الأرض هل هى ساكنة أو متحركة (٢) [١]

قبسات من فوائد الشيخ محمد بن يوسف الكافى

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وءاله وصحبه وسلم وبعد فسأذكر هنا ما كتبته فى الأجوبة الكافية على الأسئلة الشامية ورددت به مقالة فى منار رشيد رضا وأدرج فيها ما قاله داروين فى شأن الأرض وفى شأن ءادم عليه الصلاة والسلام قال صاحب المنار فى صفحة ٥٧٧ من الجزء الرابع عشر علم الفلك والقرءان نظرة فى السموات والأرض فى صفحة ٥٥٧ ما هى هذه الأرض التى نعيش عليها هى كوكب من الكواكب التى تدور بمركز الشمس وتسمى بالسيارات اهـ

         أقول يعتقد صاحب هذا الكلام أن الأرض متحركة طائفة مركزها الشمس وليست راسية وأنها مائدة وليست بثابتة وأنها سابحة وليست موثقة بالجبال وهذا مذهب داروين الطبيعى ومن تبعه كأصحاب هذه المجلة.

         قال داروين فى كتاب النشو والارتقاء فى صفحة 238 إن الأوهام التى تقاضت الإنسان حياته زمنًا طويلًا وكانت أعظم أسباب شقائه ودواعى عنائه اثنان عظيمان وهما أولًا اعتقاده القديم فى الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك وثانيًا اعتقاده فى نفسه أنه من أصل سماوى فأهبطه الخالق من فسيح جنانه ولم ذا وأسكنه ضيق أرضه إلى أن قال ومنها أرضنا المتحركة حول مركز الشمس خلافًا لمن يظن أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها خدمة لها اهـ

         واعتقاد المسلمين كافة بأن الأرض ثابتة تبعًا لما امتن الله به علينا بقوله سبحانه وتعالى فى سورة لقمان (خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم) أى لئلا تميد بكم وفى عم يتساءلون (ألم نجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا) وغير ذلك من الآيات الدالة على ثبوت الأرض وعدم تحركها فى مختار الصحاح ماد الشىء تحرك وفى القاموس ماد يميد ميدًا وميدانًا تحرك وزاغ وفيه رسا رسوا ثبت كأرسى.

فالله سبحانه وتعالى أخبر بثبوتها وعدم تحركها وطوافها حول مركز الشمس وداروين ومن تبعه أخبروا بحركتها وطوافها حول مركز الشمس فمن هو العالم بوصفها الحقيقى الجوابُ الله (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) فَمَنِ الصادق فى خبره الجوابُ الله الصادق (ومن أصدق من الله حديثًا) فإذا ثبت هذا فمَنِ الواجبُ اتباعُهُ فى خبرِهِ الجوابُ اتباع خبر الله تعالى لأن خبره صدق يستحيل عليه الكذب وما فى معناه وطرح خبر الغير وراء الظهر . وقول الله سبحانه وتعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا).

ثم إنّ من قال بحركة الأرض يُعَدُّ مكذّبًا لله تعالى فى خبره وذلك أن الوصفين إما أن يكون بينهما التماثل كالبياض وبياض ءاخر وإما أن يكون بينهما مطلق المغايرة كالقيام والضحك وإما أن يكون بينهما التضادّ وإما أن يكون بينهما التناقض فالمثلان لا يحتاجان إلى تعريف وأما الخلافان فحقيقتهما هما اللذان يجتمعان كأن يكون الشخص قائمًا يضحك ويرتفعان كأن يكون جالسًا يبكِى وأما الضدّان فهما الأمران الوجوديّان كالبياض والسواد لا يجتمعان كأن يكون الشىء أبيض أسود فى ءان واحد وقد يرتفعان كأن يكون الشىء أصفر أو أخضر مثلًا وأما النقيضان فهما الأمران الوجوديّان اللذان بينهما غاية الخلاف لا يجتمعان ولا يرتفعان بل أحدهما ثابتٌ ولا بد إذا اتّحد فى الوحدات الثمانية وقيل يكفى اتّحادهما فى النسبة الخارجية وهو التحقيق عند المحقّقين وذلك كزيد قائم زيد ليس بقائم أو الأرض ساكنة الأرض ليست بساكنة أو الأرض متحركة الأرض ليست بمتحركة فإذا صدق أحد المتناقضين كذب الآخر ولا يمكن صدقهما معًا ولا كذبهما معًا فإذا تقرر هذا فنقول إذا ثبت للأرض السكون انتفى عنها عدم السكون وهو مساوٍ للحركة وهو خبر الله تعالى وإن ثبت للأرض الحركة انتفى عنها عدم الحركة وهو مساو للسكون لأنه يلزم لزومًا بينًا من انتفاء النقيض انتفاء المساوِى له وهذا الشق الأخير باطل قطعًا كما تقدم.

وقد رأيت فى كلام بعضهم الاستدلال على حركة الأرض بقوله سبحانه وتعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمرّ مرّ السحاب) واغتر بكلامه كثير ممن لا اطلاع لهم وهو جهل منه بزمن مرورها مرّ السحاب وذلك أن من مرورها مر السحاب وبسّها حتى تكون كالهباء وتسييرها حتى تكون كالسراب هو زمنُ خراب العالم وزمنُ قيامِ الساعة ولكن مَنْ لم يخشَ ربه يفسّر القرءان بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار قال حبر هذه الأمة فى تفسير قوله تعالى (وترى الجبال) يا محمد فى النفخة الأولى (تحسبها جامدة) ساكنة مستقرة (وهى تمُرُّ مرّ السحاب) فى الهواء اهـ وقال فى تفسير قوله تعالى (إذا رجت الأرض رجا) إذا زلزلت الأرض زلزلة حتى ينطمس كل بنيان وجبل عليها فيعود فيها (وبسّت الجبال بسّا سيّرت الجبال على وجه الأرض كسير السحاب ويقال قلعت قلعًا ويقال جثت جثًا ويقال فتت فتا تبس كما يبس السويق أو علف البعير اهـ أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس فى قوله (إذا رُجَّتِ الأرضُ رجًّا) قال زلزلت (وبُسَّتِ الجبالُ بسًّا) قال فتت (فكانت هباءً منبثًّا) قال كشعاع الشمس. انتهى.

والله أعلم.

 


[١] المرجع كتاب المسائل الكافية فى بيان وجوب صدق خبر رب البرية للشيخ محمد بن يوسف الكافىّ.