التفكر فى خلق الانسان على مقتضى ما تدل عليه الآيات القرءانية٢ [١]

قَبَساتٌ من فوائد الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن جاب الله
كان حيًا سنة ١٣١٧هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم أما بعد فقد قال تعالى فى سورة النجم (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) أىّ انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره استقلالًا ولا اشتراكًا.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أى هو خلق قوتَىْ الضحك والبكاء قال الإمام فخر الدين هذه الآية مثبتة لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى فقال تعالى هو أوجد ضدين الضحك والبكاء فى محلٍ واحد، والموت والحياة والذكورة والأنوثة فِى مادةٍ واحدةٍ، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ واعترف به كل عاقل، واختار وَصْفَىْ الضحك والبكاء للذكر والأنثى لأنهما أمران لا يُعَلَّلانِ فلا يقدرُ أحدٌ من الطبيعيين أن يُبدِىَ فِى اختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهًا وسببًا بدليلٍ قاطعٍ وإذا لم يعلل بأمرٍ ولابد له من مُوجِدٍ فهو الله تعالى.

ويدلك على هذا أنهم إذا ذكروا فى الضحك أمرًا يحصل منه الضحك عللوه بقوة التعجب وهو فى غاية البطلان لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل قوة الفرح وليس كذلك لأن الإنسان يفرح كثيرًا ولا يضحك والحزين الذى عند غاية الحزن يضحكه المضحك وكذلك الأمر فى البكاء، وإن قيل لأكثرهم علمًا بالأمور التِى يدعيها الطبيعيون إن خروج الدمع من العين عند أمورٍ مخصوصةٍ لماذا حصل لا يقدر على تعليلٍ صحيح، وعند الخواص كالتِى فى المغناطيس وغيرها ينقطع الطبيعِىُّ كما أنَّ عند أوضاع الكواكب ينقطع هو والمهندس الذِى لا يفوض أمره إلى قدرة الله تعالى وارادته.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيرُهُ، فإن غاية ما يحصل من فعل القاتل نقض البنية وتفريق الاتصال وإنما يحصل الموتُ عنده بفعلِ الله تعالى على العادة والبحث فيه كما فى الضحك والبكاء غير أن الله تعالى فى الأول بين خَاصَّةَ النوعِ الذى هو أخصّ من الجنس فإنه أظهرُ ثم عطف عليه ما هو أعمُّ منه وهِى الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أى أنَّ الموت والحياة كالضحك والبكاء، والموتُ على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتًا وكيفما كان فالإماتةُ والإحياءُ أمرٌ وجودِىٌّ وهما من خواصّ الحيوان فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى فهو الذِى أمات أى خلقَ الموت والجمود فى العناصر ثم ركبها وأحيا وخلقَ الحِسَّ والحركة والإدراك فيها وكما حفظها حَيَّةً مدة هو قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورةٍ فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) أىْتَدَفَّقُ فى الرحم أو تُخْلَقُ أو يُقَدَّرُ منها الولد من مَنِىَ بمعنى قَدَّرَ قال الإمام فخر الدين الذكورةُ والأنوثةُ من جملة المتضادات التِى تتوارد على النطفة فبعضها يخلق ذكرًا وبعضها أنثى ولا يصل إليه فهم الطبيعِىّ الذي يقول إنه من البرودة والرطوبة فى الأنثى فرُبَّ امرأة أيبس مزاجًا من الرجل، وكيف وإذا نظرت فى المميزات بين الصغير والكبير تجدها أمورًا عجيبة منها نبات اللحية فإنَّه إذا قيل لهم ما السبب الموجب لتلازم نبات شعر اللحية وءالة التناسل فإنها إذا قطعت لم تنبت اللحية وما الفرق بين سنّ الصبا وسنّ الشباب وبين المرأة والرجل ففِى بعضها يُبْهَتُ وفى بعضها يتكلم بأمور واهية ولو فوضها إلى حكمة إلـهية لكان أولى.

وقوله تعالى من نطفة تنبيه على كمال القدرة  لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة وطباعًا متباينة وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون على ما بيناه.


[١]المرجع كتاب الدليل الصادق على وجود الخالق وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري الخوارق للشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن.