التحذير من كلماتٍ مهلكاتٍ[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ الصُّوفِـىِّ المتشَرِّعِ العالِمِ الشافعِىِّ
عبد الوهاب بن أحمد الشعرانِىِّ المتوفَّـى سنةَ ٩٧٣ هـ رحمه الله

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على النَّبِىِّ الأمينِ محمد وعلى ءَالِهِ وصحبِهِ الطيِّبينَ الطاهرينَ. أما بعدُ فقد شاعتْ على ألسنةِ قسمٍ مِن الناسِ كلماتٌ فاسداتٌ فأحببتُ أن أذكر طرفًا مِن ذٰلك تنبيهًا وتحذيرًا.

مِمَّا يقع فيه كثيرٌ مِنَ الناسِ قولُهُم (يا مَن يرانا ولا نراه)، وقولُهُم (يا ساكنَ هذه القبة الخضراء) أىِ السَّماءِ أىْ لِمَا فِى ذلك مِن نسبةِ التحيُّزِ والكونِ فِى مكانٍ للهِ سبحانه، وقولُهُم (سبحانَ مَن كان العُلا مكانَه) ونحو ذٰلك فلا يجوزُ التلفُّظُ به لِما يُورِثُ مِنَ الإيهامِ عند العوامِّ أنَّ اللهَ تعالى فِى مكانٍ.

وإن قال هذا القائلُ أردتُ بقولِى ولا نراه عدمَ رؤيتنا له فِى الدنيا قلنا له قد أطلقتَ القول والإطلاق فِى محل التفصيل خطأٌ وقد أجمع أهلُ السنة على منْع كل إطلاق لم ترد به الشريعة سواءٌ كان فِى حَقِّ الله تعالى أو فِى حقِّ أنبيائه أو فِى حقِّ دينه، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعرِىُّ يقول ما أطلق الشرع فِى حَقِّهِ تعالى أو فِى حَقِّ أنبيائِهِ أو فى حَقِّ دينه أطلقناه وما منع منعناه وما لم يرد فيه إذنٌ ولا منعٌ ألحقناه بالممنوع حتى يرِدَ الإذن فى إطلاقه انتهى.

وقال القاضِى أبو بكر الباقلانِىُّ ما لم يرد لنا فيه إذنٌ ولا منعٌ نظرنا فيه فإن أوهَمَ ما يَمتنِعُ فى حَقِّهِ تعالى منعناه وإن لم يوهم شيئًا من ذلك ردَدْناه إلى البراءة الأصلية ولم يُحكم فيه بمنعٍ أو إباحةٍ انتهى.

فقد اتفق الإمامان على منع كل إطلاق يوهم محظورًا فى حقِّ الله تعالى وتبعهما العلماء على ذلك قاطبةً وقد نقلوا فيه الإجماع.  فعُلم من هذه القاعدة أن كلَّ من كان لا يُفَرِّقُ بين ما يُوهِمُ إطلاقُهُ محظورًا وبين غيره فلا يجوز له أن يطلق فِى حقِّ الله تعالى إلا ما ورد به التوقيف والإذن الشرعِىّ حذرًا من أن يقع فيما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى فيأثمَ أو يكفر والعياذ بالله تعالى.  

ومما يقعون فيه أيضًا قولهم يا دليل الحائرين يا دليل من ليس له دليل يا دليلَ الدليل ونحو ذلك وكله لم يرد به شرع فلا ينبغِى أن يقال.

وكذلك من الخطإ قولهم يا مَن لا يوصف ولا يعرف، فإنَّهُ تعالى موصوف معروف من غير تكييف.

