فِى إصلاح المجتمع[١]
التسامح فِى الإسلام

قَبَساتٌ من فوائد عالم مكة وشيخها
السيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وأصحابه وبعد فنحن المسلمين أهلَ الشريعة السمحة نَدِينُ والحمد لله بأسمحِ دينٍ فَلِمَ لا نتسامح فيما ينبغي التسامحُ فيه.  

إن التسامح المنشود من أيمن الصفات الحميدة أثرًا وأجزلها فائدةً وأعودها بالخير على مجموعة الأمة، يؤلف القلوب المتنافرة، ويقرب النفوس المتباعدة، ويهدئ الأرواح الجامحة، فرب كلمة طيبة فضّت مشاكل كثيرة، وحَلَّت عقدًا مستعصية الحلِّ، وربَّ تسامح في أمر قليل حفظ من الوقوع في خطر جليل.

والتسامح في الحقيقة ثمرة جليلة لمجموع طائفة من الأخلاق الكريمة منها الحلم والصبر والعفو عند المقدرة والتواضع والسخاء. والتسامح مظهر لهذه الأخلاق السامية، وأثر من أعظم ءاثارها وثمرة من أطيب ثمارها فلا تَتَّصِفُ به إلا النفوس العالية ولا يُوَفَّقُ إليه إلا أربابُ الهمم ولقد كان نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أجلَّ الناسِ تسامحًا سواء كان ذلك في معاملته الفردية أو في مواقفه الخطيرة الاجتماعية ما لم تقتض الحكمةُ السديدةُ المعاملةَ الشديدةَ في مواقفَ معينةً رعاية للإصلاح.

وروائع الشواهد الجليلة على شريف تسامحه صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ، على أن مظاهر تسامحه عليه الصلاة والسلام التي هي المثل الأعلى في هذا الباب بل هي الدرس الأجلى لدى ذوي الألباب لا يكاد يتيسر استقصاؤها للألسنة والأقلام فلا بأس أن نذكر موجزها على طريقة الإلمام وإليك الشواهد على ذلك:

الأول ما خُيِّر صلى عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أَيْسَرَهُما، وهذا من مظاهر تسامحه في أحكامه التشريعية التي جاءَ بها رحمة للعالمين.

الثانِى ما انتقم النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تُنتهك حرماتُ الله تعالى فيغضبُ لله لا لنفسه.

الثالثُ ما عالج النبي صلى الله عليه وسلم أمراً من الأمور الحيوية بالشدة، إلا إذا تعينت الشدة طريقاً للحل واستحكم العناد في نفوس الظالمين الأغبياء ومع ذلك فلا يزال يفتح باب الرجاء للوصول إلى السِلم والرحمة.

الرابعُ أُوذِىَ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم من عشيرته وقومه أشد الأذى ووصل الأمر بسفهاء القبائل أن أغروا به صبيانهم فَأَدْمَوْا عَقِبَهُ الشريفَ بِرَمِى الأحجارِ وفي غزوة أُحُد شُجَّ وجهه الشريف وكُسِرَتْ رَباعِيَتُه وقُتِلَ عَمُّهُ ومُثِّلَ به وقُتل أصحابُهُ فما زاد صلى الله عليه وسلم على أن قال (اللهم اِهْدِ قومِى فإنهم لا يعلمون) يدعو لهم بالهداية ليُغْفَرَ لهم وهذا من وُفُورِ شفقته صلى الله عليه وسلم فلم تتحرك به القوة الغَضَبِيَّةُ فينتقم لنفسه أو يكافئهم بالدعاء عليهم أو على الأقل يسكت عنهم انتظارًا لانتقام ربه فيقول اللهم اهد قَومِى، ويذكر فِى شدة حرج الموقف قَوْمِيَّتَهُم فيقول قَوْمِى، وهل وقفَ عند هذا الحد الكبير من التسامح، لا زاد بيانَ سببِ اعتدائهم وهو أنهم لا يعلمون.

