وصول مثوبة القربات إلى الغير [١]

قبسات من فوائد الشيخ طيب مُلا عبد الله البَحركِىّ

حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه أمّا بعد فأرى من المناسب لظروف عصرنا الحاضر أن نكتب شيئًا حول وصول ثواب القُرَبِ المهداة إلى الغير فنقول وبالله التوفيق

أثنى سبحانه وتعالى على عباده الذين يدعون ويستغفرون لإخوانهم المؤمنين بقوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فتدل هذه الآية الكريمة بصراحة على أن المسلم يستفيد من عملِ مسلمٍ ءَاخَرَ وإلّا فأىُّ فائدة لدعائك لأخيك الذِى ءَامَنَ قبلك. قال الشيخ ابن علان الصديقِىّ تعليقًا على هذه الآية (وهذا دليلُ طلبِ الدعاءِ للميت ويقاسُ به الصدقةُ عنه بالأولى لأنهم إذا مُدِحُوا بالدعاء لهم فَلَأَنْ يمدحوا بالصدقة عنهم أولى)[٢] وفِى الآية دلالة أخرى فلنستطرد لبيانها قال المُحشِّى شيخ زاده (بَيَّنَ تعالى أن مِن شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء) فنأسف لبعض شباب زماننا يعتبرون سوء الأدب مع السلف الصالح علمًا وورعًا وتقوًى وثقافة وهم حينما فعلوا ذلك ناقضوا ما دلت الآية السابقة عليه فأصلحهم الله وتاب عليهم ءامين.

أيها الأخ الكريم اقنع بأن كل ما تفعله من أعمال البر والإحسان والعبادة إن أهديتَ ثوابها إلى غيرك من والديك أو أقاربك أو الأجانب من معارفك من المسلمين والمسلمات ودعوتَ بذلك عَقِبَ ما فعلتَ فالأملُ قوِىٌّ بوصولها إليهم فإنَّ فضلَ اللهِ واسع والأدلة التِى تأتِى تقتضِى ذلك والمسلمون منذ عصر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر مجتمعون على ذلك فهذا يدعو لميته المسلم وهذا يتصدق عنه وهذا يقرأ القرءان ويُهْدِى مثلَ ثوابه إلى المسلمين و(ما رءاه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن) فمن لم يره حسنًا يكون مقابل من؟ وقرينًا لمن؟

وإليك أيها القارئ العزيز بعض الأدلة الدالة على أنه يجوز أن ينتفع المؤمن بعمل مؤمنٍ ءَاخَرَ سواء كان صدقة أو دعاء أو قراءة أو أىَّ عمل صالح إن وصل إلى درجة القبول

١- روى الإمام المجتهد أحمد بن حنبل الشيبانِىُّ بسنده عن ابن عباس أن سعد بن عُبادة تُوفيت أمه وهو غائبٌ عنها فقال يا رسول الله إن أمِى توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدَّقت بشىء عنها قال نعم)[٣] ورَوَى هذا الحديث أيضًا البخارِىّ وأبو داود والنسائِى والترمذِى وقال بعض شراحه (وصولُ الصدقة والدعاء أى وصول نفعهما إلى الميت مجمع عليه لا اختلاف بين علماء أهل السنة والجماعة واختلف فِى العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرءان قال القارِىّ فِى شرح الفقه الأكبر ذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى صولها) انتهى.

٢- روى الإمام أحمد بسنده عن أم المؤمنين عائشة أن رجلًا قال للنبِىّ صلى الله عليه وسلم إن أمِى افتلتت نفسها أى ماتت فجأة وأظنُّها لو تكلَّمَت تَصَدَّقَتْ فهل لها أجرٌ إن أتصدَّق عنها قال نعم[٤] ورواه الشيخان أيضًا قال العلامة العينِى فِى شرح البخارِى تعليقًا على هذا الحديث ويستفاد منه أن الصدقة عن الميت تجوز وأنه ينتفع بها وأقام أدلة على هذا فمنها حديث أخرجه ابن ماكولا من حديث إبراهيم بن حبان عن أبيه عن جده عن أنس أنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا لندعو لموتانا ونتصدق عنهم ونحج فهل يصل ذلك إليهم فقال صلى الله عليه وسلم إنه ليصل إليهم ويفرحون به كما يفرح أحدهم بالهدية[٥].

