الألبانِىّ شذوذه وأخطاؤه (قوله فى سنة الجمعة القبلية)[١]

قبسات من فوائد محدث الديار الهندية
الشيخ حبيب الرحمن الأعظمِى
المتوفى سنة ١٤١٢هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم. من جملة شذوذ الألبانِىّ وخطئه قوله فى الصحيحة وقد استدلَّ بالحديث (يعنِى حديث ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) بعض المتأخرين على مشروعية صلاة سنة الجمعة القبلية وهو استدلال باطل لأنه ثبت فى البخارِىّ وغيره أنه لم  يكن فى عهد النبِىّ صلى الله عليه وسلم سِوَى الأذان الأول والإقامة وبينهما الخطبة (الصحيحة ٣/٦٨).

أقول لو كان الاستدلال بحديث عبد الله بن مُغفَّل (بين كل أذانين صلاة) لكان لما قاله الألبانىّ وجه وأما إذا كان الاستدلال بحديث ابن الزبير (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) فلا وجه له لأنه لا مانع إذًا من كونها مشروعة قبل الأذان الأول.  وإنَّ من صلَى ركعتين قبل الأذان الأول صدق عليه أنه بين يدِى صلاة مفروضة ولذا قال الحافظ ابن حجر فى الفتح إنه أقوى ما يتمسك به فى مشروعية ركعتين قبل الجمعة (٢/ ٢٩١).

ومن مجازفاته وسلوكه سبيل من يتَّبع الهوى فى تحقيق الأحاديث قوله كلُّ ما ورد من الأحاديث فى صلاة سنة الجمعة القبلية لا يصح منها شىء اهـ قلت ولم يَسرد تلك الأحاديث ولا تكلّم عليها بالتفصيل وإلا لافتضح اعتسافه.

وأنا أريد أن أظهر للقارئ ما أخفاه، فاعلموا أن الزيلعِىَّ وابن حجر ذكرا حديثين مرفوعين أحدهما عن ابن مسعود وليس فى إسناده من يكون متروك الحديث، وشيخ الطبرانِىّ علىّ بن سعيد الرازِِىّ حسَنُ الحديثِ عندَ الألبانِىّ  (الصحيحة رقم ٢٣٦) وفيه أبو عبيدة عن أبيه وقد حسَّن غيرُ واحد مثل هذا الإسناد ومنهم الترمذِى.

وثانيهما حديث علىّ قال الأثرم إنه حديث واه وقال ابن حجر فيه محمد بن عبد الرحمن السهمِى وهو ضعيف عند البخارِى وغيره وفيما قاله نظر فإنّ البخارِىّ ذكره فى التاريخ وليس فيه سوَى أنه ذكر حديثًا من روايته ثم قال لا يتابع عليه وحكاه ابن حجر فى اللسان فجعله لا يتابع على روايته فصار موهِمًا بخلاف ما قال البخارِىّ.

وأما التصريح بالضعف فلم أجد له عينًا ولا أثرًا وأما غير البخاري فقال أبو حاتم ليس بمشهور وليس صريحًا فى التضعيف، نعم حكَى ابن حجر عن ابن معين أنه قال ضعيف ونقله ابن أبى حاتم لكن كتاب ابن أبي حاتم بين أيدينا وليس فيه ما ادّعاه ابن حجر اللهم إلا أن يكون نقله من كتاب ءاخر. وقد قال ابن عدِى عندي لا بأس به وذكره ابن حبان فى الثقات وذكر له هذا الحديث.

والحقُّ عندِى أنه حسن الحديث لأنه رَوَى عنه ابن المثنَى ونصر بن علي وخليفة وسفيان العصفرِى فبطل قول أبى حاتم إنه ليس بمشهور. ووثقه ابن عدِى وابن حبان فحديثه هذا حسن لذاته ولا شك فى كونه حسنًا لغيره لأن له شواهد.  وذكر الزيلعِىّ وابن حجر حديثًا ثالثًا عن ابن عمر أنه كان يُطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلِى بعدها ركعتين ويُحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، استدل به الإمام النووِىّ على مشروعية السنة قبل الجمعة.

