التفكر فى خلق الانسان على مقتضى ما تدل عليه الآيات القرءانية(١)[١]

قَبَساتٌ من فوائد الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن جاب الله
كان حيًا سنة ١٣١٧هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم أما بعد فقد قال تعالى فى سورة طه (قَال) أىْ موسى عليه السلام (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء (خَلْقَهُ) الذى هو عليه متميزًا به عن غيره أىّ صورتَهُ وشكله اللائق بما نِيطَ به من الخواصّ والمنافع أو أعطَى مخلوقاتِهِ كلَّ شىءٍ تحتاج هى إليه وترتفق به (ثُمَّ هَدَى) أى إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعَرَّفَهُ كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارًا كما فِى الحيوانات أو اضطرارًا كما فِى الجمادات والقوَى النباتية والحيوانية ولَمَّا كان الخلق الذى هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدمًا على الهداية التِى هِىَ عبارةٌ عن إبداعِ القُوَى المحركة والمدركة فِى تلك الأجسام وَسَّطَ بينهما كلمة التراخِى [أى ثم].

قال الإمام فخر الدين والشروع فى بيان عجائب حكمة الله تعالى فى الخلق والهداية شروعٌ فى بحرٍ لا ساحل له ولنذكرْ منه أمثلةً قريبة إلى الأفهام.

أحدها أن الطبيعِىّ يقول الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلًا الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ثم إنه سبحانه قَلَبَ هذا الترتيبَ فى خِلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما فى البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذِى هو بمنزلة الماء وجعل تحته النَّفَسَ الذِى هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التِى فِى القلب التِى هِىَ بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل لِيُعْرَفَ أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة.

وثانيها أنك إذا نظرت إلى عجائب النحل فِى تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال النمل والبعوض فى اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفتَ أن ذلك لا يمكن إلا بإلْهَام مدبرٍ عالم بجميع المعلومات.

وثالثُهَا أنه تعالى هو الذِى أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلئَ من البحار وُيركّبون الأدويةَ والدِّرْياقاتِ النافعةَ ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لَذَّاتِ الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذِى خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التِى بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها.

ثم إنه جعل البشر أزواجًا وهذا غير مختص بالإنسان بل عام فى جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لَهَا ليدوم التناسلُ وهدَى الأولاد لِثَدْىِ الأمهات، بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل فى أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأَخْذِ وخلقَ الرِجل على تركيبٍ خاص وأودع فيها قوة المَشْىِ وكذا العينُ والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموعٌ واحدٌ وهو الإنسان.

وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعنِى التركيب والقوة والهداية إما أن يكون واجبًا أو جائزًا والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوَى فدل على أن ذلك جائزٌ والجائزُ لا بد له من مُرَجِّحٍ وليس ذلك المرجِّحُ هو الإنسانَ ولا أَبَوَاهُ لأن فعل ذلك يستدعِى قدرة عليه وعلمًا بما فيه من المصالح والمفاسد والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولِى لتدبيرها وترتيبها موجودًا ءاخر وذلك الموجود إما أن يكون مؤثرًا بالذات أو بالاختيار والأول محال لأن المُوجِبَ بالذات لا يُمَيّزُ مِثلًا عن مِثْلٍ وهذه الأجسام متساويةٌ فِى الجسمية فلم اخْتَصَّ بعضُها بصورة الوجه وبعضها بصورة اليد وبعضها بصورة الرِجل وبعضها بقوة السمع وبعضها بقوة الشم وبعضها بقوة الهضم إلى غير ذلك من القوَى والأعضاء المختلفة والأفعال المتباينة فثبت أنَّ المؤثر والمدبر قادرٌ والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالمًا بكل ما صحّ أن يكون معلومًا وقادرًا على كل ما صحّ أن يكون مقدورًا فظهر بهذه الدلالة استنادُ العالم إلى مُدَبِّرٍ واجب الوجود فِى ذاته وفِى صفاته عالمٍ بكل المعلومات قادرٍ على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب الدليل الصادق على وجود الخالق وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري الخوارق للشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن.