الأذكار بعد أداء المكتوبات[١]

قبسات من فوائد الشيخ طيب مُلا عبد الله البَحركِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم. أما بعد فإنِى أرى وأسمع أن بعض الناس من المسلمين المصلين عندما ينتهون من صلاتهم ينهزمون بعد السلام مباشرة ولا يشتركون مع بقية أهل الجماعة فى الأذكار والتسابيح والتهاليل والجلوس بعد أداء الصلوات فيُرُون الناس أن هذه الأذكار والأدعية بدعةً لم ترد بها الشريعة فيلقون بذلك الشكوك فى قلوب بعض المصلين فَحَدَانِى هذا إلى أن أكتب أسطرًا حول ورود هذه الأذكار وهذه الحلق وهذا التجمع بالمساجد فِى الشريعة المطهرة المأثورة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن هذه الأجيال المجمعة على هذه الأذكار بعد الصلوات منذ عصر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر لم تكن على خطإ بل كانت على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول فى صدد إثبات ذلك مصدرًا بقول البارئ عز وجل (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) فذهب جم غفير من المفسرين إلى أن المراد بالتسبيح فى أدبار السجود هى الأذكار الواردة بعد الصلوات المكتوبات فهذا القدر كافٍ فى مشروعية تلك الأذكار ولكننا لا نكتفِى به لأن الآية الكريمة تدل على ما ذكرنا دلالة إشارة وليست صريحة لا يشوبها شك بل نؤيدها بالسنة النبوية الدالة عليها بحيث لا تُبْقِى ولا تَذَرُ أىَّ حشيش يتشبث به الغريق، فنبدأ أولًا بإثبات مشروعية أصل الأذكار الواردة بعد أداء الصلوات ثم فى التجمع لها والتحلق فى أماكن العبادة ثم فى الجهر بها عند عدم المانع.

فنقول سنية الأذكار حينما نفرغ من صلواتنا وردتْ بها أحاديث كثيرة جدًا فلا نستطيع أن نجمعها فى هذه العجالة وبلوغها إلى حد التواتر المعنوِىّ لا ينبغِى أن يُشَكَّ فيه ولكننا ننقل لخاطرك أيُّها القارئ الكريم من هذه الأحاديث قدرًا يطمئن به قلبك ويثلج به صدرك وتكون على يقين بمدلولاتها.

قال الإمام النووىُّ فى كتابه الأذكار (أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلوات وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة من أنواع متعددة، روينا فى كتاب الترمذىّ عن أبِى أمامة رضى الله عنه قال قيل يا رسول الله أى الدُّعاءِ أسمع قال جوف الليل الآخر ودُبُر الصَّلواتِ المكتوبات).

قال وروينا فى صحيح مسلم عن ثوبان رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال (اللهم أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ تباركتَ ذا الجلالِ والإكرامِ) اهـ وروينا فى صحيح البخارِىّ ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) اهـ

قال وروينا فِى صحيح مسلم عن كعب بن عُجرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (معقِباتٌ لا يَخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كلّ صلاةٍ مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون تكبيرة) اهـ

قال وروينا فى صحيح مسلم كان ابن الزبير يقول فى دبر كل صلاةٍ حين يُسلّم (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمدُ وهو على كل شىء قديرٌ لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة له الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهلّل بهنَّ دبر كلّ صلاةٍ) اهـ

قال وروينا فى سنن أبى داود والترمذى والنسائى عن عبد الله بن عمرو عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (خصلتان أو خلَّتان لا يُحافظ عليهما عبدٌ مسلمٌ إلا دخل الجنة هما يسيرٌ ومن يعمل بهما قليلٌ يُسبّح فى دُبُر كلّ صلاةٍ عشرًا ويحمدُ عشرًا ويُكبر عشرًا فذلك خمسون ومائة باللّسان وألف وخمسمائة فى الميزان ويُكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثًا وثلاثين ويسبح ثلاثًا وثلاثين فذلك مائة باللّسان وألفٌ فى الميزان فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده) اهـ

وروى البخارِىّ ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال (جاء الفقراء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدُّثور من الأموال بالدرجات العُلا والنعيم المقيم يُصلُّون كما نُصلّى ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويُجاهدون ويتصدَّقون قال ألا أحدّثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يُدرككم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله تُسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كلّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين) إلى آخر الحديث.

وروى الترمذِىّ فى جامعه عن أبى ذرّ رضى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قال فى دُبُر صلاة الفجر وهو ثانٍ رِجْليْهِ قبل أن يتكلَّم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ يُحيى ويُميت هو على كلّ شىء قدير عشر مراتٍ كُتبت له عشر حسناتٍ ومُحيت عنه عشر سيئاتٍ ورُفع له عشر درجاتٍ وكان يومه ذلك كله فى حرزٍ من كلّ مكروه وحُرِسَ من الشيطان ولم ينبغ لذنبٍ أن يُدركه فى ذلك اليوم إلا الشّرك بالله) اهـ قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح.

وليعلم القارئ العزيز أننا لسنا بصدد استيعاب جميع الأحاديث الواردة بشأن أنواع الأذكار بعد أداء الصلوات، بل غَرَضُنَا إثباتُ أصل هذه الأذكار وأن ما يفعله المصلون فى المساجد بعد أداء الصلوات سنة مأثورة عن سيد المرسلين، حتى إن عدها بالأصابع أيضًا سنة، فإذًا لا يسوغ للمعاند إنكارها إلا إذا كان ممن يجعل إصبعه فى أذنه حينما يسمع الحق، وأما خصوص الأذكار والأدعية فالوارد منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة منها التسبيح، التهليل، التكبير، التحميد، الاستغفار، اللهم أنت السلام، الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ءاية الكرسِىّ، فاتحة الكتاب، المعوذتان، الإخلاص وغيرها لا يحصى كثرة وأنواعًا من الأدعية. وإن أردت الإحاطة فعليك بمفصلات الكتب المؤلفة لهذا الشأن ككتاب الأذكار للنووِىّ وأبواب الأذكار والأدعية فى المسانيد والجوامع من صحاح الكتب وتطلع على ذلك أيضًا فى أوائل الكتب الفقهية المفصلة، فجزَى الله مؤلفيها، فهذه الكتب ترشدك إلى الصراط المستقيم وليست الكتيبات التى تصدر عن بعض الجهات لترويج بعض الأفكار السياسية فهذه لا ترشدك إلى ما ينجيك بل تكاد أن ترديك حفظك الله.

وإذا استوضَحَتْ لك أيها القارئ الكريم سنيةُ هذه الأذكار بعد أداء الصلوات وضوحَ النهار المشرق فلنوضح لك سنية الاجتماع والتحلق لهذه الأذكار، فندعوك أيها المصلى إذا انتهيت من صلاتك أن توافق إخوانك المسلمين فى التجمع للذكر الوارد فى هذا الحين، وأرجوك أن لا تجعل الأذكار كمائدة لذيذة تحتلها وحدك بل ادعُ بعض الناس المسلمين ليوافقوك ويرتعوا معك إذ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث الترغيب على الموافقة مع الجماعة لأداء الأذكار، منها ما رواه الإمام أحمد فى مسنده بإسناد حسن عن أبى سعيدٍ الخُدرى رضى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يقول الرَّب عز وجل يوم القيامة سيعلمُ أهل الجمْعِ من أهلُ الكرمِ فقيل ومن أهل الكرم يا رسول الله قال مجالس الذّكر فى المساجد) اهـ وروى أحمد عن أبى هريرة وأبى سعيدٍ أنهما شهدا رضى الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما قعد قومٌ يذكرون الله إلا حفَّت بهم الملائكة وتنزَّلت عليهم السكينة وتغشتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)، وروى هذا الحديث أيضًا مسلم والترمذىّ وابن ماجه.

وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله يا ابن آدم إن ذكرتنِى فى نفسك ذكرتك فى نفسى وإن ذكرتنى فى ملإ ذكرتك فى ملإ من الملائكة أو فى ملإ خير منهم) إلى آخر الحديث وروى هذا الحديث البخارِىّ أيضًا.

وعن شداد بن أوسٍ رضى الله عنه قال (كنا عند النبِىّ صلى الله عليه وسلم فأمر بغلق الباب وقال ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله فرفعنا أيدينا ساعةً ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال الحمد لله الذى بعثتنِى بهذه الكلمة وأمرتنِى بها ووعدتنِى عليها الجنة وإنك لا تخلف الميعاد ثم قال أبشروا فإن الله عزَّ وجلَّ قد غفر لكم) اهـ

وروى الإمام الترمذىّ فى جامعه عن أنس بن مالكٍ رضى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة قال حِلَقُ الذّكْرِ) اهـ

وروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النَّبىّ صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ لله تبارك وتعالى ملائكة سيَّارة فُضلا يتتبَّعون مجالس الذّكر فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم وحفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم بين السماء الدنيا فإذا تفرَّقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عبادٍ لك فى الأرض يُسبحونك ويُكبرونك ويُهللونك ويحمدونك ويسألونك) والحديث طويل وفى آخره قال (فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا قال فيقولون ربّ فيهم فلان عبد خَطَاء إنما مرَّ فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) اهـ

فيا أيها المخاطب الكريم إذا أحطت علمًا بهذه الباقة العطرة من الأحاديث النبوية الصحيحة علمتَ أن الاجتماع على ذكر الله له فضل خاص لا يوجد مع الانفراد، ولا غرابة فى ذلك إذ كثير من العبادات هكذا فانظر إلى صلاة الفذ وإليها مع الجماعة، وحدّق إلى الحج فحدد له البارئ عز وجل موعدًا خاصًا ليجتمع المسلمون فى مشاهده ولم يوسع وقته ليتمكنوا أن يحجوا أفذاذًا، وارجع البصيرة إلى تشريع الجُمَعِ والخُطَبِ ونداء جميع الناس إلى الصوم معًا فى شهر معين فلم يترك البارئ عز وجل مجالًا ليصوم الناس الفرض فى جميع السنة متفرقين، والحمد لله على ذلك، فكلها للتآلف بين خاطر المسلمين وقلوبهم ليكونوا إخوة ويألف بعضهم ببعضٍ يرتكز فى نفوسهم الطاهرة التوادد والمحبة ليكونوا يدًا واحدة فى موالاة الله عز وجل والدفاع عن دينه أعزه الله ويقمعوا الكفر والإلحاد أذله الله.

وما ذكرنا من الأدلة كانت فى أصل الاجتماع على ذكر الله عز وجل، وأما مشروعية الجهر بالأذكار ففيه تفصيلٌ وهو أن بعض الأذكار ورد فيه الأمر بالجهر به كتلبية الحج والعمرة وكالتكبير فى أيام العيدين والتشريق، وبعضها الإسرار فيه أحب كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم حينما سمع أصحابه يجهرون بالتكبير (اربعوا على أنفسكم) أخرج الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى موسى رضى الله عنه قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفرٍ فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبى صلى الله عليه وسلم (أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم) اهـ

قال الشيخ الهرشمى جزاه الله عن دين الإسلام خيرًا (فذهبنا إلى أن الجهر بالذكر أفضل فى المواضع التى جهر به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمقدار ما جهر به وأن الإسرار هو الأفضل فيما عدا ذلك)، قال الشيخ البنا فى شرح مسند أحمد (وقد جمع العلماء بين أحاديث السر والجهر بأن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون الجهر أفضل إذا أَمِنَ الرياء وكان فى الجهر تذكير الغافلين).

فمن الأذكار التى يستحب الجهر بها الأذكار المأثورة بعد أداء الصلوات المكتوبات، بدليل ما يتلى عليك من صحاح الأحاديث عن أبى معبدٍ مولى ابن عباسٍ أنَّ ابن عباسٍ رضى الله عنهما أخبره أنَّ رفع الصوت بالذّكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباسٍ كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته ورواه مسلم أيضًا.  وعن ابن عباسٍ رضى الله عنهما قال كنت أعرف انقضاء صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بالتكبير. عن ورَّادٍ كاتب المغيرة بن شعبة قال أملى على المُغيرة بن شُعبة فى كتابٍ إلى معاوية أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول فى دبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شىء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدُّ) فالحديث الأول والثانى صريحان فى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالأذكار بعد الصلوات وكذا الحديث الثالث إذ يدل على أن المغيرة كان يسمع صوت المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلا كيف حدد وضبط نوع الذكر ولم يسمع، وكذا يشير هذا الحديث على أن الجهر كان عادة مستمرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك صيغة (كان يقول). وذكر الحاكم فى المستدرك عن أبى أيوب رضى الله عنه أنه قال ما صليت وراء نبيكم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول اللهم اغفر لِى أخطائِى وذنوبِى كلها إلى آخر الدعاء. والأحاديث من هذا القبيل كثيرة جدًا ولكننا نكتفى بما ذكرناه، فمن لم يقنع بما يشبعه لا يشبعه إلا التراب.

والحاصل أنّ استحباب الجهر بالذكر له محال مخصوصة ومنها الأذكار الواردة بعد أداء الصلوات المكتوبات بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة وخاصةً إذا كان من أهل الجماعة أُميُّون أو ملحقون بهم ممن هم يحسبون أنفسهم قراءً ولكنهم ليسوا على علم بالسيرة النبوية فى العبادات، فمن المحبوب حينئذ أن يقوم شخص عالم بذلك من إمام أو غيره فيجهر بالأذكار الواردة عن رسول الله ﷺ بعد أداء الصلوات ليتعلم الحاضرون منه فيذكرون ويدعون معه أو يؤمَّنون، إذ يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بها لذلك، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) والعلماء ورثةُ الانبياء، رواه أحمد والأربعة عن أبى الدرداء مرفوعًا.

