من أنباء العلم والعلماء [١]


 قبساتٌ من فوائد وكيلة مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربّ العالمين وصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم أما بعد فقد كان السلف الصالح رضِى الله عنهم فِى غاية التوقِى من التسرع فِى الإفتاء لبعدهم كل البعد عن الانصياع لأرباب الأهواء بل كانوا لا يفتون قبل أن يعدوا ما يكون جوابًا عن وجه إفتائهم فإذا لم يظهر لهم وجه الصواب فِى المسألة كوضح الصبح كان جوابهم (لا أدرِى) حذرًا من أن يتخذوا قنطرة إلى جهنم وكانت مجالس العلم فِى عهدهم فِى غاية الجلال والهيبة والوقار والذين يحضرونها كانوا كأن على رءوسهم الطير كما كان الصحابة رضِى الله عنهم فى مجلس النبِىّ صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الحافظ أبو العرب محمد بن أحمد التميمِى فِى طبقات علماء إفريقية ما يعتبر به المعتبرون فأسوقه هنا ليعلم كيف كان مجلس عالم دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضِى الله عنه وكيف كان ترويه فِى الإفتاء وهذا يعطينا صورة صادقة من سيرة السلف الصالح فِى مجالسهم وأجوبتهم عن المسائل.

 قال أبو العرب فِى كتابه المذكور قال أبو بكر حدثنِى أبو سهل فرات بن محمد قال حدثنِى عبد الله بن أبِى حسان قال أتيت إلى مالك بن أنس فأصبته قد ارتفع يعنِى انتهى درسه وعاد إلى بيته وباب داره مغلق فدققت الباب فخرجت جارية صفراء فقالت لِى من أهل المسائل أنت أم من أهل الحوائج فقلت لها رجلٌ غريبٌ أتيتُ إلى أبِى عبد الله مالك مُسلمًا عليه فقالت لِى ليس هذا وقتك ادخل السقيفة.  فدخلتُ فلما كان وقت خروجه فتحت الجارية الباب فإذا بمجلس كبير مفروش بالنمارق والمتكآت من أول المجلس إلى ءاخره وفِى صدر المجلس نمرقة عظيمة ومتكأة على اليمين وأخرى على الشمال وأخرى إلى الحائط فقلت فِى نفسِى هذا مجلس الشيخ ثم دخلتْ فخرجت الجارية وفِى حضنها مراوح فوضعت على كل متكأة مروحة ثم دخل مشايخ فقعدوا ثم خرج مالك يهادِى بين تلك الجارية الصفراء وفتَى ورجلاه تخطان فِى الأرض من الكبر وكأنِى أنظر إلى جماله وبهائه وكأنِى أنظر إلى شعر رأسه قد تعقف من الجعودة حتى أتوا به إلى ذلك المجلس فجلس وسَوَّى عليه ثيابه فلما استوى قاعدًا سلم فعمَّ بسلامه فردوا عليه السلام فقمت إليه فدفعتُ إليه كتابًا أحمله إليه ثم قرأ الكتاب فالتفت إلى القوم فقال لهم هذا كتاب ابن غانم من قدماء أصحابه أتانِى فِى هذا الرجل يخبرنِى عن حاله فِى بلده وقدره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جاءكم عميد قوم فأكرموه) قال فقمت من بين يديه فأوسع لِى رجل فذكروا له العلم فقال لا يؤخذ هذا العلم إلا عمن يوثق بهم فِى دينهم قال ثم يأتِى الرجل فيسأل عن المسألة وأنا قاعدٌ وقد أخذ بضبعيه ونوه بالسؤال وأداه حقه من التمحيص فربما قال العلم أوسع من ذلك والله أعلم، فسئل عن ثنتين وعشرين مسألة وأنا أحسبها فما أجاب إلا فِى ثنتين منها ولم يجب فِى الثنتين إلا أكثر من (لا حول ولا قوة إلا بالله) قال ثم اختلفتُ إليه فلم يزل مكرمًا لِى رحمة الله ورضوانه عليه اهـ

وعن ابن أبِى حسان راوِى هذا الخبر يحكَى أبو العرب أيضًا أنه دخل على الأمير زيادة الله بن إبراهيم فأصاب عنده أسد بن الفرات وأبا محرز وهما يتناظران فِى النبيذ المعروف عند أهل العراق وأبو محرز يذهب إلى تحليله وأسد يذهب إلى تحريمه كما هو رأى شيخه محمد بن الحسن وهو المُفْتَى به فِى مذهب الحنفية فلما قعد ابن أبِى حسان قال له زيادة الله ما تقول يا أبا محمد فِى النبيذ فقال له قد علمت سُوء رأيِى فيه وقاضياك يتناظران فيه بين يديك فقال له ناظرْ أنت ودعهما ثم قال لهما اسكتا فقال له ما تقول فقال ابن أبِى حسان له أصلح الله الأمير كم دِيَةُ العقل فقال الأمير وما لهذا من هذا فقال إن جوابك ينتظر سؤالِى فقال دية العقل ألف دينار فقال له أصلح الله الأمير أفيعمد الرجل إلى ما فيه ألف دينار فيبيعه بِزُجَيْجَةٍ لا تساوَى نصف درهم فقال له يا أبا محمد إنه يزول ويرجع فقال له بعد ماذا أصلح الله الأمير، بعد أن قاء فِى لحيته وكشف عن سوءته وقتل هذا وضرب هذا فقال له الأمير صدقت والله صدقت اهـ

وبعد هذا الاستطراد أعود وأقول هكذا كان مجلس الإمام مالك رضِى الله عنه وهكذا كان تَرَوِّيهِ فِى الإفتاء مع جمعه لعلوم فقهاء المدينة زادها الله تشريفًا ومع استظهاره لأحاديث أهل المدينة وقد أسند ابن عبد البر عن عبد الرحمن بن مهدِىّ أنه قال كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال له يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حَمَّلَنِى أهلُ بلدِى مسألةً أَسْأَلُكَ عنها قال فَسَلْ فسأله الرجل عن المسألة فقال لا أحسنها قال فبُهِتَ الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شَىْءٍ فقال أىّ شىء أقول لأهل بلدِى إذا رجعت إليهم قال تقول لهم قال مالك لا  أُحسِن اهـ       

وقد أسند الخطيب فِى الفقيه والمتفقه عن أبِى حنيفة رضِى الله عنه أنه قال (من تكلم فِى شَىْءٍ من العلم وتقلده وهو يظن أنَّ الله لا يسأله عنه كيف أفتيت فِى دين الله فقد سَهُلَتْ عليه نفسُهُ ودينُهُ) وأسند عنه أيضًا أنه قال (لولا الفرق مِن الله أنْ يضيع العلم ما أفتيتُ أحدًا يكون له المهنأ وعلَىَّ الوزر).  وقال ابن عباس رضِى الله عنه كنت أُسْأَلُ عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحابه النبِى صلى الله عليه وسلم. 

وأخرج الخطيب أيضًا عن عبد الرحمن ابن أبِى الزناد عن أبيه أنه قال (أدركت بالمدينة مِائَةً أو قريبًا مِن مِائَةٍ يعنِى من أهل العلم كلهم مأمونون ما يؤخذ عن رجل منهم حرف من الفقه يقال إنه ليس من أهله) وقال عمر بن خلدة القاضِى لتلميذه ربيعة بن أبِى عبد الرحمن شيخ مالك (يا ربيعة أراك تُفْتِى الناس فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه ولتكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه).

وقال مالك رضِى الله عنه (من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار كيف يكون خلاصه فِى الآخرة ثم يجيب).  وقال (ما شىء أشد علىَّ من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع فِى حكم الله ولقد أدركنا أهل العلم ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن المسألة كأنما الموت أشرف عليه) اهـ

ومِثْلُ مالكٍ يُسْأَلُ عن اثنتين وعشرين مسألة ولا يجيب إلا عن مسألتين منها لكن لو سألت كوادن متفقهة اليوم عن مسألتين لأجابوك عنهما وزادوك جواب عشرين من المسائل الأخرى وحملوا على أكتافهم مسؤولية مسائل ما أنزل الله بها من سلطان مما يتخذ حكمًا نافذًا مدَى الدهر بدون مبالاة بخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله وفقه فقهاء الملة مكتفين بوجود غالطٍ على ناصية الدهر يتقولها، أفأصبح علمً هؤلاء الكوادن أوسع من علم فقهاء الملة الأئمة المتبوعين، كلا بل الأئمة أمناء الله فى أرضه هم بحور العلم ولكن استولت عليهم مخافة الله فى أمر دينه بخلاف فَاتِنِى اليوم فإن مخافة الله زالت من قلوبهم زيادة على جهلهم الفظيع بشرع الله فلا يأبهون يأن يجعلوا قناطر إلى النار.

نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وندعوه سبحانه أن يولِى أمور العلماء خيار العلماء ويلهمنا رشدنا ويصلح علماء السوء وأعوانهم ليبعدوا شرهم عن الأمة المحمدية فيكون الدين كله لله.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثرِىّ لوكيل مشيخة الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثرِىّ رحمه الله تعالى.