ومما يقعون فيه أيضًا قولهم يا من هو فِى عرشه يرانا لإيهامِهِ الاستقرار وإنَّما يقال يا مَن استوَى على عرشِهِ كما ينبغِى لجلاله، وقد أجمع أهلُ الحقِّ على وجوب تأويل أحاديث الصفات كحديث ينزلُ ربنا إلى السماء الدنيا وخالف فِى ذلك الكرامية المُجسمةُ والحشوية المشبهة فمنعوا تأويلَها وحملوها على الوجه المستحيل فى حقه تعالى من التشبيه والتكييف حتى إنَّ بعضهم كان على المنبر فنزل درجًا منه وقال للناس ينزل ربكم عن كُرسيِهِ إلى السماء الدنيا كنزولِى عن منبرِى هذا وهذا جهلٌ ليس فوقَهُ جهل وكل هؤلاء محجوجون بالكتاب والسنة ودلائل العقول. وإذا تعددت وجوه الحمل لآيات الصفات وجب الأخذ بالوجه الراجح عند الشيخ أبِى الحسن الأشعرِىّ لقوله تعالى (فاعتبروا يا أولِى الأبصار) ولقوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

ومما يمتنع شرعًا إطلاقُ بعضهم على الله تعالى (الخمَّار والساقِى وراهب الدير وصاحب الدير والقسيس وليلَى ولبُنَى وسعدَى وأسماء ودعد وهند والكنز الأكبر) ونحو ذلك.

وكذلك لا يجوز إجماعًا إرادة ذاته تعالى بقول بعضهم

أنا من أهوَى ومن أهوَى أنا         نحن روحان حللنا بدنا

وقولُ بعضهم

تمازجت الحقائق بالمعانِى         فصرنا واحدًا روحًا ومعنى

فكل هذا وأمثاله لا يجوز عند أهل السنة والجماعة.

وقد سألت سيدِى عليًّا الخواص عن التغزُلات التِى فى كلام القوم هل مرادهم بها الله تعالى فقال لا إنَّما مرادُهُم بها الخلق ولكن يفهم الفاهم منها فِى حقِّ الحَقِّ ما يبعثه عند سماعها على الحضور مع الحقّ اهـ قال لأنَّ أولياء الله تعالى أعرفُ الخلق بالله تعالى بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويُجِلون الحقَّ تعالى عن أن يجعلوه محلًّا لتغزلاتهم فلذلك ضربوا الأمثال بالمحبين والمَحبُوبين من قيس ولبنَى وغيلان ونحو ذلك انتهَى. فليُتأمل.

         ومما يحرم سماعه من الشعر ما يُحظَرُ فى نحو قول المُتنبِى فِى محمد بنِ زريق

لو كــــــــــان ذو القرنين أعمــــلَ رأيَهُ          لمَّا أتَى الظلمات صرن شموســـا

أو كان لــــــجُّ البحر مثلَ يمينـــــــــه          ما انشــــق حتى جاز فيه مــــــــوسى

أو كــــــان للنيرانِ ضــــــــــــــوء جبينه           عُبدت فصار العالمون مجوســـا

وقوله أيضًا

أنــــــــــــــا فِى أمــــــــــة تداركهـــــــــــا الله           غــــــــــــــــــريب كصـــــالح فى ثمود

فكل هذا وأمثاله يُفهِم التهاون بمعجزات الأنبياء فلا يجوز.

وأكثر ما يقع مثل ذلك فِى شعر المَعرِىّ وأبِى نواس بن هانئ فليَتَحَفَّظِ المؤمن من سماع ذلك ويزجر من يتكلم به فإنَّ الإجماع قد انعقد على أن سوَى الأنبياء من البشر لا يبلغون مقام الأنبياء أبدًا فكانت هذه الإشارات التِى فِى الشعر خطأ بإجماع الأمة. وكان سبب توبة أبِى العتاهية عن الشعر أنه أنشد مرة

الله بينِى وبين مـــــــــــــــــولاتِى           أبدَت لِى الصَّدَّ والملالات

فقيل له فى المنام أما وجدت من تجعل بينك وبين امرأة فِى الحرام إلا الله تعالى فاستيقظ وتاب فلم يَنظِم بعد ذلك بيتًا إلا فى الزهد والترغيب فى الطاعات.