وليعلم أن استحباب الجهر بالأذكار له شروط، منها أن لا يجهروا بأصواتهم فوق المعتاد بحيث تمجه الأسماع كما نهى البارئ عز وجل عن ذلك فى قوله (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ومنها أن لا يرفعوا أصواتهم بحيث تتأذى حناجرهم وصدورهم إذ من المحتمل أن تكون هذه هى محمل النهى فى قوله صلى الله عليه وسلم (إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبًا) يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (اربعوا على أنفسكم) أى لا تؤذوا صدوركم وحناجركم وارحموا بها فإن الله سميع، ومنها أن لا يُضَيّقْ على المصلين بالتشويش عليهم وإذهاب خشوعهم فى صلاتهم، ومنها أن لا يُتَّهَمَ بالرياء فإن كان أحد هذه الموانع ينبغى أن لا يجهر، والحاصل أن الإسرار بالأذكار أسلم وأثوب إلا إذا كان للتعليم أو ورود الشرع بالجهر بها كتلبية الحج وكالأذكار بعد أداء الصلوات المكتوبات.

وأما الأذكار التى يشتغلون بها قبيل الإقامة للصلوات فإنها أيضا لها أصل من الأحاديث النبوية العطرة، وإن شئت الاطلاع على ذلك فارتع فى أذكار الإمام النووى حيث يقول (باب ما يقوله عند إرادة القيام إلى الصلاة روينا فى كتاب ابن السنى عن أم رافعٍ رضى الله عنها أنها قالت يا رسول الله دلّنى على عملٍ يأجرنى الله عز وجل عليه قال صلى الله عليه وسلم (يا أمَّ رافعٍ إذا قمت إلى الصلاة فسبّحى الله تعالى عشرًا وهللّيه عشرًا واحمديه عشرًا وكبّريه عشرًا واستغفريه عشرًا فإنك إذا سبَّحت قال أى الله عز وجل هذا لى وإذا هلَّلت قال هذا لى وإذا حمدت قال هذا لى وإذا كبَّرت قال هذا لى وإذا استغفرت قال قد فعلتُ) اهـ وقال محمد بن علان الصديقى فى شرحه تعقيبًا على هذا الحديث (قال الشيخ ابن حجر بعد تخريجه حديث حسن خرجه ابن السنى ورجاله موثوقون، ثم ذكر الحافظ متابعه).

فقد سمعت أيها الأخ المسلم ما تلوناه عليك من هذه الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك بعدما وعيت ما فيها وفهمت مدلولاتها وصلت إلى القناعة التامة بأن الأذكار التى يداوم الناس عليها مجتمعين بعد أداء الصلوات ويرفع بها أحد صوته ويتابعه الحاضرون لها أصول ثابتة فى الشريعة المصطفوية الغراء، فلهذا تلقاه الأخلاف الذاكرة عن الأسلاف الصالحة جيلًا بعد جيل منذ عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر ولا يقبل العقل السليم أن تجتمع الأمة المحمدية جميعها فى أعصر عديدة على ما لا دليل عليه فى شرعها ويخفى حكم شرعىٌّ على أهل هذه القرون جميعها إلى ظهور جيل فى مطلع قرن الشيطان، فأعاذنا الله عن ذلك، ومما يدل على ما ذكرت قول سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم (إنَّ الله لا يجمعُ أمتى على ضلالةٍ ويدُ الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار) رواه الترمذِىّ.

فإذًا لا تغتر أيها المسلم الخاضع لأوامر الله بما يفعله بعض أهل العصر من الانهزام بعد أداء الصلوات والخروج من المسجد بحجة أن هذه الأذكار بدعة نهى الشرع عنها، ولا يكتفى بانهزامه وحده بل يُرَغِّبُ الناس المصلين ليوافقوه ويتعطل المسجد عن الذاكرين، فإن هذا الشخص إما لم تطرق سمعه هذه الأحاديث ولم تبلغه وإما بلغه ولكن لم يفهم مدلولاتها وإما أن زملاءه قد غسلوا دماغه فلا يتنازل عن رأيه الصلب ولو أقيمت على خلافه نصوص القرءان المجيد، فسبحان الله أفلا يخاف هذا المعاند أن يشمله قول البارئ عز وجل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وفى الختام نرجو الله تعالى أن يجعلنا جميعًا يدًا واحدة ويؤلف بين قلوبنا وأن يجعلنا على الحق، وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب حُجج المتقين فِى بعض المسائل من فور الدين للشيخ طيب ملا عبد الله البحركِىّ.