التَّبَركُ بآثارِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم[١]

قبسات من فوائد خادم علم الحديث
الشيخ عبد الله بن محمد الهررِى
المتوفى سنة ١٤٢٩ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد فاعْلَم أنَّ الصّحابةَ رضوانُ الله عليهم كانوا يتبَرَّكونَ بآثار النَّبى صلى الله عليه وسلم فى حياتِه وبعدَ مَماتِه ولا زالَ المسلمونَ بعدَهُم إلى يومِنا هذا على ذلكَ.

وجوازُ هذا الأمرِ يُعرَفُ مِن فِعلِ النبىّ صلى الله عليه وسلم وذلكَ أنّه صلى الله عليه وسلم قَسَمَ شَعَرهُ حينَ حَلَقَ فى حَجَّةِ الودَاعِ وأظفَارَهُ.  أمّا اقتسَامُ الشَّعر فأخرجَهُ البخارِىُّ[٢] ومسلِمٌ[٣] من حديثِ أنَسٍ ففِى لفظِ مسلمٍ أنهُ قال لمَّا رَمَى صلى الله عليه وسلم الجمْرَةَ ونَحَرَ نُسُكَهُ وحلَقَ ناولَ الحالِقَ شِقَّهُ الأيمنَ فحلَقَ ثمَّ دَعَا أبا طلحةَ الأنصارى فأعطاهُ ثمَّ ناولَهُ الشِّقَّ الأيْسَرَ فقال احْلِق فحلَقَ فأعطاهُ أبا طلحةَ فقالَ اقسِمْهُ بينَ النَّاسِ اهـ وفى روايةٍ لمسلم أيضًا[٤] فبدأَ بالشّقّ الأيْمَنِ فوزَّعَهُ الشّعْرَةَ والشَّعرَتينِ بين النَّاسِ ثم قالَ بالأيْسَرِ فصنَعَ مثلَ ذلكَ ثم قال هاهُنا أبو طلحةَ فدفعَهُ إلى أبى طلحةَ اهـ وفى روايةٍ أُخرى لمسلم[٥] أيضًا أنّه عليه الصلاةُ والسلامُ قال للحَلاقِ ها وأشارَ بيدِهِ إلى الجانبِ الأيْمَنِ فقسَمَ شعَرَهُ بينَ مَن يليْهِ ثم أشارَ إلى الحلاقِ إلى الجانبِ الأيْسَرِ فحلَقَهُ فأعْطاهُ أُمَّ سُلَيْم فمعنَى الحديثِ أنّهُ وزَّعَ بنَفْسِه بَعْضًا بينَ النّاسِ الذينَ يَلُونَهُ وأعْطَى بعضًا لأبِى طلحةَ ليوزّعَهُ فى سائرِهم وأعْطَى بعضًا أمّ سُلَيم، ففيهِ التبَرُّكُ بآثارِ الرسولِ فقد قَسمَ صلى الله عليه وسلم شعرَهُ ليتَبرَّكُوا به وليسْتَشفِعُوا إلى الله بما هو منهُ ويتقرَّبوا بذلكَ إليهِ، قسمَ بينَهُم ليكونَ برَكةً باقيةً بينَهُم وتَذْكِرَةً لهم. ثم تَبِعَ الصَّحابةَ فِى خُطَّتِهم فى التبرّكِ بآثارِهِ صلى الله عليه وسلم من أَسْعَدَهُ الله وتوارَدَ ذلكَ الخَلَفُ عن السَّلَفِ.

وأمَّا اقتِسامُ الأظْفارِ فأخرجَ الإمامُ أحمدُ فى مُسْنَدِه[٦] أنَّ النَّبى صلى الله عليه وسلم قلَّمَ أظفَارَهُ وقسَمَها بينَ النّاس ومعلومٌ أنَّ ذلكَ لم يكن ليأكُلَها الناسُ بل ليتبرَّكُوا بها.

أمّا جُبَّتُه صلى الله عليه وسلم فقد أخْرَجَ مسلمٌ فى الصّحيح[٧] عن مَوْلَى أسْماءَ بنتِ أبى بكرٍ قال أخرجَتْ إلينا جُبَّةً طيالِسَةً كِسْروانيّة لها لَبِنَةُ دِيْبَاج وفَرجَاهَا مكفُوفين[٨] وقالت هذهِ جُبَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانت عندَ عائشةَ فلمّا قُبِضَتْ قَبضتُها وكانَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم يلبَسُهَا فنحنُ نغسِلُها للمرضَى نَستَشْفِى بها اهـ وفى رواية[٩] نغسِلُها للمريض مِنّا اهـ

وعن حنظلَةَ بنِ حَذْيَم قالَ وَفَدْتُ معَ جَدّى حَذْيَم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ يا رسولَ الله إنَّ لى بنينَ ذوى لِحًى وغيرَهُم وهذا أصغرُهم فأدْنانى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَسَحَ رأسِى وقال باركَ الله فيكَ قال الذَّيَّالُ فلَقد رأيتُ حَنظلَةَ يُؤتَى بالرَّجلِ الوَارمِ وجهُهُ أو الشاةِ الوارمِ ضَرعُها فيقولُ بسمِ الله على مَوضعِ كفّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيمسَحُه فيذهبُ الورَمُ اهـ رواهُ الطبرانىُّ فى الأوسطِ والكبيرِ بنحوِه[١٠] وأحمد[١١] فى حديثٍ طويلٍ ورجالُ أحمدَ ثقات[١٢].