وأما ما أَوْرَدَ عليه الحافظ بأنه إن كان المرادُ بعد دخول الوقت فلا يصحُّ مرفوعًا لأن النبِىّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة فمما لا دليل عليه فهل ورد فى شىء من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج جلس على المنبر من غير تخلل شىء بينهما.

وكذلك قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك عائدٌ على صلاته فى بيته ركعتين، تخصيص بلا مخصِّص والظاهر أنه يعود على ما سبقه جميعًا.    

وأما أن بعض الرواة اقتصر على رواية الشطر الثانِى فقط فهو من تصرفات الراوِى اختصر، الحديث لغرض ما، وهذا الاختصار منه كما لا يدل على إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة كذلك لا يدل على أنه لو ذكر الحديث بتمامه لم يعد عليه تمامًا أن النبِى صلى الله عليه وسلم كان يفعله.

وعلى التنزُّل إن لم يثبت رفعه بقول ابن عمر هذا فمعلوم ما كان عليه ابن عمر من شدة تحريه للسنة وتحرُّزه قولًا وفعلًا عما لا يثبت عنده عن النبِى صلى الله عليه وسلم فهذا دليل آخر لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم.

وذكر ابن حجر حديثًا رابعًا وهو عن أبى هريرة بلفظ (كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا) رواه البزار قال الحافظ فى إسناده ضعف (الفتح ٢/١٩١) وعزاه فى التلخيص للطبرانِىّ ولفظه وبعدها ركعتين وسكت عليه.

وذكر الزيلعِى وابن حجر حديثًا خامسًا وهو ما رواه ابن ماجه فى سننه عن أبى هريرة وجابر قالا جاء سُلَيْك الغَطَفانِى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبِىّ صلى الله عليه وسلم أصلَّيت ركعتين فقل أن تجىء قال لا قال فصَلِّ ركعتين وتجوَّز فيهما.

قال الحافظ فى التخليص وحكَى المجد ابن تيمية أن قوله (قبل أن تجىء) دليل على سنة الجمعة القبلية وحكَى عن المِزِّىّ أنه مصحَّف عن (أن تجلس). وهِى دعوَى لا دليل عليها ولهذا لم يُعرِّج عليها المجد ابن تيمية ولا الزيلعِى ولم يعبأ به ابن حجر غير أنه حكَى هذا الكلام عنه. وذكر الزيلعِىّ وابن حجر حديثًا سادسًا وهو حديث ابن عباس عند ابن ماجه قال الحافظ إسناده ضعيف جدًا.     

فهذه ستة أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف وليس واحد منها شديد الضعف إلا السادس ولو فُرِضَ أن كلَّها ضعيف فهلّا يُقوَّى بعضها ببعض حتى يبلُغَ إلى درجة الحسن وقد سلك الألبانِىّ هذا المسلك فى مواطن كثيرة.

وتصرفاته فى هذا الباب عجيبة فتراه ينقض فى الضعيفة ما أبرمه فى الصحيحة ويُهمل القواعد التِى راعاها فى الصحيحة فلا يقيم لها وزنًا فى الضعيفة.  وذلك لأن التصحيح والتضعيف دائمًا يكونان بحكم شهوته وطِبْقِ هواه فإذا اشتهى أن يصحح حديثًا يتقوَّى به فى الخروج على أئمة الاجتهاد والتقوى أو جهابذة الحديث وصيارفة الفن استعمل قاعدة من القواعد وإذا اشتهَى أن يضعف حديثًا كذلك نبذها وراء ظهره.

