خطبة الشيخِ عبدِ اللهِ عبدِ الباسطِ الرفاعِىِّ عن الكُورونا[١]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين يرفع بالعلم من يشاء ويعزُّ بالطاعة مِن عباده مَن يُريدُ ويخفضُ ويُذِلُّ بالجهل والمعصيةِ ءَاخَرين اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمد من جاءنا بالحَنِيفِيّةِ الصافيةِ وشريعةٍ ليلُها كنهارها وسلِّمْ عليه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين وعلى ءَالِهِ الطاهرينَ وصحابتِهِ المُنْتَجَبِينَ.

أما بعد عبادَ الله فأُوصِيكم ونفسِى بتقوَى الله العظيم القائلِ فى كتابه الكريم (إنَّ هذا القرءان يهدِى للتى هى أقوم ويُبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا) والقائلِ (وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

عباد الله إنّ الفلاح كلَّ الفلاح بالتمسك بما جاء به نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وبلّغه عن الله تعالى من غير أن يُزاد فيه ما ليس منه بالرأى ومن غير أن يطرح منه شىء بالرأى، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الجُمعةُ حقٌّ واجبٌ على كل مسلم فِى جماعة إلا أربعةً عبدٌ مملوك أو امرأة أو صبىٌّ أو مريض اهـ وذُكِرَتْ فِى الشرعِ أعذارٌ لعدمِ حضورِ الجماعةِ والجمعةِ ولم يَعُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنها مَن خاف أن يصيبه المرضُ. وقد وقعت الطواعين والأوبئة في بلاد المسلمين من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين ثم من بعدهم إلى يومنا هذا وتسلط عليهم الكفار الذين كانوا يقتلون الآلافَ بعد الآلافِ منهم مرة بعد مرة ولم يقل واحدٌ من علمائهم ولا سلاطينهم إنَّ المساجد تُغلق لأجل ذلك وإن الجماعات تُمنع وإنّ الجُمع تُوقَفُ فكان ذلك إجماعًا منهم من خَرَجَ عنه انطبق عليه قول الله تعالى (ومَن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). نعم كانت بعض القرى والأماكن إذا تفشى فيها الموت خلت المساجد ممن يقيم فيها الصلوات بسبب ذلك ولكنَّ هذا شىءٌ والأمرَ بإغلاق المساجد وعدم إقامة الجماعات شىْءٌ ءَاخَرُ.

فِى زماننا هذا امتد الفساد وتوسع وسعى أعداء الدين فى إبعاد أهل الإسلام عنه ما استطاعوا، واستعانوا لذلك بحُكامٍ متماوتين وهؤلاءِ اعتمدُوا على شيوخٍ جهلةٍ مُتهاونين يصدقُ عليهم ما سنذكره بعدُ فِى وصفهم من كلام معاذٍ إن شاء الله تعالى فأوصلوهم إلى تَوَلِّى وظيفة باسم مفتٍ أو وظيفة باسم أمينٍ للفتوى وجعلوهم أُلعوبةً يُحِلون بواسطتهم ويحرمون على ما تقتضيه أهواؤهم لا على ما يوافقُ الشريعةَ الصافيةَ النقية. وقصّر أكثرُ العوامِّ فى تعلُمِ ما أوجب الله عليهم تعلُمَهُ من أمور الدين فصاروا يميلون كما تميل الريح لا يستضيؤون بنورِ العِلم ولا لهم ركنٌ وثيقٌ يلجؤون إليه ولاعندهم ميزانٌ صادق يَزِنُون به ما يُلقى إليهم.

بسبب ذلك كُلّه سهُلَ فِى هذه الأيام على جهات وأفرادٍ أن ينشروا بين المسلمينَ الهلعَ وأن يزرعوا بينهم الخوفَ بلا عُذرٍ قائمٍ ولا سببٍ صحيحٍ فتخلّى الولدُ عن والدِهِ والرَّحِمُ عن رَحِمِهِ والصديقُ عن صديقه والمُحِبُّ عن حبيبه وغفلوا جُملةً إلا مَن رحِمَ الله عن معانِى التوكلِ والصبرِ والتعاونِ والتعاضُدِ والاعتناءِ بالمريض ومساعدة الملهوفِ والمُحتاجِ وانصرف كلٌّ منهم إلى نفسه لا يفكر إلا بحفظ صحته فيما يزعُمُ وبسلامته من المرض فيما يأملُ بأنانيةٍ قلَّ نظيرها وليس ذلك مهما اجتهدوا بحافظهم مما كتب الله عليهم ولا هو بمانعٍ ما قدّر الله أن يصيبهم وها نحنُ لم نَرَ دولةً من الدول فى أيامنا ضيقت على الناس بزعم الحماية من مرض الكورونا ومنعتهم من العمل ومن الاجتماع للصلاة إلا ازداد انتشار المرض فيها وكثُر عدد الموتى بسببه فيها وفى ذلك عِبْرَةٌ لمُعتبرٍ وصدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت الأمة على أن يمنعوك من شىء كتبه الله عليك ما منعوك منه اهـ

هذا فِى أيامنا، وأما فى غابر الأيام وماضِى الأزمان عندما كان الخيرُ منتشرًا والصدقُ شائعًا وسوقُ العِلمِ رائجةً وحلَّ الطاعونُ وهو المرضُ الفتاكُ المعروف ببلاد الشام والبصرة، فِى ذلك الوقتِ حاول إنسانٌ واحدٌ لا غيرُ أن يقول للناس تفرقوا جماعاتٍ صغيرةً فِى الجبالِ لأنّ هذا الطاعون مثلُ الطوفان يأخذ مَن وقفَ فِى طريقه وينجُو منه مَنِ ابتعد عنه فانْبَرى له صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذُ بنُ جَبَلٍ وشُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَه وأبو واثِلَةَ الهُذَلِىّ وغيرُهم وقال بعضُهُم فى وَجْهِهِ إنّ هذا القائلَ أضلُّ مِن حمار أهله إنا قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وعرفنا ما قاله وعَلَّمَهُ وإنّ هذا الطاعون رحمةُ ربكم ودعوةُ نبيكم وموتُ الصالحين قَبْلَكُم فتراجَعَ هذا الرجلُ عن ما قال وصَدَّقَ مَن قال له ذلكَ اهـ وما رواه بعضهم من أنّ الناس تركوا قول الصحابة وأخذوا بقوله فتفرقوا وانقطع عنهم الوباء فخبرٌ ليس له اعتبارٌ لأنَّ فِى إسناده راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه وءاخرُ مجهولٌ فلا يقاوم الأخبارَ الصحيحةَ التِى رواها أحمدُ والبزار والحاكم وكثيرٌ غيرُهم فِى هذا الشأن ولا يُقاومُ خبرَ الشيخينِ وغيرِهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنِ الخروجِ من البلدِ التِى نزل بها الظاعونُ فرارًا منه لا إلى الجبالِ ولا إلى غيرِها.

وكان أميرَ الناسِ فِى الشامِ أبو عُبيدة بنُ الجراح رضى الله عنه فلما اشتعل الوباءُ قام فى الناس خطيبًا فقال أيها الناس إنّ هذا الوجع رحمةُ رَبِّكُمْ ودعوةُ نبيكم وموتُ الصالحين قبلكم وإن أبا عُبيدة يسألُ الله أن يقسِمَ لأبِى عُبيدة حظَّهُ منه فأصابه الطاعونُ فماتَ، وكان استخلفَ على الناس معاذَ بن جبلٍ رضى الله عنه بعده فقال له الناسُ ادعُ اللهَ يرفعْ عنا هذا الرِّجْزَ فخطب الناس فقال إنّه ليس برِجزٍ ولكنه دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وموت الصالحين قبلكم وشهادةٌ يختص الله بها من يشاء منكم أيها الناس أربعُ خلالٍ من استطاعَ أن لا يدركه شىْءٌ منهُنَّ فلا يدرِكْه قالوا وما هى قال يأتِى زمان يظهر فيه الباطل ويصبح الرجلُ على دينٍ ويُمْسِى على ءَاخَرَ ويقول الرجل واللهِ ما أدرِى على ما أنا لا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة ويُعطَى الرجلُ المالَ من مال الله على أن يتكلمَ بكلام الزورِ الذى يُسخِطُ الله اهـ فكأنَّ معاذًا يصفُ زمانَنا هذا اهـ وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستهاجرون إلى الشام فَيُفْتَحُ لكم ويكون فيكم داءٌ كالدُمَّلِ أو كالحَرَّةِ يأخذُ بِمَرَّاقِّ الرجُلِ يستشهد الله به أنفسهم ويُزَكِّى به أعمالَهُم اللهم إن كنتَ تعلمُ أنَّ معاذ بن جبلٍ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعْطِهِ هوَ وأهلَ بيتِهِ الحظَ الأوفرَ منه فما أمسَى حتى طُعِنَ ابنُهُ البِكرُ عبدُ الرحمن وكان يُكنى به وأحبَّ أهله إليه فرجع إلى بيته فوجده فى كربٍ وشِدَّةٍ فقال يا عبد الرحمن كيف أنتَ فقال يا أبتِ (الحقُّ من ربك فلا تكوننَّ من الممترين) فقال معاذٌ وأنا (ستجدنِى إن شاء الله من الصابرين) فتوفِىَ ولده فى تلك الليلة ثم توفى بعده أهل بيته كلهم بما فيهم زوجتاه يدفنهم واحدًا بعد ءاخرَ وطُعِنَ هو فى أُصبُعِهِ فكان يقول ما يسُرُّنِى أنّ لى بها حُمر النعم وجعلَ يَمَسُّها بِفِيه يقول اللهم إنّها صغيرة فباركِ فيها فإنك تبارك فى الصغير فاشتد به الطاعون حتى أخذَ بحلقِهِ، ودخل عليه الحارثُ بن عَميرَةَ فى نزعه فوجده مغشيًا عليه فبكى وأبكَى من حولَهُ ثم إنّ مُعاذًا أفاقَ فقال يا ابن الحِميرية لمَ تبكِ علىَّ فقال أبْكِى على ما فاتنى منكَ فقال له معاذٌ أجلسنِى فأجلسه فى حِجرِهِ فقال إنَّ العلمَ مكانَهُ بين لوحَىِ المُصحفِ فإن أعيا عليك تفسيره فاطلبه بعدِى عن ثلاث أبى الدرداء أو سلمان الفارسى أو عند ابن أم عبد وأحذرك زلة العالم وجدلَ المُنافِق اهـ ثم إنّ مُعاذًا نُزِعَ نزعًا شديدًا فصار يغمَى عليه مرة ويُفيقُ مرة فإذا أفاق قالَ جَرِعْنِى ما أردتَ أىْ ابْتَلِنِى بما شِئتَ مِن شديدِ البلاءِ فَوَعِزَّتِكَ إنك لتعلمُ أنَّ قلبِى يُحِبُّك اللهم إنك تعلم أنِى لم أكن أُحِبُ البقاءَ فى الدنيا لجرىِ الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لمكابدة الساعاتِ وظَمَإ الهَوَاجِرِ ومُزاحَمَةِ العُلَماءِ بالرُّكَبِ عندَ حِلَقِ الذكر اهـ

وكان هذا الطاعون قد وقع فى موجتين وطال مُكثُهُ وفَنِىَ به خَلْقٌ كثيرٌ من الناسِ حتى قيلَ إنَّ خمسةَ أسداسِ الجُندِ ماتوا بِهِ فلم يبقَ إلا ستة ءالافٍ من أصل ستة وثلاثين فطَمِعَ العدوُ وتخوّفَتْ قلوبُ المسلمين فبادر عمرُ بعد ذلك فى السنة عَينِها وقَدِمَ بنفسِهِ إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لـمَّا أشكَلَ أمرُها على الأمراء وطابت قلوبُ الناس بقدومه وانقمعت الأعداءُ من كل جانب لمجيئه وللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّة.

وبعد زمانٍ طويلٍ من هذه الحادثة فِى أواخرِ حكمِ الأيوبيين عقيبَ استيلاءِ التتار على بغداد وما حصل منهم من المجازر وقع طاعونٌ عمَّ الشام وديار مصر وغيرها فتسخَّطَ بعضُ الناس بالطاعون أمامَ الملكِ الناصر داود الأيُّوبِىِّ فقال لهم لا تتسخطوا به وحكَى لهم ما حصل فِى زمن سيدنا عمر وما فعله معاذٌ وكيف دعا اللهَ أن يصيبه وأهلَ بيتِهِ بِهِ ثم ابتهلَ الملكُ الناصر وقال اللهم اجعلنا منهم وارزقنا ما رزقتهم اهـ فأصبح من الغد أو ما بعده مطعونًا وصار يشكو ألمًا مثل الطعن بالسيف فى جنبه الأيسر بحيث يمنعه من الاضطجاع قال ولده شهابُ الدِّينِ غازِى إنه نام بينَ الصلاتين ثم انتبه فقال إنِّى رأيت جنبى الأيسر يقول لجنبِىَ الأيمن أنا قد جاء نوبتِى والليلةَ نوبتُكَ فاصبر كما صبرتُ فلما كان عشيةَ النهار شكى ألمًا خفيفًا تحت جنبه الأيمن وأخذ فى التزايُد وتحققنا أن ذلك الطاعونُ فبينما أنا عنده بين الصلاتين وقد سقطتْ قواه إذ أخذته سِنَةٌ فانتبه وفرائِصه ترتعد فأشار إلِىّ فدنوتُ منه فقال رأيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم والخضرَ عليه السلام قد جَاءَا إلى عندِى ثم انصرفا فلما كان ءاخِرُ النهار قال ما فِىَّ رجاءٌ فَتَهَيَّأْ فِى تجهِيزِى فبكيتُ وبكَى الحاضرون فقال لا تكنْ إلا رجلًا ولا تعملْ عَمَلَ النساءِ ولا تغيِّرْ هيئَتَكَ وأوصانِى بأهله وأولاده ثم اشتدَّ به الضعفُ ليلًا وقمتُ فِى حاجةٍ فحدثنِى بعضُ مَن كان عنده مِن أهله أنه أفاق مرعوبًا وقال بالله تقدَّمُوا إلى جانِبِى فإنِّى أجد وحشةً فسُئل لمَ ذلك فقال أرَى صفًّا عن يمينِى وصُوَرُهُم جميلةٌ وعليهم ثياب حسنة وصفًّا عن يسارى وصورهم قبيحة فيهم أبدانٌ بلا رؤوس وهؤلاء يطلبونِى وهؤلاء يطلبونِى وأنا أريد أن أروحَ إلى أهل اليمين وكُلَّما قال لى أهل الشِمال مقالتهم قلت ما أجِىءُ إليكم خَلُّونِى من أيديكم ثم أغفى إغفاءَةً ثم استيقظ وقال الحمدُ لله خلصْتُ منهم وكانت وفاته رحمه الله تعالى صباح تلك الليلة اهـ

فكن أخِى رجلًا مثل هؤلاء الرجال طَوْدًا راسخًا وجبلًا شامخًا، ثابتًا على الحقّ فِى الشدائد متمسكًا به بل عاضًّا عليه بالنواجذِ إذا تماوجت الآراءُ، معتمدًا على الله تعالى ومتوكلًا عليه وواثقًا به عند النوازل، ولا تكن مثلَ ضِعافِ الإيمان الذين تتزلزل أقدامهم وتصطَكُّ رُكبهم وتحتارُ أفهامُهم وينسَوْنَ ما جاء به نبيهم عليه صلاة الله وسلامُهُ ويَتَقَصَّوْنَ عن العمل به اتِّباعًا لِوَهْمِ شارلَ أو كارلَ ولِبِدعةِ ميشالَ أو مَايْكِل ولِكَذِب ريشار أو ريتْشارْد وكلُّ هؤلاءِ مخادعونَ فُجَّارٌ فُسَّاقٌ يُطْمِعُونَهُم فى البقاء فى الدنيا والفِرار من الموت وهو سرابٌ لا يُدرَكُ كما بيَّنَهُ كتابُ ربِّنا تبارك وتعالى ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾.

وأستغفر الله لِى ولكم.

 


[١] المرجع صفحة الفيس بوك للشيخ الدكتور عبد الله عبد الباسط الرفاعى.