياء جيل المتون والحفظة وذلك لن يكون إلا بالعودة فى تدريس النحو إلى الكتاب القديم والنص التراثِى فإن ءاخر هذه الأمة لن يصلح إلاَّ بما صلح به أولها.

والله أعلم.

 


[١] المرجع مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطَّناحى.

[٢] يقال فكَّ طِلَّسمه أى وضّحه وفسره وكشف أسراره. المنتصر بالله.

[٣] أخرجه أحمد فى مسنده وهو صحيح.

[٤] طَراوة وطَراءة كناية عن الصِبا الباكر. المنتصر بالله.

[٥] رَيق الشباب ورَيْقُه ورْقُه أوله وهى من مادة ر و ق لا ر ي ق. المنتصر بالله.

[٦] أى خَفِىَ. المنتصر بالله.