وعن ثابتٍ قالَ كنتُ إذا أتيتُ أنَسًا يُخبَرُ بمَكانى فأَدخلُ عليه فآخذُ بيدَيه فأقبِلُهما وأقولُ بأبى هاتانِ اليَدانِ اللَّتانِ مسَّتا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأُقَبّلُ عَينيه وأقولُ بأبى هاتانِ العَيْنانِ اللّتانِ رأتا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اهـ رواه أبو يَعْلَى ورجالُه رجالُ الصّحيح غيرُ عبد الله بن أبى بكر المَقدِمى وهو ثقة[١٣].

وعن داودَ بنِ أبى صالحٍ قالَ "أقْبَلَ مَروان[١٤] يومًا فوَجَد رَجُلًا واضِعًا وجْهَه على القبرِ فقالَ أتَدْرِى ما تَصْنَعُ فأقْبَلَ عليهِ فإذَا هو أبو أيّوب[١٥] فقال نعم جئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولم ءَاتِ الحَجَرَ سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لا تَبْكُوا على الدّيْنِ إذا ولِيَهُ أهْلُهُ ولكن ابكُوا عليهِ إذا ولِيَهُ غيرُ أَهْلِه[١٦]اهـ رواه أحمد[١٧] والطبرانى فى الكبيرِ والأوسط[١٨].

وروى البيهقىُّ فى دلائلِ النُّبوة[١٩] والحاكمُ فى مُستَدْرَكِه[٢٠] وغيرُهما بالإسنادِ أن خالدَ بنَ الوليدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً له يومَ اليَرْمُوكِ فقالَ اطلبُوها فَلَم يجِدُوها ثمَّ طلبُوها فوجَدُوها فقال خالدٌ اعتمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلَقَ رأسَهُ فابتَدَرَ الناسُ جوانِبَ شَعَرِهِ فسَبَقْتُهُم إلى نَاصيتِهِ فجعَلْتُها فى هذهِ القلَنسُوَةِ فلَمْ أشهدْ قِتالا وهى معى إلا رُزِقتُ النَّصْرَ. وهذه القصةُ صحيحة كما ذكرَ ذلك المحدث الشيخُ حبيبُ الرحمن الأعظمى فى تعليقهِ على المطالبِ العالية[٢١] فقال قال البوصيرىُّ[٢٢] رواه أبو يعلى بسندٍ صحيح[٢٣] وقال الهيثمِىُّ[٢٤] رواهُ الطبرانى وأبو يعلى بنحوهِ ورجالُهما رجالُ الصحيحِ" اهـ

فلا التفاتَ بعدَ هذا إلى دَعوَى مُنكرى التوسلِ والتبركِ بآثارِهِ الشريفةِ صلى الله عليه وسلم.

انتهَى كلام الشيخ عبد الله الهررِىّ.

وقد نظم الأديب الشيخ غانم بن عبد الرحمٰن الفوارىُّ ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فى التبرك فى أرجوزة سهلة شاعت ألسنة الكبار والصغار فقال

