أين توضع الكفان فى الصلاة[١]

قبسات من فوائد الشيخ طيب مُلا عبد الله البَحركِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وبعد فإنا نسمع أحيانًا بعض الفتاوَى من بعض الذين يتصدرون للفتاوى بدون تحضير وتروٍ واستفهام من أهل الذكر بل وبدون مقدرة على مراجعة المراجع الفقهية المعتمدة، وثبت لدينا مما طالعنا من الكتب الفقهية أن بعض تلك الفتاوى من التى لها تعلق ببعض أحكام الصلاة كان خاطئًا ومخالفًا لما ذهب إليه الفقهاء الأعلام من سابق الزمان إلى لاحقه، فلهذا أحببت أن أعرض بعض نصوص الفقهاء حول بعض تلك الأحكام، ليسير السالك عليه ولا يضل عن جادة الطريق، ونود أن نعطر صدر المبحث بآيات من القرءان المجيد وبأحاديث من البشير النذير، ونقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق والاستعانة

قال سبحانه وتعالى فى كتابه المجيد (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وقال أيضًا (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) وقال أيضًا (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).

وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه قال (أشهد أنِى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خمسُ صلواتٍ افترضهنَّ الله تعالى من أحسن وُضُوءَهُنَّ وصلَّاهُنَّ لوقتهنَّ وأتمَّ ركوعهنَّ وخشوعهنَّ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه) اهـ وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفَّارات لما بينهن) اهـ

فالآيات والأحاديث فى فضل الصلوات الخمس كثيرة، فالصلاة عليها قام الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن ضيَّعها فقد ضَيَّعَ الدينَ، ومِنَ المعلوم أن إقامة الصلاة ليست عبارة عن هذه الحركات المخصوصة فحسب بل يَنْبَغِى مراعاة أركانها وشروطها وهيئاتها والخشوع فيها بطمأنينة وسكينة ووقار، فإنَّ المصلَى فى صلاته قائم فى خدمة صاحب الكون وخالق العرش ومدبر الأرض والسماوات، فينبغى أن تكون هيبة رب العالمين فى قلبه وعظمتُهُ مسيطرة على جميع جوارحه من الافتتاح إلى التسليم.

وليعلم أن الصلاة تشتمل على أمور ثلاثة

الأول الأركان والشروط وهذه ضروريات لا بد منها فى الصلاة فهى بدونها غير صحيحة ولا تنجبر بسجود السهو.

الثانِى الأبعاض وهى بمنزلة الكماليات فالصلاة بدونها ناقصة غير كاملة ولكنها تنجبر انجبارًا ما فيخرج المكلف بالصلاة الخالية عنها من عهدة التكليف ولكن أجرها دون أجر من صلاها كاملة بأبعاضها.

الثالث الهيئات وهى بمنزلة المحسنات فالصلاة معها مزينة محسنة فيحسن مراعاتها والاعتناء بها.

فمن تلك الهيئات فى حال القيام وَضْعُ المُصَلِّى يده اليمنى على يده اليسرى قابضًا باليمنى كوع اليسرى فوق السرة وتحت الصدر، وهذه الكيفية مأثورة عن إمام عامة المصلين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ما رواه وأخرجه البزار فى سننه بسنده عن وائل بن حُجْرٍ رضى الله عنه أنه قال صلَّيتُ مع النَّبى صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى عند صدره اهـ وأخرج الإمام أبو داود فى سننه بسنده عن ابن جريرٍ الضبّى عن أبيه قال رأيت عليًّا رضى الله عنه يُمسك شماله بيمينه على الرُّسغ فوق السُّرَّة اهـ قال أبو داود وروى عن سعيد بن جُبيرٍ فوق السُّرَّةِ اهـ وقال النووِىُّ قال الجمهور إن الوضع يكون تحت صدره فوق سرته اهـ

وذهب بعض العلماء فى تحديد محل وضع اليدين فى القيام إلى غير هذا الترتيب فأبو حنيفة والثورىُّ وإسحاق رضى الله عنه يرون وضعهما تحت السرة، وعن أحمد ثلاث روايات هاتان السابقتان والثالثة التخيير بينهما، وعن إمام دار الهجرة روايتان إحداهما وضعهما تحت الصدر والثانية إرسالهما بالكلية. وكل هذا موجود فى شرح المهذب وشرح صحيح مسلم كلاهما للإمام النووىّ وفى كتاب المُغنِى لابن قدامة المقدسِىّ.

١-تحت السرة

٢- فوق السرة وتحت الصدر

 3- إرسالهما بالكلية.

ولكلٍّ مذهبٍ وجهةٌ مقبولة. وبالجملة قد تَبَيَّنَ من مراجعة المراجع الكثيرة الواسعة أنه لم يذهب أحد من الصحابة أو التابعين أو أصحاب المذاهب المعتمدة إلى وضع اليدين على أعالِى الصدر مائلًا إلى جهة اليسار كما يفعله بعضٌ ممن يسعون فى الأرض فسادًا ويبثون فى المساجد عداوة وشقاقًا، فها الإمام الترمذى يقول فى جامعه بسنده عن هُلب عن أبيه رَضِىَ الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّنَا فيأخذ شماله بيمينه قال أبو عيسى حديث هُلبٍ حديث حسنٌ والعمل على هذا أى وضع اليمين على الشمال عند أهل العلم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله فى الصلاة ورأى بعضهم أى من أهل العلم السابق أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة. انتهى. فلم يذكر الإمامُ الترمذىُّ غيرَ هذين المذهبين، فهذا يدل على أنه لم يعثر على ذهاب أحد من العلماء المعتمدين إلى وضع اليدين على أعالى الصدر وإلا لذكره هذا الإمام الموثوق المطلع على آراء اصحاب المذاهب، وهذا من أسباب تأويل ما أخرجه ابن خزيمة فى صحيحه بسنده عن وائل بن حُجر رضى الله عنه أنه قال صلَّيتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره اهـ  فحملوه على أن المراد بـعلى الصدر هو عند الصدر كما تدل عليه أيضًا رواية البزار ولفظها عند صدره اهـ هذا مع كون رواية البزار مؤيدة أيضًا بأثر على بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره من الأدلة.

على أن بعض العلماء ذكر أن جملة على صدره فى رواية ابن خزيمة غير محفوظة يعنى أنها شاذة وبَيَّنَ وجهَ شُذُوذِها وذهب بعضٌ ءِاخَرُ من العلماء إلى أنَّ حديث وائل بن حجر برواياته الثلاثة مضطربٌ لا يُحْتَجُّ به حيث أخرجه البزارُ بلفظ عند صدره وابنُ خزيمة بعلى صدره وابنُ أبى شيبة بتحت السرة، ولا يضرنا كونه ضعيفًا لأن بقية أدلتنا سالمة ولله الحمد.

ومن الهيئات المستحبة التى تَحْسُنُ مراعاتها فى القيام انفراج قدمى المصلى قدر شبر تقريبًا كما حدده بذلك الشيخ الرملى فى نهاية المحتاج ومشى عليه الشيخ سليمان الجمل فى تعليقه على شرح المنهج وكذا الفاضل البجيرمى وكذا فى إعانة الطالبين، فهذا القدر الذى حدده هؤلاء الأعلام حالة متوسطة بين الانفراج البليغ وبين ضم الرجلين وخير الأمور أوسطها فلهذا ذهب إليه أكثر علماء الشافعية، ففى القيام مع هذه الحالة صورة أدبية تستحسنها العقول السليمة وضم الرجلين ليس بهذه المثابة بل إنه مؤد لعدم ثبات المصلى بل للسقوط أحيانًا وفى الانفراج البليغ صورة غير مألوفة فلا يستحسن الإتيان بها فى القيام لخدمة من يَنبغِى أن يُراعى أقصى الأساليب المستحسنة فى خدمته، فلهذا لم يذهب أحد من أصحاب المذاهب المعتمدة إلى هاتين الحالتين بل ابتغوا بين ذلك سبيلًا.

قال بعضهم (قال الحنفية يسن تفريج القدمين فى القيام قدر أربع أصابع لأنه أقرب للخشوع، وقال الشافعية يفرق بين القدمين بمقدار شبر ويكره لصق إحدى القدمين بالأخرى حيث لا عذر لأنه تكلف ينافى الخشوع، وقال المالكية والحنابلة يندب تفريج القدمين بأن يكون بحالة متوسطة بحيث لا يضمهما ولا يوسعهما كثيرًا حتى يتفاحش عرفًا) انتهى.

فهذه هى آراء الفقهاء وقد علمتَ أيها القارئ العزيز مِنْ سَرْدِ هذه المذاهب أن أحدًا من الفقهاء المعتمدين لم يذهب إلى سنية هذا الانفراج الفاحش الذى نشاهده من بعض المصلين من أصحاب النِّحَلِ الجديدة، فإنهم مع الاستظهار بإنكارهم البدع يسبحون فى قعر البدع المذمومة من حيث لا يشعرون، فنرجو إله السموات أن يصلحنا وإياهم ويتوب علينا وعليهم ويجعلنا يدًا واحدة للتمسك بالدين الحنيف بحيث يرضى به.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب حُجج المتقين فِى بعض المسائل من فور الدين للشيخ طيب ملا عبد الله البحركِىّ.