ومما ينبغِى اجتنابه قولهم فلان حجة الله فى أرضه على عباده فإن ذلك خاصٌّ بمرتبة الرسل فلا يُطلق على غيرهم اللهم إلا أن يراد أنه كآحاد العباد من حيث إنهم كلهم حجة دالة على قدرة الله.

وُعلِم من باب أولى وجوب اجتناب الألفاظ التِى لا تليق إلا بالحق تبارك وتعالى كقول بعضهم فى كتب المراسلات (الأعظم، الأقرب، الأعلى) ونحو ذلك فإن معانيها لغة حيث أُطلقت خاصة بالحق تعالى فإن قال قائلها أردتُ الخلق قلنا له قد تقدم أن الإطلاق فِى محل التفصيل خطأ وقد أوهم كلامك الإطلاق والعموم فى الحق والخلق وذلك ممتنع.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قول بعضهم ما فى الوجود إلا الله وقولهم إن الله فى قلوب العارفين وإنَّما الصواب أن يقالَ ما فى الوجود فى الأزل إلا الله ومعرفة الله فى قلوب العارفين. انتهى كلام الشعرانِىّ.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قولُهُم ما يسمع الله من ساكت ويراد أنَّه لا يعلم الأسرار وهذا الإطلاق لا يجوز لمضادته لنحو قوله تعالى (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) وقد قامت براهين العقول على أن الله تعالى يسمع كل موجود حتى حديث النفس فى النفس اهـ

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قولهم قديم الأزمان لأن الربَّ لا يتقيد بالزمان فهو كلام باطل.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابُهُ قول بعضهم كل ما يفعله الله خير لإيهامه نفِىَ الشر فى العالم وأن كل ما يكسبه العبد من المعاصِى خير.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قول بعضهم لأمير الجيش مثلًا لا تسافر حتى يطلع القمر فإن ذلك مثل قول بعضهم مُطرنا بنوء كذا على حدّ سواء وقد قال منجم مرة لعمر بن الخطاب لا تقابل أعداءك حتى يطلع لك القمر فقال له عمر وهو قمرهم أيضًا أى كما يكون لنا بطلوعه سعد[٢] كذلك يكون لهم لأن طلوعه على الجيشين واحد.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قول بعضهم إذا دخل على مريض الله يحمل عنك لأنَّه لفظ مُوهم وإنَّما الأدَبُ أن يقال الله يدفع عنك أو يصرف.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قول بعضهم فلان يَطّلِعُ على الغيبِ لأنَّه يوهم باطلًا وإنَّما الأدب أن يقال فلان له فراسة صادقة أو كشف أو اطلاع فقط لئلا يزاحم الرسل فِى مقام العلم والقطع فإنه ليس للأولياء إلا الظن الصادق فقط الذِى هو فى اصطلاحهم عبارة عن الاعتقاد الصحيح الجازم المطابق للواقع فقط، وهذا الظَنُّ هو الذِى يسمونَهُ إلهامًا وفتحًا وكشفًا.

وكذلك مما ينبغِى اجتنابه قول بعضهم باعك الله أو أقالك الله إذا سئل فى البيع أو الإقالة لأنه يوهم مذهب أهل الاتحاد وذلك كفر.

وكذلك يجب اجتناب تصغير شىءٍ من شعائر الله تعالى كقوله مُصَيحف ومُسَيجد ولُوَيح ونحو ذلك لأنَّه كفر عند بعض العلماء.

وكذلك ينبغِى اجتنابُ تسمية الكتب المؤلفة أسماء تضاهِى القرءان أو الوحىَ فإنّ ذلك غير جائز شرعًا كقول بعضهم عن مؤلفه كتاب الإسراء والمعاريج أو مفاتيح الغيب أو الآيات البينات لإيهامِهِ مزاحمة النبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى الإسراء أو العروج إلى السماء أو مشاركة الحق تعالى فى علم الغيب. انتهَى كلام الشعرانِىّ.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب لطائف المنن والأخلاق للشعرانِىِّ.

[٢] أراد بالسعد ظفر العدو بعدوه.