٣- روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن ابن عباس عن سعد بن عبادة أنه أتى النبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقال إن أمِى ماتت وعليها نذر أفيجزِئُ عنها أنه أُعتق عنها قال أَعْتِـقْ عن أمك[٦] ورواه أيضًا البخارِىّ والإمام مالك والنسائى قال فى الفتح الربانِى فِى الصفحة نفسها يُستفاد من هذا الحديث أن أم سعد ماتت وعليها نذر فوفاه عنها وفِى حديث الحسن أنه تصدق عنها بِسَقْىِ الماء وفِى الحديث الأول من أحاديث الباب أنه تصدق عنها بحائطه المخرف ولا منافاة بين ذلك لاحتمال أن يكون سأل عن ذلك كله وفعل كل ذلك والله أعلم انتهى.

٤- روى الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر فِى الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة وأن عمرًا سأل النبِىَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما أبوك فلو كان أقرَّ بالتوحيد فَصُمْتَ وتصدقتَ عنه نفعه ذلك اهـ وسند هذا الحديث جيد كما فِى الفتح الربانِىّ.

٥- روى الإمام أحمد بسنده عن أبِى هريرة أن رجلًا قال للنبِىّ صلى الله عليه وسلم إن أبِى مات وترك مالًا ولم يوصِ فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه فقال نعم اهـ

٦- روى الإمام أحمد بسنده عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يس قلب القرءان لا يقرؤها رجل يريد الله تبارك وتعالى والدار الآخرة إلا غفر له واقرؤوها على موتاكم[٧] اهـ ورواه أيضًا أبو داود والنسائِى وابن ماجة وابن حبان والحاكم.

٧- وفِى مسند الفردوس كما ينقله لنا الفتح الربانِى بسنده عن أبِى الدرداء وأبِى ذر قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مِن ميّت يموت فيقرأ عنده يس إلا هوَّن الله عليه اهـ والحديث لا بأس به انتهى.

٨- روى البيهقِىّ والطبرانِىّ بسند جيد عن عبد الرحمن بن العلاء عن أبيه أنه قال لِبَنِيهِ إذا دخلتمونِى قبرِى فضعونِى فِى اللحد وقولوا بسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنُّوا علىَّ التراب سنًا واقرئوا عند رأسِى أوَّل البقرة وخاتمتها فإنِى رأيت ابن عمر يستحب ذلك[٨].

قال الشيخ البنا فى الفتح الربانِى فى الصحيفة نفسها (أحاديث الباب مع ما ذكرنا من الزوائد تدل على انتفاع الميت بما يهديه إليه الأحياء من أعمال الخير كالصدقة والصلاة والصيام والحج والعتق وقراءة القرءان وللعلماء فى ذلك مذاهب شتَى قال الحافظ ابن القيم فى كتابه الروح أجمع أهل السنة على انتفاع الأموات بشيئين

١- ما تسبب به الميت فِى حياته.

٢- دعاء المسلمين واستغفارهم والتصدق عنه والحج واستدل على ذا بآيات وأحاديث صحاح عدةٌ وأما العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرءان والذكر فمذهب أحمد وجمهور السلف وصولها قال الإمام أحمد الميت يصل إليه كل شَىْءٍ من صدقة وغيرها وقال اقرأ ءاية الكرسِى ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل اللهم فَصِلْهُ لأهل المقابر واستدل ابن القيم لجواز الصيام عن الميت بأحاديث منها حديث الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه ثم قال وسر المسألة أن الثواب ملك العامل فإذا تبرع به لأخيه المسلم أوصله أكرم الأكرمين إليه اهـ

قلتُ فما الذِى خصَّ من هذا الثواب قراءة القرءان وحَجَرَ على العبد أن يوصله إلى أخيه ولم يزل عمل الناس عليه فى سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من أحد العلماء قال فى شرح الكنز إنّ للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاةً كان أو صومًا أو حجًا أو صدقة أو قراءة قرءان أو غير ذلك من جميع أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه عند أهل السنة وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الإمام الشافعِىّ إلى أنه يصل، كذا ذكره النووِىّ فِى الأذكار.

أخرج مسلم وأبو داود والترمذِىّ عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه رضِى الله عنهما قال إن امرأة قالت يا رسول الله إنه كان على أمِى صوم شهر أفأصوم عنها قال صومِى عنها. وقد قيل إنه يقاس على هذه المواضع التِى وردت بها الأدلة غيرها فيلحق الميت كل شىء فعله غيره وقال الإمام القرطبِىّ فِى التذكرة كان الإمام أحمد يقول إذا دخلتم المقابر فاقرئوا فاتحة الكتاب والمعموذتين وقل هو الله أحد واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم وكان رضِى الله عنه ينكر قبل ذلك وصول الثواب من الأحياء للأموات فلما حدثه بعض الثقات أن عمر بن الخطاب رضىَ الله عنه أوصَى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة رجع عن ذلك ويؤيد ذلك

اتفاق العلماء على وصول الصدقة للأموات فكذلك القولُ فِى قراءة القرءان والدعاء والاستغفار إذ كلٌ صدقة ويؤيده حديثُ (وكل معروف صدقة) فلم يَخُصَّ الصدقة بالمال.

وقال الإمام النووِىّ أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه واحتجوا بقوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها والأحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) وكقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لحينا وميتنا) وغير ذلك[٩].

وقال ابن علان فِى شرح هذا الحديث والإجماع والخبر مخصصان لقوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعَى) إن أريد ظاهره وإلا فقد أكثروا فِى تأويله انتهى.

قال الإمام القرطبِىّ قلت وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره وقد تقدم كثير منها وليس فِى الصدقة اختلاف كما فِى صدر كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك وقد قيل إن الله عز وجل إنما قال (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ولام الخفض معناها فِى العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شىء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل) انتهى[١٠].

قال الحافظ السيوطِىّ إنّ المسلمين ما زالوا فِى كل مصر يجتمعون ويقرئون لموتاهم من غير نكير فكان ذلك إجماعًا قال الزعفرانِىُّ سألت الشافعِىّ عن القراءة عند القبر قال لا بأس به وقال النووِىّ فِى شرح المهذب يستحب لزائر القبور أن يقرأ ما تيسر من القرءان ويدعو لهم عقبها نص عليه الشافعِىّ واتفق عليه الأصحاب زاد فِى موضع ءَاخَرَ وإن ختموا القرءان على القبر كان أفضل ومن الوارد فِى ذلك ما تقدم من حديث ابن عمر والعلاء بن الحلاج مرفوعًا كلاهما كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا أىْ واحدًا خلفَ الآخر إلى قبره يقرؤون له القرءان اهـ ثم قال قال القرطبِىّ فِى حديث (اقرءوا على موتاكم يس) يحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت فِى حالة موته ويحتمل أن تكون عند قبره[١١] اهـ