ومن أمثلتها الواضحة سنة الجمعة القبلية فإنه لا يستطيع أن ينكر ورود الأحاديث العديدة فيها فلم يجد بدًا من الاعتراف بذلك لكن يردها بحيلة أن بعضها أشدُّ ضعفًا من بعض ويتناسَى أن كثيرًا من الأحاديث التى بعضها أشدُّ ضعفًا من بعض قد صححها أو حسنها حين اشتهَى ذلك وقد ذكرت أمثلتها.

وكذلك ضرب الذكر صفحًا عن الموقوفات وءاثار الصحابة التِى فى هذا الباب والتى لا مجال للارتياب فى صحة أسانيد بعضها وهِى من دلائل ثبوت السنة القبلية عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم ولكن الألبانِىّ يتعامَى عنها لأن نفسه لا تشتهيها.

وكذلك يُغمِضُ عينيه حين يقع بصره على باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها فى مصنف عبد الرزاق المتوفى سنة ٢١١ والصلاة قبل الجمعة فى مصنف أبى شيبة المتوفى سنة ٢٣٥هـ والصلاة بعد الجمعة وقبلها فى البخارِىّ المتوفى ٢٥٦هـ والصلاة قبل الجمعة وبعدها فى الترمذى المتوفى سنة ٢٧٩هـ لأن هؤلاء الأئمة قد ذكروا فى هذه الأبواب ما يفيد ثبوت تلك السنة.

فروى عبد الرزاق كان عبد الله بن مسعود يأمرنا أن نصلِىَ قبل الجمعة وبعدها أربعًا وروى أنه كان يصلِى قبلها أربع ركعات وبعدها أربع ركعات. وروى ابن أبى شيبة فعله من وجه ءاخر وروى عن ابن عمر أنه كان يُهجِّرُ يوم الجمعة فيطيل الصلاة قبل أن يخرج الإمام وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال صلِّ قبل الجمعة عشر ركعات. وروى عبد الرزاق عن عطاء أنه كان يصلِى قبل الجمعة اثنتَىْ عشرة ركعة. وروى ابن أبى شيبة عن إبراهيم قال كانوا يصلون قبلها أربعًا وعن طاووس أنه كان لا يأتِى المسجد يوم الجمعة حتى يصلِىٍ فى بيته ركعتين وروى عن أبى مجلز نحوه. وأخرج ابن سعد عن صفية بنت حيى أنها صلت قبل الجمعة أربعًا حكاه الحافظ فى الدراية ص ١٤٣.

وأقول بعد هذا كله إن الألبانِىّ لو كان صادقًا فى ادعائه خلع رِبْقَةِ التقليد عن عنقه لوجد فى الأحاديث الصحيحة التى لا يحوم حولها شك ما يدل دلالة واضحة على مشروعية الصلاة قبل الجمعة لمن شهدها فى المسجد قبل خروج الإمام ولكن منعه من الإيمان بهذه الأحاديث جموده على تقليد العلماء الذين حملوها على مطلق النافلة. فمن ذلك حديث سلمان عند البخارِىّ ولفظه ثم يخرج أى قاصدُ الصلاة فلا يفرق بين اثنين ثم يصلِى ما كتب له ثم ينصِت. ومن ذلك حديث أبى الدرداء عند أحمد ولفظه ثم يركع ما قُضِىَ له. ومن ذلك حديث أبى ذر ولفظه فيركع إن بداله. وكذا فى حديث أبى أيوب وأبى سعيد عند أحمد. وفى حديث نُبيشَه الهُذلي عند أحمد (فإن لم يجد الإمام خرج صلَّى ما بداله). وفى حديث أبِى هريرة عند البغوِىّ (فصلَى ما قُدَّر له ثم يُنصِت). وفى حديث أبى سعيد وأبى هريرة عنده (ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام).       

ففِى هذه الأحاديث كلها نَدَبَ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قبل الجمعة غير أنه صلى الله عليه وسلم لم يعزِمها عليهم ولم يُعِّين عدد ركعاتها فى هذه الأحاديث.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب الألبانِى شذوذه وأخطاؤه لمحدث الديار الهندية الشيخ حبيب الرحمن الأعظمِى.