هذه رحمته وتسامحه بالنسبة إلى خصومه وأعدائه فكيف تكون شفقته ورحمته بالنسبة إلى أحبابه وأتباعه. ولا عجب فهو المبعوث رحمة للعالمين والموصوف في القرءان الكريم بقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

الخامس تسامحُهُ صلى الله عليه وسلم فِى صلح الحديبية بقبول تلك الشروطِ الشديدةِ  التِى طلبتها قريش، وقد كان ذلك التسامحُ النبوِىُّ من أيمنِ التصرفاتِ الحربيةِ وأعودِها بالخيرِ على المجتمع الإسلامِىِّ فقد وضعتِ الحربُ أوزارَها بين الفريقين وأمِنَ الناس على أنفسهم وانتقلوا بالمتاجر وامتزجوا فانشرحتْ صدورٌ للإسلام واهتدَى كثير من الناس وجاء الفتح الأعظم فدخل الناس في دين الله أفواجًا.  كم كان تسامحه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عظيمًا لما جِىء بالأسرَى وقد زاغَتْ أبصارهم وعلموا أنه يوم هلاكهم وطالما ءَاذَوْهُ من قبلُ وَأَلَّبُوا عليه القبائل فقال صلى الله عليه وسلم (اذهبوا فأنتمُ الطُلقاء) فاستلَّ بهذا ما في نفوسهم من غطرسة وعناد.

السادس تسامحه صلى الله عليه وسلم عندما كان نائمًا في بعض غزواته فانسلَّ إليه رجل من المشركين خِلسة فاخترط سيفه وكان معلقًا في شجرة واستيقظ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم فرأى الرجلَ والسيفُ مصلتٌ في يده فقال له الرجل من يمنعك مني الآن يا محمد فقال له (اللهُ عَزَّ وجل) فوقع السيف من يد الرجل فأخذه صلى الله عليه وسلم وشهره عليه فقال له (من يمنعك منِى الآن) فقال الرجل يامحمد كُنْ خَيْرَ ءاخِذٍ فعفا عنه فأسلم الرجل.

واقرأ أيُّها المسلم أخبار تسامحه صلى الله عليه وسلم مع الأعراب الذين قَسَّم عليهم الغنائم حتى جَبَذَهُ أعرابِىٌّ بثوبه فأثَّرَ ذلك في عنقه الشريف وقال له يا محمد أعطنِى من هذا المال فإنه ليس مال أبيك ولا جدك فقال عليه الصلاة والسلام (المال مال الله وأنا عبده) وأعطى الرجل فأغناه.

وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل دائن فأغلظ عليه القول فانتهره الفاروق رضِى الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام (دَعْهُ يا عمرُ فإنَّ لِصَاحِبِ الحقِّ مقالًا).

ولا تنس مواقف تسامحه في معاملته للمنافقين المستظلين بظله بحمايته المطلعين على أسرار المسلمين ليفشوها، وقد كان صلى الله عليه وسلم عالمًا بقسم منهم لأن الله تعالى أطلعه على دخائل قلوبهم ومع ذلك ينهَى عليه الصلاة والسلام من استأذنه في قتل أحدهم فيقول (لا تفعل يتحدثُ الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) ولذا عَظُمَتِ الدعوةُ إلى التسامح فِى شريعتنا الإسلامية حتى لُقِّبْتَ بالسمحة، قال تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وقال تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وقال تعالى (اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) وقال تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

أيها المسلمون أليس يسمح الله عن عباده. فلنتسامح ليتسامح البائع مع المشتري وليتسامح الدائن مع المدين وليتسامح الرئيس مع المرءوس وليتسامح المخدوم مع الخادم وليتسامح الراعي مع أهله وليتسامح المعلم مع المتعلم. فرحم الله عبدًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا اقتضى  قال الشاعر

ســـــــامح أخاكَ إذا خَلَطْ        مِنهُ الإصـــــــــابةَ بالغَلَطْ
وتجــــــــــــــــافَ عــــن تَعْنِيفِه       إن جـــــــارَ يَوْمًا أو قَسَطْ
من ذا الذي ما ســـــاء قط     ومن لــــــــه الحُسْنَى فَقَطْ
غــيرُ نبينــــــــــــــا الـــــــــــــــــــــذِى      عليـــــــــــه جبريــــــــــلُ هَبَطْ

 

نسأل الله تعالى أن يعفو عنا ويسامحنا ويغفر لنا أجمعين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه.


[١]المرجع كتاب نفحات الإسلام من محاضرات البلد الحرام للسيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ رحمه الله تعالى.