أبدَؤها بقَولِ بِسمِ اللهِ...تنَزَّهَ الرحمٰن عنْ أشْباهِ
وأحمَدُ الإلَهَ ذا الجَلالِ...لفضْلهِ بالهَدي والنَّوالِ
ثمَّ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَّا...على نبيٍ للفَلاحِ سَنَّا
طرِيقةَ التَّبَرُّكِ الميْمونَه...في ذاكَ أهلُ العِلمِ يتْبَعونَه
فَإنْ رَأيتُمْ مَنْ أتاكُم يدَّعي...بأنَّهُ غَيرَ الهُدى لم يتْبَعِ
وقَدْ أحَلَّ حُرمَةً ضَلالا...مِنْ جَهلِه أو حَرَّمَ الحلالا
قُولوا لهُ إذْ حَرَّمَ التبَرُّكا...بأثَرِ النَّبي زَادَ شَّركَا
إنَّ اقتِسام الشَّعرِ يا مُماري...رَواهُ مُسْلِمٌ كذا البُخَاري
وقِسمَةُ الأظْفارِ أيضاً تُسنَدُ...صَحِيحةً كَما رَواها أَحمَدُ
وجُبَّةُ النَّبيِ سَلْ أسْماء...أمَا رَأتْ في مائِها الشِفاء
هاكَ دليلاً مِنْ أبي أَيَّوبِ...يَمَسُّ بالخدِ ثَرى المحْبُوبِ  
أنعِمْ بهِ رَدًّا على مَنْ أنْكَرا...جِئْتُ رَسُولَ اللهِ ليسَ الحَجَرا
فَمُسلمٌ أُولاهُما رَواها...صَحيحَةَ الإسْنادِ عَنْ مَولاهَا
وأحمدٌ رَوى الحدِيثَ الثاني...رَدَّ الصَّحابيِّ على مَرْوَانِ
وخالِدٌ للجَيشِ في قَلَنسوَهْ...قالَ "اطلُبوا" سَبَبُ ذاكَ ما هُوَهْ
لأنَّ في الطَّيَّاتِ شَعْراتِ النَّبي...وذاكَ في اليرمُوكِ يَروي البيهَقي
ومَسْحُ أحمَدٍ لرأسِ حَنظَلَهْ...بكفّهِ ودَاعِياً بالخَيْرِ لَهْ
مَنْ جَاءهُ والوجْهُ مِنهُ وارِمُ...بمسْحَةٍ يَعُودُ وهْوَ سَالِمُ
بَرَكةُ النبيِ طابَ عَرفُهُ...مَوضِعُ كَفِّهِ فكَيفَ كَفُّهُ
الطبَرَانيُّ روَى وأحمَدُ...مُطَوَّلاً عَنِ الثِّقاتِ يُسنِدُ   
وثابِتٌ قَد كَرَّر التقْبيلا...يَداً وعَيْناً رَأتِ الرسُولا
وأنَسٌ عنْ مِثْلِ ذاكَ ما زَجَرْ...مُجَوِّزاً رَوى أبو يَعلى الأثرْ
يا إخْوَتي مِنْ فَضْلِه تبرَّكوا...تَمَسَّكوا بَهَدْيهِ لا تَتْرُكُوا
أجَازَهُ نبيُّنا المعَظَّمُ...ففَتِّشُوا عَنْ ذَيلِ مَنْ يُحرَّمُ
فإنَّه أخُو الجَهُولِ في الغَبا...وَمثْلَهُ يأبىَ الكريمُ يَصْحَبا
نَظمْتُها مُرشِدَةً عَزيزَهْ...أكرِمْ بِها في الخيرِ مَنْ أُرجُوزَهْ

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهررِى رحمه الله تعالى.

[٢] أخرجه البخارى فى صحيحه: كتاب الوضوء: باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان.

[٣] أخرجه مسلم فى صحيحه: كتاب الحج: باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي.

[٤] أخرجه مسلم فى صحيحه: كتاب الحج: باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي.

[٥] أخرجه مسلم فى صحيحه: كتاب الحج: باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي.

[٦] أخرجه الإمام أحمد فى مسنده (٤/٤٣).

[٧] صحيح مسلم" كتاب اللباس والزينة: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة غلى الرجال والنساء.

[٨] قال النووى فى شرح مسلم (١٤/٤٤): "كذا وقع فى جميع النسخ "وفرجيها مكفوفين" وهما منصوبان بفعل محذوف أى ورأيت فرجيها مكفوفين"، ووقع عند أحمد فى مسنده (٦/٣٤٨) لفظ: "وفرجاها مكفوفان".

[٩] رواه أحمد فى مسنده (٦/٣٤٧).

[١٠] المعجم الأوسط (٣/٢٦٩) والمعجم الكبير (٤/١٦). قال الهيثمى فى مجمع الزوائد (٤/٢١١): "رواه أحمد ورجاله ثقات".

[١١] رواه أحمد فى مسنده (٥/٦٧-٦٨).

[١٢] قاله الهيثمى فى مجمع الزوائد (٩/٤٠٨).

[١٣] قاله الحافظ الهيثمى فى المجمع (٩/٣٢٥).

[١٤] يعنى مروان بن الحكم وكان حاكمًا على المدينة من قبل معاوية، ولم ير رسول الله كما قال البخاري.

[١٥] واسمه خالد بن زيد.

[١٦] معناه أنت من غير أهله يا مروان، لست أهلاً لتولى الأمر.

[١٧] رواه أحمد فى مسنده (٥/٤٢٢)، قال الهيثمى فى مجمع الزوائد (٥/٢٤٥): "رواه أحمد والطبرانى فى الكبير والأوسط وفيه كثير من زيد وثقه أحمد وغيره وضعفه النسائى وغيره".

[١٨] المعجم الكبير (٤/١٨٩) والمعجم الأوسط (١/١٤٥).

[١٩] دلائل النبوة (٦/٢٤٩).

[٢٠] المستدرك (٣/٢٩٩) وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبى "منقطع".

[٢١] انظر الكتاب (٤/٩٠).

[٢٢] إتحاف الخيرة المهرة (٧/٢٧١).

[٢٣] مسند أبى يعلى (١٣/١٠٦).

[٢٤] مجمع الزوائد (٩/٣٤٩).