الإمام مالك والتأويل[١]

قبسات من فوائد الشيخ الفقيه العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله.

سئل حفظه الله عَمَّا إذا قال قائل إن السلف يؤولون كابن عباس فما الذِى منع الإمام مالكًا من التأويل عندما سُئل عن الاستواء؟

فأجاب مما لا شك فيه أن الإمام مالكًا من أئمة السلف ومن شيوخ السنة وقد سبق أن منهج أهل السنة مبنِىّ على قاعدة التنزيه وأنه أى التنزيه يتحقق بالتفويض تارة وبالتأويل التفصيلِىّ أخرى والقاعدةُ فى ذلك أنه ما لم يكن ثمت داع إلى التأويل أو كان التأويل يؤدِّى إلى فتح باب فتنة أو شر فإنه يُقتصر على التفويض ويكون الاكتفاء بالسكوت من المغانم أما إذا دَعَتِ الحاجةُ إلى التأويل لسد ذريعة أو منع فساد أو رد بدعة أو دفع شبهة فذلك ما ينبغِى القيامُ به وقد كان ذلك دأبَ إمام السنة مالك بن أنس قال الشيخ أبو محمد ابن أبِى جمرة فى شرح مختصره لصحيح الإمام البخارِىّ وأما ما احتج به بعضهم لمذهبهم الفاسد بما رُوِىَ عن الإمام مالك رحمه الله لما أن سُئل عن حقيقة الاستواء ما هو وكان من جوابه هذا مشكلٌ فليس لهم فى ذلك حجة لأنه سئل عن تحقيق شىءٍ محتمل لأربعةِ أوجهٍ صحيحةٍ وهِى ما ذكرناه أولًا فأجاب بأن قال هذا مشكلٌ لأن تحقيقَ تخصيصِ أحدِ تلك الاحتمالات الأربعة وكل واحد منها صحيح وترجيح أحدها على الثلاثة بغير دليل هو المُشكِل فكان تأويلهم على الإمام فاسدًا بغير ما ذهب إليه اهـ ولإغلاق باب الفتنة فى الدين مع عدم مسيس الحاجة ءانذاك إلى التأويل  أمر مالك بإخراج السائل وحسم مادة السؤال واعتبار إثارة الشبهات من قبيل البدع هذا من وجهٍ، وأما من وجه ءاخر فقد ثبت عن الإمام مالك رحمه الله أنه أَوَّلَ النزول الوارد فى حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقَى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعونِى فأستجيب له ومن يسألنِى فأعطيه من يستغفرنِى فأغفر له اهـ بنزول أمره.  قال الحافظ ابن عبد البر القرطبِىّ وقد روَى محمد بن علِى الجبلُّىِ وكان من ثقات المسلمين بالقيروان قال حدثنا جامع بن سوادة بمصر قال حدثنا مطرف عن مالك بن أنس أنه سُئل عن الحديث إن الله ينزل فى الليل إلى سماء الدنيا فقال مالك يتنزَّل أمره.  وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله على معنى أنه تتنزَّل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة وذلك من أمره أى أكثر ما يكون ذلك فى ذلك الوقت والله أعلم اهـ وقد نقل الحافظ ابن عبد البر القول بتأويل النزول بنزول الأمر والرحمة عن حبيب كاتب مالك مما يدلُّ على اشتهار ذلك وانتشاره عن الإمام فقال وقد قال قوم من أهل الأثر أيضًا إنه ينزل أمره وتنزل رحمتُهُ ورُوِىَ ذلك عن حبيب كاتب مالك وغيره اهـ       

وروَى أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضرّاب المحدث المصرِىّ المتوفَى عام ٣٩٢هـ فى هذا الكتاب بإسناده إلى عبد الرحمن ابن القاسم قال سئل مالك عمن يحدث الحديث الذِى قالوا إن الله خلق ءادم على صورته، وإن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة، وإنه يدخل يده فى جهنم حتى يخرج من أراد، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا ونهَى أن يَتحدث بها أحد فقيل له إن ناسًا من أهل العلم يتحدثون بها فقال من هم قيل ابن عجلان عن أبِى الزناد فقال لم يكن ابن عجلان يعرف هذا الأشياء ولم يكن عالمًا وذكر أبا الزناد فقال لم يزل عاملًا لهؤلاء حتى مات وكان صاحب عمل يتبعهم اهـ ورواه الضرّاب أيضًا من طريق ابن وهب عن مالك اهـ ورَوَى أيضًا عن طريق الوليد بن مسلم قال سألت مالكًا والأوزاعِىّ وسفيان وليثًا عن هذه الأحاديث التِى فيها ذكر الرؤية فقالوا ارووها كما جاءت فانظر كلام مالك وكلام غيره لم يُصَرِّحوا ولم يُبيحوا إلا روايتها لا اعتقاد ظاهرها الموهم للتشبيه ومالكٌ شَدَّدَ فِى روايتها إلا ما يعلم صحته فَيُرْوَى مع التنزيه كالقرءان اهـ

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.