وعبارة المنهاج للإمام النووِىّ مع شرحه للخطيب الشربينِى (وتنفع الميت صدقة ودعاء من وارث وأجنبِى وحكَى المصنف فِى شرح مسلم والأذكار وجهًا أن ثواب القراءة يصل إلى الميت كمذهب الأئمة الثلاثة واختاره جماعة من الأصحاب منهم ابن الصلاح والمحب الطبرِىّ وابن أبِى الدم وصاحب الذخائر وابن أبِى عصرون وعليه عمل الناس وما رءاه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وقال السبكِىُّ والذِى يدل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرءان إن قصد به نفع الميت وتخفيف ما هو فيه نَفَعَهُ إذْ ثَبَتَ أن الفاتحة لما قَصَدَ بها القارئ نفع الملدوغ نفعته وأقرَّهُ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم وإذا نفعت الحِى بالقصد كان نفع الميت بها أولى وقد جَوَّزَ القاضِى حسين الاستئجار على قراءة القرءان عند الميت وقال ابن الصلاح وينبغِى أن يقول اللهم أوصل ثواب ما قرأناه لفلان فيجعله دعاء ولا يختلف فِى ذلك القريب والبعيد وينبغِى الجزم بنفعِ هذا لأنه إذا نفعَ الدعاء بما ليس للداعِى فلأن يجوز بما له أولى وهذا لا يختص بالقراءة بل يجرِى فى سائر الأعمال. انتهى.

وقال الشيخ الرملِىُّ فِى نهاية المحتاج تعليقًا على قول المنهاج وتنفع الميت صدقة ودعاء ومعنى نَفْعِهِ بالصدقةِ تنزيلَهُ منزلةَ المُتَصَدِّقِ قال ابن عبد السلام إنَّ ما ذكروه من وقوع الصدقة نفسها عن الميت حتى يكتب له ثوابها هو ظاهر السنة قال الشافعِىّ وواسع فضل الله أن يثيب المتصدق أيضًا وأفهم كلام المصنف أنه لا ينفعه سوى ذلك من بقية العبادات وفِى القراءة وجه وهو مذهب الأئمة الثلاثة بوصول ثوابها للميت بمجرد قصده بها واختاره كثير من أئمتنا وحمل جمع الأول على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية القارئ ثواب قراءته له أو نواه ولم يدع) انتهى وكل ذلك فى تحفة المحتاج أيضًا وكتب المحشِى ع ش على النهاية فلو سقط ثواب القارئ لمسقط كأن غلب الباعث الدنيوي كقراءة بأجرة فينبغِى أن لا يسقط مثله بالنسبة للميت. انتهى.

وقال شارح تاج الأصول أيضًا قال الإمام أحمد وبعض المالكية وبعض الحنفية وبعض الشافعية إن القراءة مشروعة على الأموات وينتفعون بها لعموم الحديث ولعمل الأمة الآن وهذا هو الظاهر الذِى ينبغِى الاعتماد عليه للأمور الآتية

١- إن لفظ الموتَى أى فى حديث معقل بن يسار عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال اقرؤوا على موتاكم يس رواه أبو داود والنسائِىّ وأحمد وابن حبان وصححه نصٌّ فِى من مات فعلًا قال المحب الطبرِىُّ إن العمل بعموم الحديث هو الظاهر بل هو الحقُّ لحديث الدارقطنِىّ من دخل القبور فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ثم وهب ثوابها للأموات أُعْطِىَ من الأجر بعدد الأموات.

٢- القياس على قراءة الفاتحة فِى صلاة الجنازة.

٣- القياس على السلام المطلوب للموتى فِى زيارة القبور.

٤- إن السكينة والرحمة تنزلان فِى محل قراءة القرءان والميت فِى أشد الحاجة إلى رحمة الله.

٥- القياس على الصلاة على النبِىّ فإذا كان النبِىُّ صلى الله عليه وسلم ترتفع منازله عند الله بصلوات أمته فكيف لا ينتفع ءاحاد أمته بقراءة القرءان.

٦- ثبت أن رجلًا كان فِى سفر مع رفقة فضرب خبائه على قبر وهو لا يشعر فسمع إنسانًا يقرأ سورة تبارك الذِى بيده الملك حتى ختمها فذكر ذلك للنبِىِّ صلى الله عليه وسلم فقال هِى المانعة هِى المنجية فإذا ثبت قراءة القرءان من الميت فِى قبره فكيف نمنعها من الحِىّ على القبر. فالمانع ليس له دليل.

وهذا كله ما لم يُوهَبْ ثواب القراءة للميت وإلا كان نوعًا من الدعاء الذى ينتفع به الميت قطعًا ولا يرد قوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) لأنها فِى السابقين أو هِى من العام المخصوص بغير ما ورد كالصدقة والدعاء والقراءة. انتهى.

ثم قال (بل والحِىُّ أيضًا ينتفع بعمل الغير لقوله تعالى (وكان أبوهما صالحًا) ولقوله تعالى (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فِى الأرض) ولما يأتِى فِى الحج (إن أبِى أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ... أفأحج عنه قال صلى الله عليه وسلم نعم، ولما سيأتِى فِى الأخلاق (الدّال على الخير كفاعله) ولما سيأتِى فِى كتاب القيامة من الشفاعة ونحو ذلك فِى الشريعة كثير انتهى.

وقال الشيخ عبد الله بن قدامة المقدسِىّ الحنبلِىُّ فصلٌ وأى قُرْبَةٍ فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا وقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) وقال تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) اهـ ثم سرد صاحب الكتاب جملة من الأحاديث النبوية ثم قال وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على لانتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدينة وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها اهـ ثم سرد جملة من الأحاديث تدل على نفع قراءة القرءان على الأموات ثم قال وقال الشافعِىُّ ما عدا الواجب والصدقة والدعاء والاستغفار لا يفعل عن الميت ولا يصل ثوابه إليه لقوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ثم قال صاحب الكتاب ولنا ما ذكرناه وإنه إجماع المسلمين فإنهم فِى كل عصر ومصر يجتمعون ويقرئون القرءان ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير ولأن الحديث صحَّ عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه يحجب عنه المثوبة. انتهى ملخصًا.

وقال الإمام السيوطِىّ مسألة فِى من يقرأ ختمات من القرآن بأجرة هل يحل له ذلك وهل يكون ما يأخذه من الأجرة من باب التكسب أو الصدقة الجواب نعم يحل له أخذ المال على القرءاة والدعاء بعدها وليس ذلك من باب الأجرة ولا الصدقة بل من باب الجعالة.[١٢]

وورد فِى فتاوى شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصارِىّ النص التالِى (سئل عن إجارة من يقرأ لحِى أو ميت بوصية أو نذر أو غيرهما ختمة هل يصح ذلك من غير تعين زمان أو مكان فأجاب بأن الإجارة تصح لقراءة ختمة من غير تقدير بزمن وتصح بقراءة قرءان بتقدير ذلك سواء عَيَّنَ مكانًا أو لا، وقد أفتَى القاضِى حسين بصحتها لقراءة القرءان على رأس القبر مدة كالإجارة للأذان وتعليم القرءان، قال الرافعِىّ والوجه تنزيله على ما ينفع المستأجر له إما بالدعاء عقبها وإما بجعل ما حصل من الأجرة له والمختار كما قال النووِىّ صحة الإجارة مطلقًا كما هو ظاهر كلام القاضِى لأن محل القراءة مَحَلُّ بركةٍ وتَنَزُّلِ رحمةٍ وهذا مقصودٌ ينفع المستأجَرَ له وبذلك عُلم أنه لا فرق بين القراءة على القبر وغيره فالأجرة المأخوذة فِى مقابلة ذلك حلال كما قلناه ولعموم خبر البخارِىّ (إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله. والله أعلم). انتهى ملخصًا.

وفِى فتاوى الحافظ ابن حجر العسقلانِىّ (وأما الحادِى عشر وهو هل يصل ثواب القراءة للميت فهِى مسألة مشهورة وقد كتبت فيها كراسة والحاصل أن أكثر المتقدمين من العلماء على الوصول وأن المختار الوقف عن الجزم على المسألة مع استحباب عمله) انتهى.

وعبارة تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيتمِىّ (ويصح الاستئجار لقراءة القرءان عند القبر أو مع الدعاء بمثل ما حصل من الأجر له أو بغيره كالدعاء بالمغفرة عقبها عين زمانًا أو مكانًا أو لا) وكذا فِى نهاية المحتاج للشيخ الرملِىّ وكتب المحشِى رشيدِى على هذا الموضع من النهاية (فالحاصل صحة الإجارة فِى أربع صور

         ١- القراءة عند القبر.

         ٢- القراءة لا عنده ولكن مع الدعاء.

         ٣- القراءة بحضرة المستأجر.

         ٤- القراءة مع ذكره فِى القلب. انتهى.

        

عزيزِى القارِئ عرضنا أمامك الأدلة الثابتة القوية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وءاراء المفسرين ووجهات أنظار الفقهاء والمحدثين الكرام بعبارة واضحة حول الموضوع فلعللك لم يبقَ فِى بالك أىُّ شكٍّ فِى أن ما نفعله وفعله أسلافنا الصالحون رضى الله عنهم من الدعاء والاستغفار وقراءة القرءان والصدقات ونُهْدِى مثل ثوابها لبعض أحيائنا وأمواتنا مِن ءَابَائِنَا وأجدادنا وأساتذتنا وأصدقائنا وغيرهم له أصل ثابت من السنة المصطفوية وسار عليه أسلافنا.

عزيزِى القارئ تفكر فِى نفع ما ذهب إليه الجمهور فمن سلك طريقهم يدعو الله ويستغفره ويقرأ القرءان ويتقرب بأنواع القرب ويهدِى فضل ثوابها لبعض أحياء وأموات المسلمين مِن معارفه وربما حمله على هذه المكرمة ترحمه على أولئك الموتى ومن لا يسلك طريقهم لا يفعل شيئًا من المذكورات فأيهما أحسن فنرجوك عزيزِى القارئ أن تتخذ لأمثال هذه الأحكام قانونًا تمشِى عليه وهو أن شيئًا ما إذا حدث وأشكل عليك حكمه بالنسبة للشريعة المطهرة فزنه بميزان الشريعة المطهرة فإن لم يكن مخالفًا لقواعد الطريقة المصطفوية وكان فيه نفع لك أو لغيرك فردًا أو مجتمعًا فافعله فإنه مستحب وإن كان مخالفًا لها لا تفعله فإنه مذموم شرعًا وإن لم يكن مخالفًا لها لكن لا نفع فيه لأحد فهو مباح فعله وعدم فعله مفوضٌ إلى مشيئتك ولا تُصْغِ أيها الأخ الكريم إلى كتلةٍ جعلوا كلمة البدعة عِلْكًا يعتلكون بها ليل نهار ولا يعرفون حقيقةَ معناها.

وأخيرًا نرجو من القارئين الكرام أن يدعوا ويستغفروا ويقرؤوا ما تيسر من القرءان ويهدوا مثل ثوابها إلى هذا الفقير الأخرس الذِى وصل إلى عمرٍ تُوُفِّـىَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزاهم الله عنِى خيرًا.

والله تعالى أعلم.

 


[١] المرجع كتاب حُجج المتقين فِى بعض المسائل من فور الدين للشيخ طيب ملا عبد الله البحركِىّ.

[٢] دليل الفالحين.

[٣] الفتح الربانِى.

[٤] فتح الربانِى.

[٥] عمدة القارِى.

[٦] الفتح الربانِى.

[٧] الفتح الربانِى.

[٨] الفتح الربانِى.

[٩] الأذكار من شرح ابن علان.

[١٠] انتهى الجامع لأحكام القرءان بتقديم وتأخير.

[١١] شرح الصدور.

[١٢] الحاوي للفتاوى.